طيلة عقود من عمر الإدارة العامة للسّجون تمتع مدراء المؤسسات العقابية بسلطات واسعة في مجال التدبير الإداري والماليّ والتحكم في شؤون المعتقلين والموظفين، بل امتدّت صلاحية المُدَراء إلى تحريك المتابَعة القضائية في حقّ المخالفين أو إعمال سلطة العفو غير المنصوص عليها قانونا. كما أنّ ثقافة حقوق الإنسان لم تهُبّ نسائمها على المؤسسات إلا في أواخر التسعينيات، وقتها فحسب أصبح المجتمع المدنيّ يعي ما يعتمل داخل عالم كان في حكم المجهول. عدم ربط المسؤولية بالمحاسبة وغياب معايير واضحة لإسناد تدبير شؤون المؤسسات، حيث كانت بعض اللوبيات هي التي تتحكم في حركة الانتقالات وإسناد المسؤولية، مما أدى إلى انزلاقات دفعت القضاء إلى التدخل -ولو في حالات محدودة- حيث سبق أن اعتقل مدير سجن «اغْبيلة» في الرباط لاقترافه أثناء أداء مهامّه أفعالا تم تكييفها على أساس أنها جُرم يوجب المساءلة القانونية والمتابعة القضائية، تلتها واقعة مدير سجن لعلو في الرباط، الذي «سهّل» فرار معتقلين أجانب وحاول إلقاء المسؤولية على موظفي طاقم الحراسة الليلية، إلا أنّ الأبحاث الأمنية كشفت كيف أنّ مدير السجن ونائبه وقعا في غرام عشيقة أحد المعتقلين الأجانب، حيث كانت تتردّد بانتظام على مكتب المدير لإجراء «الزيارة».. كان قلب المسؤولين يرقصان طربا كلما هلّ هلال الوافدة الحسناء.. نجحت الزائرة الفاتنة في «إغواء» مدير المؤسسة، تدللت وتغنّجت إلى حدّ أنها ساومت ما بين جسدها والمساعدة في تهريب حبيبها من السجن.. فلم يتردّد -تحت وطأة العشق- في القبول. كانت المكافأة ليلة ساخنة ماجنة في أحد الفنادق، قضاها المدير بين ذراعي «الزّائرة»، وفق ما خلصت إليه التحقيقات القضائية وما كشفه سِجلّ نزلاء وحدة فندقية دونت فيه البيانات الخاصة بالمدير والعشيقة، الشيء الذي قاد مسؤول المؤسسة ونائبه إلى القضاء، بعد وضعهما رهن تدابير الاعتقال الاحتياطي، حيث صدر حكم بالسّجن النافذ في حق المدير. خلال العقد الأول من الألفية الثالثة صادفت دورية للشرطة القضائية الولائية في سطات شخصا في حالة سكر طافح قرب المنطقة الجامعية كان مرفوقا ببائعة هوى يحتسيان الجعة على نغمات موسيقى صاخبة كسرت هدوء المكان.. تقدّمت العناصر الأمنية من الشخص طالبة الكشف عن هويته، لكنه أبى وانهال على الأمنيين بوابل من السّباب والشتائم المرفوق بالوعيد والتهديد، ملوحا بصفته كموظف في إدارة السجون. جرى ربط الاتصال بوكيل الملك في النيابة المداوم حينها، حيث أمر بوضع المعنيّ رهن تدابير الحراسة النظرية في انتظار عرضه على النيابة العامة. تم تصفيد الموظف ونقله على متن سيارة المصلحة صوب ولاية الأمن، حيث أودع زنزانة الاحتياطيين في الطابق تحت الأرضي. دهش المعتقلون الاحتياطيون، فملامح الوافد الجديد لم تكن غريبة.. تبادل المعتقلون عبارات الاستغراب، وبعد 24 ساعة، استعاد الموقوف وعيه وانتابته موجة غضب فأحدث جلبة استدعيّ إثرها الضابط المداوم، حيث خاطب المعتقل قائلا: -لماذا أنا هنا؟ -كاع ما عْرفتي علاشْ انت هنا.. راه لقيناك سْكران ومْحيّح في الشّارع العامّ. أنت مُتابَع بالسّكر العلني الطافح وإهانة الضابطة القضائية.. -لكنْ ألا تعرفون من أكون.. -وشْكون أنت بْالسّلامة؟ -أنا مدير سجن علي مومن! عقدت الدهشة لسان الضابط، فربط الاتصال بممثل النيابة العامة، حيث صدرت التعليمات بالإسراع بعملية التقديم في مسعى إلى لملمة القضية، لكنّ صدى الاعتقال كواقعة غير مسبوقة انتقل من السلطة الإقليمية إلى مصالح الإدارة العامة، حيث تقرّر إعفاء المدير من مهامّه وإلحاقه بالإدارة المركزية بدون مهمة، قبل أن يعاد إلى دائرة المسؤولية كمدير لسجن الصويرة ثم سجن آسفي... كان النقص الملحوظ في الموارد البشرية يدفع الإدارة العامة إلى إعادة المخالفين إلى واجهة المسؤولية بعد فترة عقاب في «كاراج» الإدارة العامة حتى عندما أبرمت الإدارة المركزية اتفاقية شراكة مع كلية علوم التربية في الرباط من أجل تكوين مدراء وفق مناهج تربوية حديثة.. لم يسهم هذا الإجراء في سد الخصاص، فمن أصل ثلاثة مدراء استفادوا من التكوين على مستوى سجن «بولمهارو» في مراكش: دخل أحدهم السّجن لتورّطه في الاتجار في المخدرات، وأعفيّ الثاني من المسؤولية بعد سنة من تدبير شؤون إنزكان، فيما عُرض الثالث على المجلس التأديبيّ بعد كرائه أراضيّ تابعة للسجن الفلاحي في تارودانت لمجموعة من الفلاحين من أجل الرّعي.. مع إحداث المندوبية العامة، ربط بنهاشم المسؤولية بالمحاسبة ولم يتردّد في إحالة ملف مدير سجن زايو على القضاء لتورّطه في تسهيل هروب أحد أباطرة المخدرات، حيث أدين ب4 سنوات، وجرّ معه مدير سجن الناظور، كما حاول توريط العديد من مفتشي الإدارة العامة للسجون.. ولعلّ إحالة ملف مدير سجن سيدي موسى في الجديدة خلال السنة الجارية على القضاء، بتهمة تمكين سجين من مغادرة المؤسسة قبل استكمال عقوبته بسبب خطأ، دليلٌ على أنّ عهد اللاعقاب بالنسبة إلى مدراء السجون قد ولى إلى غير رجعة..