نادرة جدا في المغرب هي الندوات التي اتخذت من الحب محورا رئيسا ومباشرا. أكيد أن هذا المحور حظي بمقاربات عديدة، متباينة الرصانة والعمق، على مستوى التتبع النقدي أو اللقاءات التقديمية والأمسيات الاحتفائية المهداة لبعض الأعمال الإبداعية، سيما الروائية منها، التي برز فيها الحب، ورديفته الرغبة، كقطب محرّك لفضائها، من قبيل اللقاء التقديمي الذي تمّ قبل بضعة أشهر بمناسبة صدور رواية «العلاقة» للكاتبة والمحللة النفسانية غيثة الخياط. لكن على مستوى الندوات، وفي حدود علمي، يبقى أبرز ملتقى تقاطعت أشغاله وانشغالاته، وإن من منظور أكثر اتساعا، مع بعض الجوانب البحثية لهذه الندوة، هو الملتقى الدولي حول «جسد الآخر وصورته» الذي استضافته مراكش في فبراير 1989 بشراكة بين جامعة القاضي عياض وجامعة غرونوبل والمركز الثقافي الفرنسي، والذي تعقَّبت والتقطت مداخلاته ومناقشاته صورة الآخر وجسده في الرواية والشعر والفكر الديني والفنون التشكيلية والمشهدية والصورة الفوتوغرافية. أذكرُ هذا الملتقى لأن السؤال الذي طرحه عليّ آنئذٍ أملاه نفس الاختبار الغرامي الحدودي الذي لا ينفك يختبر الكتابة ويمتحن مرجعيتها ورهانها معاً. وأذكره أيضاً لأنني عندما دُعيت للمشاركة فيه، فكّرت في البداية في تقديم مداخلة نظرية حول جسد الحبيب كوسيط روحاني، وكتبتُ فعلاً جزءاً منها، إلى أن أحسستُ بأن ما أبتغي قوله يتملّص ويستنكف من برودة المقاربة البرّانية الحيادية ويجنح إلى مشبوبية الشهادة الباطنية، فانتهى بي الأمر إلى قراءة نص آخر استضأتُ فيه بالفكر والشعر معاً للدنو من أقاليم المحبوب والتقاط إشاراته. لماذا هذه العتبة الاسترجاعية؟ لأن الحب، بالنسبة للروائي والشاعر معاً، ليس موضوعا بحثياً. هو موضوعٌ فاتنٌ ومُغرٍ للقراءات النقدية والتحليلية التي تسعى، كلٌّ منها حسب مرتكزاتها المرجعية وأجهزتها الرصدية، إلى استجلاء وتفكيك البنيات الظاهرة أو المستترة للعلاقة أو العلائق الغرامية الفاعلة في مسار الحكي ومصيره، وسَبرِ الإبدالات الدلالية والترميزية وتعالقاتها مع شبكات الواقع وسجلات الذاكرة الفردية أو الجماعية، ونسق المعتقدات، مع التقاط التفاصيل والجزئيات المسهمة في احتدام السرد أو في انكساره وفي إنتاج ذلك الفرق الجوهري العميق، المسمّى رؤية شخصية، الذي يمثّل قوَّة الحسم في الابتكار النَّصِّي، حتّى عندما يتصدّى هذا النص للحُبّ كأرض رمزية مطروقة منذ الملاحم القديمة، وأرضٍ مراقبة حاليا من طرف الأجهزة والأنساق الحارسة، ومقصوفة باستمرار بمختلف آليات الابتذال المعبأة والموجهة من طرف هذه الأنساق لتنميط الأجساد وتسطيحها وتبليد المشاعر وتجفيفها، مما يجعل الحُبَّ، سواء كان مكتوباً أو معاشاً، أحد أكثر المجالات الاختبارية التي يمكن من داخلها بناء السلطة الكابحة أو المضادة (contre-pouvoir) للأجهزة الكبرى المترصّدة، لأن المتحَابَّين يلعبان من خلاله بما يلعب بهما، ويعلّقان فيما بينهما مفعول القانون المخترق للنسيج الاجتماعي. هذا، في العمق، هو الأثر الثوري السري للحبّ، حيث يتحول وجه الحبيب وجسده إلى سياسة فعلية، إلى قلعة وملاذ في الطرف القصي للمجالات المحروسة والمنتهكة، وإلى وطن في زمن احتراق الأوطان. في رواية «الفارس القتيل يترجل» لإلياس الديري، التي كتبت في عز الحرب الأهلية اللبنانية، يتلقى عواد، المقاتل في