1 - أصدر الشاعر المغربي حسن نجمي روايته الثانية تحت عنوان جيرترود(1). وإذا انطلقنا من العنوان، سنفترض أننا أمام كاتب مغربي يكتب عن كاتبة أمريكية معروفة ومشهورة: جيرترود ستاين(1874 1946). وفي حدود العنوان دائما، قد نتساءل: كيف يكتب كاتب ما، اليوم، كاتبا آخر؟ لماذا يكتب كاتب ما، اليوم، كاتبا آخر؟ ما معنى أن يكتب اليوم كاتب من الشرق عن كاتبة من الغرب؟ إذا تجاوزنا العنوان إلى المحكي، سنفاجأ بأن جيرترود ليست بالضرورة الموضوع المركزي للسرد والكتابة، أو على الأقل ليست الموضوع الوحيد. هناك شخصية مركزية أخرى، حضورها أقوى في النص: محمد الطنجاوي. ومعنى هذا أن ما يكتب فعلا هي بيوغرافيا محمد الطنجاوي، وبالضبط ذلك الجانب من حياته الذي يكشف علاقته بالكاتبة الأمريكية. لكن هل شخصية محمد الطنجاوي حقيقية ومعروفة كما هو الشأن بالنسبة إلى الشخصية الأولى: جيرترود؟ يبدو أنه حتى إذا سلمنا بأن محمد مذكور في سيرة جيرترود الذاتية، وبأن الوثائق والمسودات والصور التي يستشهد بها السارد حقيقية، فإن ما هو واضح أن هذه الشخصية قد خضعت للصوغ التخييلي، وخضعت حياته للتحليل والتأويل وإعادة البناء. كأنما الأهم ليس هو بالضبط علاقة محمد الطنجاوي والكاتبة الأمريكية الحقيقيين، بل الأهم هو أن تكون الرواية، على الأقل، في انسجام مع أحد أكبر انشغالات عصرنا، في الشرق كما في الغرب: مسألة الآخر. والسؤال هنا: كيف يكتب الكاتب اليوم مسألة الأنا والآخر التي كانت دوما حاضرة في الرواية العربية منذ بداياتها الأولى، كأنما الرواية لم تظهر عند العرب إلا بعد ظهور مسألة الآخر؟ وإذا استحضرنا السارد، فإن الأمر يزداد لبسا وتعقيدا. السارد هنا هو هذا الذي حمّله محمد الطنجاوي وصيته: أن يكتب له الكتاب الذي لم ينجح في كتابته: علاقته بجيرترود. والسارد / الكاتب قد خضع، هو الآخر، للصوغ التخييلي. وهذا الصوغ التخييلي هو الذي يحول الروابط التي تربط بين السارد / الكاتب من جهة، وبين موضوع السرد(محمد / جيرترود) إلى روابط مبهمة ومعقدة، خاصة وأن السارد يعمد إلى سرد بيوغرافيته أيضا، بل وعلاقته هو الآخر بامرأة أمريكية أخرى اسمها ليديا. وهذا كله يدفعنا إلى أن نفترض أن السارد / الكاتب لا يسعى إلى سرد أحداث حياة كاتب مغربي في علاقته بكاتبة أمريكية كما وقعت بالفعل، بل إن السارد / الكاتب يعمل، بواسطة الكتابة، على إحداث وجه للأنا / للآخر كما أعادت التفكير فيه ذاتية السارد / الكاتب البيوغرافي. ومن هنا السؤال: أتحاول الذات (الساردة / الكاتبة) إعادة اكتشاف ذاتها من خلال حكاية محمد / جيرترود؟ وبعبارة أخرى، أيتعلق الأمر بتخييل بيوغرافي موضوعه محمد / جرترود أم بتخييل أوتوبيوغرافي موضوعه هو حسن / ليديا؟ في الأحوال كلها، أزعم أن هذه الرواية تنتمي إلى ما يسمى اليوم في الدراسات النقدية المعاصرة ب « التخييل البيوغرافي « الذي يمكن أن نعدّه من أهم روافد الرواية المغربية / العربية المعاصرة. فبعد الروايات التاريخية والواقعية في الستينيات والسبعينيات، نجد التخييلات البيوغرافية اليوم تبحث عن طريق للدخول إلى فضاء معرفة لطيف ودقيق في التجربة الفردية الحميمية، وبواسطة محكي شعري مدهش. وبعد الروايات التجريبية التي تريد أن تكون من صنع خيال خالص، نجد التخييلات البيوغرافية تسعى إلى أن تكون محكيات بحث واستكشاف، فتتأسس تخييلاتها على معطيات هي مؤكدة وغير مؤكدة، هي تامة وغير تامة، تستدعي التحليل والتأويل وإعادة البناء. وانطلاقا من رواية جيرترود، يمكن أن نتساءل عن خصائص التخييل البيوغرافي كما تتأسس في الرواية المغربية المعاصرة. وهذا مبحث مهم، ولا يمكننا في هذا المقام إلا أن نسجل بعض الملاحظات وأن نطرح بعض الأسئلة وأن نتقدم ببعض الفرضيات. 2 من أهم خصائص التخييلات البيوغرافية خاصية يصطلح النقاد المعاصرون على تسميتها ب : تحويل المعيش Transposition du vécu(2). والتحويل هنا بمعنى بناء معيش بديل أو ممكن، بحيث يتعامل الكاتب البيوغرافي مع المادة الوثائقية التاريخية بطريقة لعبية بقصد سدّ الثقوب والثغرات أو استكشاف سبل جديدة. ومن هذه السبل مثلا تعديل صورة الكاتب الكاتب موضوع السرد والكتابة تلك الصورة المعروفة عنه من قبل. وهكذا، ففي رواية جيرترود، نجد السارد / الكاتب يعيد بناء معيش بديل، إن للكاتب محمد الطنجاوي، وان للكاتبة جيرترود ستاين. فمحمد الطنجاوي « كان ينظر إليه كشخص لم يعرف كيف يعيش. بالنسبة إليهم، كان جبليا أخطأ طريقه إلى الحياة، وقد انحدر من جبل العلم إلى طنجة ليرمم حياة مهترئة ضائعة بحياة أخرى زائفة لم يعشها» (ص 50). ومعنى هذا أن الكثيرين من أصدقاء محمد الطنجاوي، ومنهم السارد / الكاتب، لم يكونوا يصدقون ما يحكيه محمد عن تجربته بباريس وعن علاقته بكاتبة أمريكية مشهورة، وعن تعرفه الى ماتيس وبيكاسو وأبولينير وبيير ريفيردي وأناييس نن. وكانت مهمة السارد / الكاتب، بعد أن حصل على ما يكفي من الوثائق والمذكرات والصور والشذرات، أن يكشف أن تلك الحياة التي عاشها محمد إلى جنب الكاتبة الأمريكية لم تكن زائفة ولا من صنع خياله، بل كانت حياة حقيقية. وهو الشيء الذي فرض على السارد أن يعيد بناء معيش محمد وحياته، بالشكل الذي يقدم عنه صورة غير الصورة السائدة من قبل، لديه كما لدى الآخرين. والشيء نفسه، يمكن أن نقوله عن الكاتبة الأمريكية. لاشك أن هناك صورة سائدة عن كاتبة أمريكية لها حضورها الأدبي والفني القوي في بدايات القرن الماضي، وخاصة أثناء استقرارها بباريس، كباقي الكتّاب الأمريكيين ممن سمتهم هي نفسها ب « الجيل الضائع «. فهي رائدة التحديث، وهي صاحبة مؤلفات أدبية وفنية، هي التي خصها بيكاسو بلوحة / بورتريه، هي المعروفة بعلاقتها الجنسية المثلية مع صديقتها أليس طوكلاس. لكن مهمة السارد / الكاتب في رواية جيرترود هي إعادة بناء أو ابتكار صورة أخرى للكاتبة، وخاصة علاقتها العاطفية والجنسية مع محمد المغربي