مولدافيا تدعم مخطط الحكم الذاتي وتعتبره الأساس لتسوية النزاع حول الصحراء المغربية    الملك محمد السادس يهنئ دانييل نوبوا أزين بمناسبة إعادة انتخابه رئيسا لجمهورية الإكوادور    أسعار صرف العملات اليوم الأربعاء    ابنتا الكاتب صنصال تلتمسان من الرئيس الفرنسي السعي لإطلاق سراح والدهما المسجون في الجزائر "فورا"    واشنطن توافق على صفقة صواريخ مع المغرب بقيمة 825 مليون دولار    طقس الأربعاء.. قطرات مطرية بعدد من المناطق    وجدة.. تفكيك شبكة متورطة في تزوير وثائق التأشيرات    المغرب يعزز درعه الجوي بنظام "سبايدر".. رسالة واضحة بأن أمن الوطن خط أحمر    موظفو الجماعات يدخلون في اضراب وطني ليومين ويحتجون أمام البرلمان    الصين تسجل نموا بنسبة 5,4 في المائة في الربع الأول    مؤسسة الفقيه التطواني تنظم لقاء مواجهة بين الأغلبية والمعارضة حول قضايا الساعة    بطولة إسبانيا: توقيف مبابي لمباراة واحدة    مسؤولة تعرف الرباط بالتجربة الفرنسية في تقييم العمل المنزلي للزوجة    حملة ليلية واسعة بطنجة تسفر عن توقيف مروجين وحجز آلات قمار    التهراوي يعطي الانطلاقة لمعرض جيتكس ديجي هيلث ويوقع على مذكرات تفاهم    نسبة ملء السدود بلغت 49.44% وحقينتها ناهزت 6 ملايير و610 مليون متر مكعب من الموارد المائة    أشبال الأطلس يتأهلون إلى نهائي كأس أمم إفريقيا على حساب الكوت ديفوار    جهة طنجة تطوان الحسيمة: إحداث أزيد من ألف مقاولة خلال شهر يناير الماضي    عودة التأزّم بين فرنسا والجزائر.. باريس تستدعي سفيرها وتقرّر طرد 12 دبلوماسيا جزائريا    ثغرة خطيرة في واتساب على ويندوز تستنفر مركز اليقظة وتحذيرات لتحديث التطبيق فورا    إحباط تهريب 17 طناً من مخدر الشيرا في عملية أمنية مشتركة    توقيف شبكة تزوير وثائق تأشيرات وتنظيم الهجرة غير الشرعية    السفير الكوميري يطمئن على الطاوسي    مولدوفا تنضم إلى إسبانيا في دعم مبادرة الحكم الذاتي المغربية    رغم خسارة الإياب.. برشلونة يتألق أوروبيًا ويعزز ميزانيته بعد الإطاحة بدورتموند    الطقس غدا الأربعاء.. أمطار وثلوج ورياح قوية مرتقبة في عدة مناطق بالمملكة    تشكيلة أشبال الأطلس ضد كوت ديفوار    مصرع سائق سيارة إثر سقوطها في منحدر ببني حذيفة    العلوي: منازعات الدولة ترتفع ب100٪ .. ونزع الملكية يطرح إكراهات قانونية    اتفاقيات "جيتيكس" تدعم الاستثمار في "ترحيل الخدمات" و"المغرب الرقمي"    أرسين فينغر يؤطر مدربي البطولة الوطنية    تحفيز النمو، تعزيز التعاون وتطوير الشراكات .. رهانات الفاعلين الاقتصاديين بجهة مراكش أسفي    حين يغيب الإصلاح ويختل التوازن: قراءة في مشهد التأزيم السياسي    خريبكة تفتح باب الترشيح للمشاركة في الدورة 16 من المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي    فاس تقصي الفلسفة و»أغورا» يصرخ من أجل الحقيقة    لقاء تشاوري بالرباط بين كتابة الدولة للصيد البحري وتنسيقية الصيد التقليدي بالداخلة لبحث تحديات القطاع    إخضاع معتد على المارة لخبرة طبية    عمال الموانئ يرفضون استقبال سفينة تصل ميناء الدار البيضاء الجمعة وتحمل أسلحة إلى إسرائيل    حرس إيران: الدفاع ليس ورقة تفاوض    "ديكولونيالية أصوات النساء في جميع الميادين".. محور ندوة دولية بجامعة القاضي عياض    وفاة أكثر من ثلاثة ملايين طفل في 2022 بسبب مقاومة الميكروبات للأدوية    دراسة أمريكية: مواسم الحساسية تطول بسبب تغير المناخ    فايزر توقف تطوير دواء "دانوغلبرون" لعلاج السمنة بعد مضاعفات سلبية    توقيع اتفاقيات لتعزيز الابتكار التكنولوجي والبحث التطبيقي على هامش "جيتكس إفريقيا"    محمد رمضان يثير الجدل بإطلالته في مهرجان كوتشيلا 2025    إدريس الروخ ل"القناة": عملنا على "الوترة" لأنه يحمل معاني إنسانية عميقة    نقل جثمان الكاتب ماريو فارغاس يوسا إلى محرقة الجثث في ليما    قصة الخطاب القرآني    اختبار صعب لأرسنال في البرنابيو وإنتر لمواصلة سلسلة اللاهزيمة    المغرب وكوت ديفوار.. الموعد والقنوات الناقلة لنصف نهائي كأس أمم إفريقيا للناشئين    فاس العاشقة المتمنّعة..!    أمسية وفاء وتقدير.. الفنان طهور يُكرَّم في مراكش وسط حضور وازن    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    خبير ينبه لأضرار التوقيت الصيفي على صحة المغاربة    إنذار صحي جديد في مليلية بعد تسجيل ثاني حالة لداء السعار لدى الكلاب    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقد: الكاتب المغربي عبد الرحيم مؤدن يقرأ رواية «أول النهار»
نشر في بيان اليوم يوم 29 - 04 - 2012


حكاية قرية في حجم الكف
«أول النهار» هو العنوان الرئيسي للرواية. زمن قد لا يكون صالحا للحكي بالقياس إلى زمن الليل، لحظة الحكي النموذجية. وزمن النهار، هو زمن الانتشار في الأرض، خاصة أهل قرية «أوزير» بالذات -مسرح الرواية- طلبا
للمعاش، أو قضاء الحاجات المختلفة. والعنوان، في الدرس النقدي، عتبة لبداية اشتغال النص، بداية لاشتغال القراءة. وهو، بالإضافة إلى هذا وذاك، ميثاق للقراءة، بين المرسل (الروائي/ السارد) والمتلقي (القارئ).
وعلى هذا الأساس يتجاوز النهار، في العنوان أعلاه، روزنامة الأيام والحقب والسنين، ليتجه نحو عنوان فرعي آخر دال، بعد قلب الصفحة الأولى، يجسد روزنامة جديدة.
النهار، إذن، في العنوان الرئيسي، بداية يوم جديد، شقشقة الصبح، الطبيعة البكر، تفتح الكائنات، كل الكائنات، في هذه القرية المنسية. إنها صورة عادية، متداولة في بلاد الدنيا، ومنها هذه القرية المسماة ب»قرية أوزير».
أما النهار في العنوان الفرعي، فهو انتقال رمزي من الظلمة إلى النور: إنه العتبة الفاصلة بين زمنين: زمن ما قبل النهار، وزمن مابعد النهار. الزمن الأول زمن الأهوال والكوارث الصادرة عن الطبيعة أو الإنسان (الطاعون/ فيضان النيل/ مآسي الأهل والعشيرة/ مواجهة القرية لأشكال الفناء والتدمير...). أما الزمن الثاني، زمن مابعد النهار، فهو الزمن الخارج من رحم قرية منذورة للموت، لكنها تحيا بالأمل وحب الحياة. إنه زمن الاستمرار، ولو كان نطفة ستتحول، لاحقا، عبر الصراع اليومي، إلى علقة، لتستوي خلقا جميلا، مجسدا في الأولاد والأحفاد، وأحفاد الأحفاد إلى أن تنتصر الحياة، التي تخفي، في طياتها، بذور الموت، معلنة عن دورة جديدة من دورات الزمن، ومظاهره في الزرع والإنسان والعمران.