شوارع بيروت، برقية ملتاعة من حبيبته لايا، المقيمة ببلدٍ آخر، تدعوه للحاق بها بعدما برّح بها الشوق وأضناها الحنين، فيكون لها وقع السحر عليه، حيث يقرّر فوراً الاستجابة لندائها، فيبلغ رفاقه في السلاح بقراره الصعب، ويودّع صفية، عشيقته الظرفية، ويتدبَّر المال من رفاقه الذين يؤمنون له أيضا سائقاً محترفاً، وبقي أمامه الجزء الأخطر وهو عبور واختراق خريطة حرب مدججة بالميليشيات الخصيمة المتربصة في كلّ زاوية ومنعطف من المدينة المسيجة. هذا الحبّ، كسفر فرحان وخَطِر يسهر عليه الموت، ذكّرني بانتحار الشاعر السوفياتي ماياكوفسكي بعدما منعته الأجهزة الستالينية الجبارة من اللحاق بحبيبته ليلى إلى الخارج، ولمّا استهجن بعض رفاقه الثوريين فعلته ورشقوا ذكراه بالحجارة، انبرى للدفاع عنه أندريه بريتون الذي حيَّا انتحاره، معتبراً أنه لا أحد بمنأى من الحب ومن خطر المرأة الجميل. الحب، إذن، إشارات وطن بعيد. وهو أيضا، بالنسبة للروائي والشاعر، وطن إشارات يتم التقاطها كفتات الضوء، من قلب اللغط اليومي، لتجميع الأجزاء المتشظية والسحيقة لتمظهرات الحب، وتشكيل وجه الحبيب وجسده المرغوبين بشغف قرباني. هذا المسعى التواق، الصبور والمتوثّر في آن، الشبيه بضراعة بدائية تهجّج الواقع والميثولوجيا والتاريخ واللغة معاً، يستوقفنا في روايتين التقتا، رغم اختلافهما في المعمار اللغوي والذاكرة المرجعية، فيما أسميه بالمشبوبية الروحانية، وهما «رامة والتنين» لإدوار الخراط، و»سأهبك مدينة أخرى» لأحمد إبراهيم الفقيه. كلتاهما سافر بهما الحُبّ، أو سافرتا به، إلى المنابت السحيقة لمعناه المضطرم، الموقد للشوق الصوفي والرغبة العربيدة في التوحد بالحبيبة ما رواء حدود الجنس، وفك مغالق السّر الأنثوي الذي تتماسُّ في ليله جذور الهوية بجذور العالم. وكلتاهما، رامة بالنسبة لميخائيل، وليندا بالنسبة لخليل الإمام، حريّة معطاة وغير متسلَّمة نهائيا، لأن الصّدوع الفاصلة عميقة الغور وغير قابلة لأن تُردم نهائيا، مع تسجيل أن هذا الصدع، في «رامة»، وجودي وميتافيزيقي، وفي «سأهبك مدينة أخرى» حضاريٌّ على خلفية الاصطدام الهوياتي لثنائية الشرق والغرب. وبعيداً عن ألم هذه الصدوع التي يتعين على الحبيبين التحديق داخلها وتدبير هاويتها الفاتنة والخطيرة (وهو التدبير الذي يمضيان به أحيانا إلى نهايته بالموت معاً)، اختارت امرأة «برهان العسل» لسلوى النعيمي الارتماء في الحب كمتوالية من المتعة، متنقلة من رجل إلى آخر دون أي تورّط وجداني أو روحاني، مدعومة بمرجعية التراث الجنسي العربي، ومسنودة بلغة عارية تمزّق الأستار والظلال المسربلة للجسد وجغرافياته الإيروسية، مما يجعل هذا العمل، المفتقد للرؤية الروائية والمنتصر للمتعة المنطلقة، الراكضة، والعابرة لأجساد عابرة، عملاً مضادّا للحب ومجافيا لمعناه كتموضع وجودي في الكيان الروحاني والشهواني للآخر، ومجانباً حتى لتعليمات جورج باطاي وهنري ميلر، اللذين يلوحان ضمن مرجعيته المضمرة، واللذين رفعا المتعة إلى مستوى تجربة جوهرية، حدودية، يلمس فيها الشريكان حدود الموت ويتخطيانها إلى ما يتعدّاهما وينيرهما كما لو كانا قتيلين بُعِثا من جديد. إن أخطر فخّ يتهدَّدُ كاتبَ الحبّ – وكلّ حبيبين على أية حال – هو البداهة كإعادة إنتاج للأوفاق العامّة وأشكالها التعبيرية ومخزونات ذاكرتها الجمعية المحروسة