الطنجاوي. هذه العلاقة غير المعروفة والتي تؤدي إلى تعديل الصورة السائدة عن الكاتبة. وهذا ما كان ربما محطّ جدال بين السارد وصديقته الأمريكية ليديا التي أوصته بأن يصون « لجيرترود هيبتها في الكتاب»(ص 225). وفي المجمل، ينبغي لنا أن نسجل أن السارد / الكاتب قد يكون انطلق من أسطر قليلة جاءت في كتاب جيرترود ستاين: « أوتوبيوغرافية أليس طوكلاس». وهي الأسطر التي تتصدر رواية حسن نجمي(ص 11 12). وهو ما يعني أن الكاتب ينطلق من مادة بيوغرافية « حقيقية «، ومن كاتبة موجودة حقيقة. وهو ما يعني أيضا أن الكاتب قد اختار فترة من حياة الكاتبة قد تكون ثانوية، فجيرترود لم تخصص صفحات كثيرة للحديث عن محمد. لكن السارد / الكاتب اختار أن تكون هذه الجزئية(علاقة محمد / جيرترود)، وهذه الفترة الثانوية(التي قضتها جيرترود مع محمد) لتكون المبدأ المنظم للسرد والكتابة، من أجل أن يدرك المعيش أو الحياة كمادة بيوغرافية بتشييد روائي، بالشكل الذي يسمح بابتكار معيش ممكن أو حياة ممكنة قد يكون عاشها الاثنان: محمد / جيرترود. 3 ومن أهم الأشياء التي يفرضها تحويل المعيش، بهذا المعنى، ممارسة التأويل والافتراض. صحيح أن السارد / الكاتب ينطلق من «أوتوبيوغرافية «جيرترود ستاين، لكن ما قالته جيرترود عن علاقتها بمحمد كان قليلا جدا، وهو ما دفع السارد / الكاتب إلى افتراض باقي التفاصيل. وصحيح كذلك أن السارد / الكاتب ينطلق من وثائق ومذكرات وشذرات محمد الطنجاوي التي وان افترضنا أنها مبتكرة مفترضة هي الأخرى، فإنها جاءت ناقصة غير كافية. وهذا كله فرض على السارد / الكاتب أن يسدّ الثغرات وأن يملأ الثقوب، وأن يعيد الكتابة، وذلك ما فرض على السارد / الكاتب أن يستعين بأدوات عدة، منها أن يمارس التخيل والابتكار، كما تدل على ذلك عباراته: «يسرّني الظن بكون محمد وصل إلى باريس في جو ربيعي جميل. والواقع أنه لم يحدثني أبدا عن طبيعة المناخ الذي وصل فيه إلى شقة جيرترود.»(87). «يمكنني أيضا أن أخمّن ذلك السؤال الحارق الذي كان يحفر فيه عميقا...» (ص 146). «ينبغي أن أتخيّل كراو تلك اللحظة ...»(ص 281). ومنها أن يمارس الافتراض والتأويل، وفي النص العديد من العبارات التي تؤكد هذه الممارسة: « وكتأويل أو انطباع سريع من جانبي، يمكنني أن أفهم من هذه الجملة الخاطفة أنه ...»(ص145) « أفترض الآن ...» (ص 243). وبممارسة التخيّل والافتراض والتأويل وإعادة الكتابة يأتي هذا الشكل من السرد ملتبسا ومعقدا، أولا لأنه يشكل ملتقى يتقاطع فيه الخيال والواقع، الأدب والتاريخ، وثانيا لأن هذه الممارسة تكشف أن الهدف ليس هو سرد تاريخي وقائعي لحياة كاتب وكاتبة كما وقعت فعلا، بل الهدف إخراج تخييلي لهذه الحياة بالشكل الذي يجعل التخييل مغلفا بذاتية السارد / الكاتب نفسه، الذي وان حاول أن يكون موضوعيا من خلال ممارسة البحث والتنقيب والنقاش مع الآخرين(خاصة مع الدبلوماسية الأمريكية ليديا صديقته)، فانه لا