وإذا كان العنوان الرئيس روزنامة الزمان، فان العنوان الفرعي روزنامة المكان. إنه، كما جاء في النص، سيرة للمكان، علما أن لكل مكان زمان، ولكل زمان مكان. والقرية تبعا لذلك، تمارس البطولة المطلقة، من عمق الخراب. ف»الكوليزيوم» ما زالت تحمل أطلاله صدى لهاث مصارعي الأسود من عبيد وسجناء ومغامرين، ما زالت تتصادي فيه أصوات الحيوان في صراعه مع الإنسان، وأصوات الإنسان في صراعه مع الإنسان. فا لموت حاضر في الحالتين. «موت يخرج لموت» -على حد تعبير عبد المعطي حجازي-2 بعد أن تشبع الحجر والشجر، أو القرية، بالعرق والدم، وما زالت، إلى الآن، لحظة القراءة، تنز بقطرات الحياة، أو الموت، لافرق.. هكذا تصبح القرية المسماة» أوزير» حكاية للإنسان، قبل أن تكون حكاية لمكان محدد، أو فضاء معين.
«أول النهار»- أخيرا وليس آخرا-زمن يتداخل فيه الغبش بالغسق، انقشاع الظلام، وزحف جيوشه، في الآن ذاته، الى الحد الذي نتساءل فيه عن البداية والنهاية: نهاية الليل، أو بداية النهار، أو نهاية النهار وبداية الليل. والأغنية الجميلة ا»عبدالرحمان الأبنودي» (عدى النهار) ذات النفس الملحمي، ترسم نهاية يوم متزامن مع بداية الحكاية. إنه نهار الحكاية، قمر النهار في عز الليل، شموس تشع بها شخصيات كتبت سيرة قرية وقودها الناس والحجارة، الدم والقربان.
- الرواية
تقوم الرواية على مكون مركزي مجسدا في العائلة. وهو من الأساليب المتداولة في الكتابة الروائية شرقا وغربا. والعائلة، في النص، موضوع حكائي، وأداة من أدواته، من خلال شخوصها جدودا وآباء وأحفادا. هي موضوع للحكي، من حيث كونها مادة لتقديم المسار التاريخي لعائلة «آل عمران»، رب الأسرة الذي ولد من رحم الفيضان، منذ خمسين عاما، وزمن الطاعون، ونبوءة عرافة الغجر التي لاتكف عن ترديد اللازمة المرعبة عن « عمران» الذي ينحدر (من عائلة مشؤومة تحل بها الكارثة كل خمسين عاما). الرواية، ص12
وعبر أفراد العائلة، تتعدد مصائر الأبناء والأحفاد، والرجال والنساء. وتتعدد، من ناحية أخرى، الموضوعات والقضايا، وإن كانت، على غرار مصائر البشر، تلتقي جميعها في النهاية المأساوية (الموت)، التي لاتمنع من الإصرار على زرع بذرة الحياة في رحم الأرض، أو في رحم عروس جديدة- والأمر سيان- لمقاومة الموت، أو الفناء، بالانتصار للحياة، أو الإنسان.
ولما كانت القرية تحمل اسم « أوزير»، وهي ليست بعيدة عن شخصية غائبة- حاضرة، شخصية «أوزيريس» -كما سيتضح خلال التحليل_ فان هويتها الحقيقية تتأسس على جدلية الحياة والموت. ومن ثم، فتساقط أفراد عائلة (عمران)، لسبب أو لآخر، تباعا، هو تجسيد لأشلاء «أوزيريس» المتناثرة في الأرض، والتي ترسمت «إيزيس»، وفي الرواية يوجد معادلها الموضوعي كما سيأتي لاحقا-آثارها، بهدف بناء جسد «اوزيريس» لتستمر الحياة.
قرية بناها اثنا عشر فردا، وازدهر فيها الحرث والنسل، وطمع فيها القريب والبعيد، من بقايا الأتراك، وفلول العجم (الفرنسيون)- خلال القرن 19- ومنهم من راعى الخبز والملح، فبنى الكنيسة والمسجد، وشق الترعة والقناة درءا للفيضان، ومنعا للغزو، ومنهم من انتسب إلى عائلة «عمران» -عمران مصر وليس إسرائيل كما جاء في الرواية- بالرغم من انتمائه إلى الأجنبي، أو الغريب. ومنهم من فضل البقاء بالقرية بالرغم من هجرة الزوجة والابنة والقرية، في كل ذلك، تعيش المد والجزر، البناء والهدم، كما جسده آخر العنقود «مبروك» الذي أفلت من الطواعين، وفيضان النهر الأخير، بعد أن جرفهم نحو فضاء جديد ستبنى فيه القرية والسلالة، مرورا بآخر الأحفاد، بدءا ب»زهور»، مرورا بالأبناء»سالم» وعامر»، ثم «إدريس» و»يحيى» والزوجات»هند»، ومريم» و»صفية»، وأخيرا، وليس آخرا، «زهرة» المغربية.