بنسق المعتقدات. لذلك لا أعتبر الحُبّ – مكتوباً كان أو معيشاً – موضوعاً، بل أراه تموضعاً باطنيا يختبر اللغة والنسب الرمزي ومجال الرؤيا الذي تستضيء فيه إشارات الأحياء بأنوار الموتى. ولأنني أتلقّى العالم، والآخر ضمنه، من خلال الكلمات، فإن حياة هذا الآخر في أعماقي وفي النّصوص المتخلّقة داخلها منوطة بالكلمات كأرواح عضويّة خفّاقة في التجاويف. الحبّ تموضع في زمن الآخر، قبل جسده وبعده، وسفر على امتداد المسافات السحيقة التي يفتحها فينا حضوره أو غيابه، حيازته أو فقدانه. فالحبيب، بالنسبة لليل الكتابة، منطقة تقاطُعٍ كيانية تلتقي فيها جغرافيات ظليلة ومحرقة، غابوية وصحراوية، جاهلية ونبوية، هاجعة ويقظانة، نقية إلى حدود الطهرانية ومعربدة إلى حدود الوثنية. والحبّ الذي يسأل الكاتب، باعتبار هذا الأخير مسؤولاً رمزيا عن إنتاج العلائق، سفرٌ مرجعي وتلقيني وتكويني ومستكشف لخريطة الآخر المأهول بخرائط أخرى. وهو أيضاً- باستعارة عبارة دولوز الفخمة – آلة حربية عميقة، لا مرئية وفائقة الفعالية في الأراضي المدجَّجة بالحراسات كأراضينا، آلة حربية مضادة للحرب المعمَّمة، تماماً كتلك التي حرّكتها برقية «لايا» في مصير «عواد» في رواية «الفارس القتيل يترجَّل». حين كتبت إليه تقول: «زهرة الغاردينيا حزينة وشقية. البعد أرهق العاشقة وأذبلها. تأتي إليها أو يقتلها الشوق. تعال إليها. تعال إلي، أحبك...». الحبّ نداء. كل حبّ نداء طالعٌ من أغوار الحبيب. في رواية «العشاء السفلي» خَبَرتُ هذا النداء، وحاولتُ، دون ضمانة، قول بعض مسافاته وإضاءة بعض مناسكه وشعائره. والكتاب في مجمله رسالة طويلة، بضمير المخاطبة، توجّه بها مغران (الذي اشتققتُ اسمه من الجذر الإيتيمولوجي للمغارة) إلى حاضنته ومربيته وحبيبته الراحلة ميزار (التي يحيل اسمها على المَزار كمكان مبارك) ملتمساً، بالكلمات، استعادتها من ليل الموت. وكانت ميزار هي التي نادته بعد رجوعها من غياب طويل جدّاً ليوافيها إلى الدار الكبيرة بمدينة فاس لليلة واحدة هي الباقية من عمرها. زمن الرواية ليلة نهائية يتنقل خلالها مغران، وهو في طريقه إلى ميزار ثم وهو في دارها، من عبور إلى آخر، ومن مستوى مجالي إلى مستوى رمزي، مخفوراً ومشمولاً باستهلالات استباقية للحفل الموعود الكبير الذي ستهبه إياه حبيبته. وكما المتصوف في محجّة السالكين، تلقَّى الإشارات والأصوات والروائح، والتضوعات النباتية للخضروات، والذاكرات المتجمهرة في الأسوار، والأثواب الشفافة لميزار، وأسفارها المستعادة، والمشاهد القديمة الطالعة من تجاويف عرصتها، ومفاتن طعامها، باعتبارها امتدادات لروحها وجسدها، وعتبات شعائرية لوصالها، ومفاتيح لبوابات زمنها الزاخر بالأزمنة. وفي مسعاه الاسترجاعي هذا، الشبيه بمسعى أورفيوس عند هبوطه إلى مملكة الهاديس السفلى لاسترداد أوريديسا، كان على هذا الكتاب، الطامح إلى تثبيت ذلك السهر الزفافي الأخير في كنف ميزار، وتركيز أعماقها المضاءة بوجه الموت الذي كان يتأملها، أن يتوسل بالنثر الشعري المكثف، وأن يستظل بالاستدعاءات الأساطيرية المحايثة والمستجيبة لما يطلبه ويستطيعه لقاء عظيم مطل على حافة فراق عظيم. + نص مداخلة شارك بها الكاتب في ندوة «الرواية والحب»، التي نظمتها جمعية الباحثين الشباب في اللغة والآداب بمكناس، بتعاون مع المديرية الجهوية للثقافة في شهر ماي 2012