يخفي التماهي الواقع بينه وبين محمد الطنجاوي، ولا يخفي أنه لم يعد يميز بين ليديا صديقته الأمريكية وجيرترود صديقة محمد الأمريكية، ولا يخفي أن ما يريده منه محمد في وصيته هو أن ينتصر له، إن لم نقل أن ينتقم له من امرأة أحبّها وتخلّت عنه. 4 واللافت للنظر، في إطار ممارسة التأويل، هو أن السارد / الكاتب لا يكتفي بسرد وقائع حياة، بل انه يستحضر المعطيات، ويطرح أسئلته مثلما يستحضر أسئلة الآخرين، يفترض ويناقش ويؤول، ويقدم من المعطيات ما يسمح للنص بأن يبقى مفتوحا على التأويل. وفي هذا الإطار، يمكن أن أزعم وجود حضور قوي للتحليل النفسي في خطاب السارد / الكاتب، خاصة وأن الأمر يتعلق بعلاقة عاطفية وجنسية بين رجل من الشرق وامرأة من الغرب، بل إنها العلاقة التي تركت جروحا عميقة في نفسية رجل من مثل محمد الطنجاوي. أو لنقل، على الأقل، إن السارد / الكاتب يوفر ما أمكن من المعطيات التي تسمح بممارسة التحليل النفسي. وهو في افتراضنا تحليل نفسي مفتوح ومنفتح، لا يحسم ولا يجزم، بل يستحضر مختلف الفرضيات الممكنة، وفي كلام السارد ما يوضح هذا المنحى، ولنتأمل مثلا كيف يقترب من حالة محمد: «إننا نحاول أن نقترب من الحالة التي قد تكون تلبّست محمد حين قرر المغادرة، لكننا لا نستطيع أن نجزم. ففي مثل هذه الحالات، قد لا يعرف المعنيّ نفسه السبب العميق لاتخاذ قرار يغيّر المسار والمصير»(ص 75). ومع ذلك، فالسارد يطرح فرضيات عديدة للإجابة عن سؤال شغله كما شغل الآخرين(ليديا مثلا): ما الذي جعل محمد ينشدّ إلى امرأة مسترجلة لا تتمتع بأيّ جمال؟ ما الذي جعل محمد، حتى بعد أن تخلت عنه جيرترود، يقضي بقية عمره متعلقا بتلك الفترة من ماضيه: فترة شبابه وتعلقه بكاتبة أمريكية؟ ما الذي قد يكون دفع شخصا اشتغل في قصر السلطان ثم ترجمانا في دار النائب السلطاني « إلى أن يتخلى عن نفسه هكذا ويلقي بها في المجهول»(ص 74)؟ يقدم السارد / الكاتب من المعطيات ما يسمح ببناء فرضيات يمكن اختزالها في فرضية كبرى: الرغبة في الانتساب العائلي. محمد يتيم الأبوين: «والده مات في حركة سلطانية جنوب المغرب ... أمه .. ماتت وهي تحاول أن تلد ابنها، ثم وهي تلده. وكبر محمد بدون أن يرى وجه أمه»(ص 165). فهل نقول إن ما كان يشدّ محمد إلى جيرترود هو أنه رأى فيها وجه أمه؟ في الرواية ما يكفي من الأدلة على أن جيرترود كانت تمثل صورة الأم: ففي أوراقه، يصفها محمد بأنها « جسد كبير «، وهي بنهديها تبدو « وكأنها ستقودك في ظلام الحجرة عائدة بك إلى سنّ الرضاعة، والى رائحة حليبك الأول البعيد البعيد»(ص 150). وهو، محمد، كان يبدو «كطفل على صدرها»(ص152)،» ... سهل الانقياد بمجرد أن تمتعه بغمزة عين أو تدسّ أصابعها في شعر رأسه وكأنها أصابع أمّ أو أخت كبيرة»(ص248)، وكان يعترف للسارد « بأن ما كان يستثيره فيها لم يكن في وجهها، بل في مكان آخر من جسدها الباذخ، في امتلاء الصدر، وفي كونها ذات وفرة»(ص249). وما قد