ومن الطبيعي أن تتحكم في العائلة، روابط الدم والولاء التي تفاعلت مع السلالة عبر تاريخها الطويل الذي تداخلت فيه روابط النسب بروابط المصالح المشتركة، وروابط المصاهرة (الزواج) بروابط القيم من بطولة ومساندة ومواقف إنسانية دالة.
ويمكن تفريع هذه الشجرة العائلية إلى جذور ثلاثية محورية امتدت، نصيا، على الشكل التالي:
1-عمران: رب العائلة وسيد «أوزير» (من ص، 9-96) والاسم دال على العمران- بالرفع- الذي كان وراء بناء قرية من عدم.
2-حليمة وهند (من ص97-185) وهما يجسدان قيمة العطاء بدون حساب.
3-عامر (من ص، 187-301)، أي إلى آخر صفحة من صفحات الرواية، كدلالة على استمرار السلالة.
أما بالنسبة للعائلة، أداة للحكي، فان هذه الأخيرة تصبح فاعلا سرديا، يتحكم في بناء الرواية بمختلف مكوناتها المادية والرمزية والحكائية. وأهم هذه المكونات نذكر:
أ-طبيعة الرواية الأجناسية التي جعلت منها رواية نهرية تقوم على تعاقب الأجيال، وتفرع الأبناء إلى أحفاد ومصائر ومواقف تبعا للمكونات النفسية والتربوية والجسدية، فضلا عن الحدثية التي تحكمت في هذه المصائر والمواقف عبر مسلكيات محددة.
ب-وبحكم انتمائها إلى هذا النمط، فإن الشخصية جسدت محورها المركزي، في مفاصلها الكبرى، من خلال مستويين:
- مستوى الدم مجسدا في أصول وفروع «آل عمران»، بدءا ب»مبروك» الذي أفلت من عوادي الزمن، من طاعون وفيضان.. وعبر «مبروك» تتعاقب ال، «سلالة، إلى أن تصل إلى آخر الأحفاد «زهور»، مرورا الأبناء»سالم»، «عامر»، «إدريس»ثم «يحيى»، وما يقابلهم من زوجات: « مريم»، «صفية»، وأخيرا، وليس آخرا، «زهرة» المغربية.
-أما بالنسبة للمستوى الثاني، مستوى الولاء، فيبدأ بعمود العائلة»حليمة»_ وهي في جوهرها تتموقع في مرتبة الدم أكثر من مرتبة الولاء- مرورا بالعبد «هو جوسيان»، والد «هند» زوجة «مبروك»، ثم «خليل الطوبجي»- وابنه «مروان» والقهوجي، وابنه «منصور» الذي سيصبح الآمر الناهي، في القرية، بعد دخول عامر في العد العكسي، بحكم السن. مما دفعه إلى الإسراع بعقد زيجة «عامر» و»زهور» المغربية.
وروابط الدم والولاء تتفاعل، بدورها، مع روابط الحكاية، سواء تعلق ذلك بالحكاية المركزية، حكاية «آ ل عمران»، وما جرى له من أحداث، توزعت بين الفرح والحزن، أو تعلق ذلك- من ناحية أخرى، بما يوازيها من محكيات صغرى صبت روافدها في نهر الحكاية المركزية، حكاية «عمران» والقرية. من بين هذه المحكيات نذكر:
حكاية «حليمة» المحايثة لحكاية» عمران».
-حكاية «مبروك» و»هند» ابنة العبد لمحرر»هو جوسيان»من جهة. وسقوطه -من جهة ثانية- من سطح المنزل، ليلة عرسه، وهو في عز النشوة والمتعة بجانب «هند».
- حكاية «سالم» المسالم، ومقتله، أثناء بحثه عن أخيه «عامر» المتمرد..
-حكاية «عامر» الطائش، وتغربه، ثم عودته إلى القرية وزواجه، ثم إنجابه لولديه «إدريس» و»يحيى».
حكاية هند مع مبروك الزوج، ومع- من ناحية أخرى- ولديها: سالم وعامر.
حكاية مريم مع سالم.
حكاية صفية مع عامر.