يؤكد هذه الفرضية أكثر أن جيرترود نفسها كانت تصفه ب « المغربي الصغير»(ص255). لكن السارد يسمح لنا بأن لا نستكين إلى هكذا فرضية، فالأمر أعقد مما نتصور، ونفسية الإنسان لا يمكن اختزالها في عبارات ضيقة جامدة. ذلك لأنه بالإمكان أن نؤسس فرضيات أخرى، أو على الأقل أن نطور الفرضية السابقة، فنستحضر مثلا أن جيرترود كانت امرأة مسترجلة، وهو ما قد يدفع إلى السؤال: أكانت جيرترود، المرأة المسترجلة، تمثل الأم والأب معا بالنسبة إلى محمد؟ أم أن وجوده في بيت جيرترود ك « رجل حقيقي «، على حدّ تعبير هذه الكاتبة نفسها، كان يشبع رغبته في الانتساب إلى عائلة؟ وماذا لو استحضرنا العلاقة بين جيرترود وأليس(جيرترود تعتبر أليس زوجتها، أي أنها هي الزوج)، هل نقول إن محمد هو طفلهما: يقول محمد «لو بقيت الآنستان على هذه الحال، ستنجبان في يوم ما طفلا» (ص147)، فهل محمد هو الطفل الذي أنجبتاه أو تبنيتاه؟ ومع ذلك، فالمعطيات والتحليلات التي يوفرها السارد / الكاتب لا تريد أن نستقر على تأويل واحد ووحيد. إذ يمكننا السؤال مثلا: لماذا تخلى محمد عن بختة ابنة عمه التي كان سيتزوجها، ألم يكن بالإمكان أن يبني معها عائلة، وأن يشبع رغبته الدفينة؟ الواقع أنه بقي دائما شيء من بختة في نفسه حتى وهو بباريس إلى جنب من أحبها. فهل نفترض أن محمدا كان يبحث عن استبدال عائلته الأصلية بالشرق بعائلة أخرى، بالغرب، أكثر سموا ونبلا: يقول محمد لجيرترود: « والحقيقة أنك أنت من رفعني إلى السماء»(ص86)؟ أم أن روح محمد هي من هذا النوع الذي لا يحب الاستقرار، ولا يحب الانتماء إلى عائلة قارة مقيدة بالعديد من التقاليد والعادات، وربما هذا ما يفسر انشداده الآخر إلى عالم الغجر؟ أليس قدر محمد أن يقضي حياته بحثا عن انتساب عائلي بعد أن حرم منه صغيرا: من عالمه المهني والاجتماعي بطنجة، إلى عالم جيرترود العائلي بباريس، مرورا بعالم الغجر بضاحية باريس، ووصولا إلى عالمه العائلي بطنجة وسط حلقة الكتّاب الجدد؟ ألم يكن محمد من هذا النوع المحكوم عليه بأن يظل يتيما من دون عائلة؟ ألم يكن هذا ما يفسر رغبته في أن يكون غجريا، أن ينتمي إلى عالم لا تطرح فيه مسألة الهوية العائلية قطّ؟ وقد لا يتعلق الأمر بالرغبة في الانتساب إلى عائلة بالمعنى الحقيقي للعبارة، بل بالرغبة إلى الانتساب إلى عائلة بالمعنى الرمزي: عائلة الأدباء والفنانين. فمحمد تلقى تعليمه بالخارج، وكان « في شبابه طموحا لم يستطع أن يخترق القوقعة المنغلقة. كانت البلاد قد صارت رثة، وقد اضطر مع العائدين من الخارج للانحناء أمام العاصفة الهوجاء لأولئك الفقهاء الذين كانوا بلا عمق وبلا موهبة... وأخفق في أن يحرك السواكن أو يرمي بحجر، ولو كان صغيرا، في البركة الآسنة. وحين خاف أن يدفن روحه حيّا، تسلل في صباح مبكر شاحب الضوء .. وغادر»(ص111). هناك من الأدلة ما يكفي لقبول هذه الفرضية، ويكفي أن نستحضر ما دونه محمد في بعض شذراته بعد حضوره حفل أقامته جيرترود في صالونها، وحضره كبار كتاب وفناني القرن السابق في عقوده الأولى: « لكنهم جميعا هنا ... كل صناع الجمال والإبداع والفكر فيها حاضرون الليلة هنا ... تعجبني نفسي في الحقيقة لأنني حاضر أنا أيضا هنا. عليّ أن أحترم نفسي لأنني هنا، ولأنني جدير بذلك..»(ص 186). وينبغي لنا أن نسجل أن التحليل النفسي لم يكن مقتصرا على شخصية محمد، بل انه شمل شخصيات أخرى، منها أساسا جيرترود، كما لم ينس السارد / الكاتب نفسه، فمارس نوعا من التحليل النفسي الذاتي. وهكذا، يمكن أن نقول إن السارد يسمح لنا بأن نبني فرضيات حول شخصية جيرترود: شخصية أنانية استحواذية، كانت في صغرها « تتصرف كطفل يرفض أن يكون طفلة»(ص93)، وصارت في كبرها امرأة مسترجلة لها ميول جنسية إلى مثيلاتها من النساء، ولكنها تبقى منقسمة بين « ... حالة الامتلاء والإحساس بتحقق نوع من الاكتفاء الذاتي، ثم ... ذلك الارتجاف الغامض الذي يهزها فتبدو كما لو أنها امرأة نضبت مشاعرها، ولابد لها من رجل ... حالة الإحساس بالنقص وعدم التوافق، حالة الجسد الذي يتضخم وينتفخ على خواء في الداخل»(ص147). أما التحليل النفسي الذي يمارسه السارد / الكاتب على ذاته، وخاصة في علاقتها بمحمد الطنجاوي، فيمكن أن نستحضر بعض المعطيات التي تتضمن فرضيات: اسم السارد حسن، شاعر من حلقة الكتّاب الجدد، بعد طرده من التعليم في طنجة، جاء إلى الرباط ليشتغل بالصحافة. في طنجة، كان محمد الطنجاوي يمارس عليه تأثيرا خاصا: « وينبغي أن نعترف نحن حلقة الكتاب الجدد، على الأقل أنا شخصيا، أنه سكننا جميعا، تلبسّ بنا»(ص37). ويمكن أن نفترض أن محمد كان يمثل نوعا من الأب الرمزي بالنسبة إلى السارد / الكاتب: « لكم أحببت هذا الشيخ العميق»(ص49)، « ويستحق الدمع الذي يستحقه أب»(ص18). يمكن أن نتساءل مثلا: لماذا قرر حسن أن يكتب كتاب محمد بعد أن نسي أمره زمنا طويلا؟ ألأن محمدا مات وأبعد حسن من التدريس وغادر طنجة؟ أكان لمدينة الرباط المنغلقة المسمومة، نقيض طنجة المنفتحة والمفتوحة، دخل في اتخاذ قرار الكتابة؟ الفراش الزوجية البارد، كما وصفه السارد، دور في لجوء السارد بالكتابة؟ ألم يقرر السارد أن يقرأ أوراق محمد وأن يشرع في الكتابة بعد أن عاد يرفض أن يأوي إلى « هذا الفراش وكأنني أقتسم قبرا مع ميت»(ص 47)؟ أليست الكتابة هنا بحثا عن بديل لحياة القنوط والملل والموت؟ أليست الكتابة بحثا عن طنجة، عن الجمال، عن الحب، عن الحياة؟ في الأحوال كلها، يمكن أن نقول إن الروائي المعاصر، بواسطة التخييل البيوغرافي، وأساسا من خلال التأويل والتحليل، لا يسعى إلى أن يعلن وفاءه لكاتب ما فحسب، بل انه يحاول أن يمارس نوعا من النقد للكاتب السابق(الأب الرمزي) في علاقته بالآخر، وهو النقد الذي فرض تقديم بديل لهذه العلاقة: فإذا كانت علاقة محمد بجيرترود يغلب عليها الخضوع والاستسلام والإذلال، فإن علاقة السارد بليديا تحاول أن تتأسس على نوع من التوازن والتعادل واحترام الذات. ومع ذلك، فالكاتب / السارد لا يستثني نفسه أبدا من النقد سواء في علاقته بمحمد(رمز الذات)، أو في علاقته بليديا / جيرترود(رمز الآخر)، بشكل تبدو معه روابط السارد / الكاتب وعلاقاته مبهمة ومعقدة: هناك نوع من الاحترام نحو أب رمزي مثالي(محمد الطنجاوي)، وبالقدر نفسه هناك نوع من الثورة على هذا الأب، وذلك برفض قبوله بالخضوع والإذلال والاهانة. وبالمقابل، هناك احترام نحو أمّ رمزية(جيرترود) كما نحو امرأة هي موضوع الحب(ليديا)، وبالقدر نفسه، هناك ثورة عليهما معا عندما تنزعان إلى الهيمنة والاستحواذ. 5 يبقى أن نسجل أخيرا أن التخييل البيوغرافي، كما يتأسس في رواية جيرترود للشاعر حسن نجمي، يمارس نوعا من الباروديا، أي من المحاكاة الساخرة من جنس البيوغرافيا التقليدية. وهو ما يسمح بالحديث عن تحويل في الجنس أيضا. فقد كانت البيوغرافيات التاريخية الوثائقية خاضعة لمنطق وضعي يتوهم أنه بالإمكان بناء حقيقة علمية حول الأفراد، والمشاهير منهم خاصة، فجاء التخييل البيوغرافي بمنطق جديد يظهر النقائص والثقوب، ويفضح عيوب تلك البيوغرافيات واضطراباتها، فمسألة الفرد، بشخصه وحميميته ونفسيته وممارساتها وأفعاله، مسألة لا يمكن أن نبني حولها إلا فرضيات وتأويلات، ولا يمكن للكاتب البيوغرافي إلا أن يخلط بين الحقيقي والتخييلي واللعبي. وبعبارة أخرى، يتأسس التخييل البيوغرافي على منطق مغاير يكشف حدود الحقيقة ونسبيتها، ولذلك فهو يعدد الأصوات، بما يسمح بأن نسمع صوت السارد حسن وصوت محمد وصوت جيرترود وليديا ... مثلما يعدد من شكل النص وهويته، بالشكل الذي يسمح لنا بأن نقول مع باسكال كنيارد بأن الرواية هي « آخر الأجناس كلها «(3) من بيوغرافيا وأوتوبيوغرافيا، من مذكرات ويوميات وشذرات، من محكي واقعي ومحكي شعري ... وبعبارة واحدة، نقول إن التخييل البيوغرافي، في هذه الرواية، يدفعنا إلى أن نعيد التفكير العميق في مكونات الكتابة البيوغرافية، ذلك لأن الأمر لم يعد يتعلق ببناء صورة وفية لحياة الكاتب كما وقعت فعلا، فوجه الكاتب، موضوع السرد والكتابة، لا يمكن إلا أن يخضع للعب والتخييل. وعلاقة كاتب بكاتب آخر، وعلاقة رجل بامرأة، وبالتالي علاقة الذات بالآخر، لا يمكن أن نكتبها إلا من خلال مشروع افتراض وتأويل، ولا يمكن إلا أن تخضع باستمرار للتحليل والتأويل. والسيادة في النهاية لا تعود إلى صلابة المادة البيوغرافية الوثائقية وصحتها، بل السيادة والأولوية للكتابة، وهذا ما يفسر تفوق الكتابة شعرية الكتابة على المادة المرجعية في هذه الرواية الرائعة. المراجع: 1 حسن نجمي: رواية جيرترود، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط. 1، 2011. 2- Robert Dion et Frances Fortier, Ecrire léecrivain, Formes contemporaines de la vie d?auteur, Presses de l?université de Montreal, Montreal, 2010. 3- Nathalie Piégay, Le roman, Flammarion, Paris, 2005.