وبجانب هذه المحكيات الكبرى والصغرى، الرئيسية والفرعية، وجدت مرويات أخرى لعبت دورا تأثيثيا، في انتظار تحولها إلى محكيات قائمة الذات ما دامت قرية «أوزير» مشروع حكاية كبيرة ساهم فيه الأهالي، من مواقع مختلفة، كما هو الشأن بالنسبة للعبد المحرر «هوجوسيان»، و»الطوبجي» والقهوجي وابنه «منصور»، مرورا بالأجانب، من فرنسيين وإيطاليين، مثل «كارلو» و»رينيه» و»موران».
من هنا كان السرد الملائم للرواية، مجسدا في السرد الأفقي (الخطي) الذي يتابع، من البداية إلى النهاية، تشكل عائلة «آل عمران» من الجد إلى الحفيد.
ولاشك أن الخط السردي الأفقي، بالرغم من انتشار بؤر حكائبة عديدة، يلائم هاجس التأريخ الذي حرصت الرواية على إبرازه، من خلال التأريخ للمكان، أثناء التأريخ للأفراد. ومن ثم كانت الرواية النهرية الوجه الآخر للرواية التاريخية، مع وجود فارق نوعي، جعل من الرواية التاريخية رواية الماضي، عن طريق إحياء أبطالها للدلالة على الحاضر، وجعل من الرواية النهرية، رواية الحاضر لاسترجاع الماضي، ماضي القيم المنتصرة للإنسان في صراعه مع واقعه وتفاعل هذين الوجهين- التاريخي والنهري- تجسد في:
أ- التوثيقية (التسجيلية) التي ربطت الرواية بالنص الواقعي بمعجمه وأحداثه، وإلحاحه على الخصائص الاثنوغرافية والتقاليد السائدة، والطقوس المتوارثة.. كل ذلك جعل من هذه الرواية نصا نموذجيا من نصوص الرواية الواقعية، رواية القرن19.، التي تفاعلت فيها مصائر الشخوص بمصير القرية وتحولاتها.
ب-والاحتفال بهذه الخصائص، كشفت عن سلطة سارد «عليم بكل شئ» وجد خارج النص، دون أن يتمكن من إخفاء تعاطفه مع القرية وأهلها، بعد أن انحاز إلى قيم محددة أعلت من شخصية «عمران» التي انتصرت للحياة ضد الموت. فالناس يذهبون والقيم يجب أن تبقى.
ج-وبرز ذلك جليا في التأكيد على زمن القرية الموازي: والمعارض، للزمن السائد. فالسارد العليم بكل شئ انطلق من روزنامة القرية، من خلال مصر القديمة بمرجعيتها القبطية، (بؤونة/توت..) بعيدا عن التاريخ الميلادي (ق19). فالقرية خاضعة لزمنها الخاص، وما يتعلق بما وجد خارج هذا الزمن (بقايا الآقطاع العثماني/الاستعمار الفرنسي..) تتم مواجهته بأساليب عديدة، ومنها قيم القبيلة المشار إليها، آنفا، والمجسدة في تماسك العائلة الصغيرة (آل عمران)، والعائلة الكبيرة (الأهالي) ضد الغريب، من جهة، وضد المدمر لمختلف تجلياتها من نجدة ووفاء وكرم وصبر، من جهة ثانية.
د_هكذا أصبحت القرية- بالرغم من عزلتها- مسرحا لتجسيد قيم تتضاءل يوما عن يوم، لكنها تستمر على يد هذه السلالة الرافضة لأي شكل من أشكال الهزيمة. ولعل ذلك هو الذي خلع على القرية- كما هو شأن قرى عديدة قدمتها نصوص روائية إنسانية- طابعها الأسطوري الذي جعل منها قطرة في عرض محيط شاسع، لكنها قطرة تفعل في حركية الموج مدا وجزرا.
وبرزت مظاهر هذه الأسطرة للقرية من خلال الآتي:
1- الشخصية الروائية من خلال نموذجي» عمران» و»حليمة». ف»حليمة» تماثل «إيزيس» التي تعرف أن القرية منذورة للموت، إلى أخبرتها العرافة الغجرية، وهي تمسح على رأس «مبروك»، أو الشلو الذي سقط من أعلى السطح ليلة عرسه، بعد أن (لحقته لعنة كبير الآلهة رع لأمه نوت، التاي وقعت على رأس أوزوريس حفيده، بمعنى أن لعنة الآباء، تلحق وتقع على رأس الأبناء، أو أن الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون) 3 وظلت «حليمة «حريصة على لملمة أشلاء القرية أبناء وأحفاد، إلىى أن غابت مبتسمة في وجه الموت.
حليمة، إذن، تعويذة القرية التي حمت الكل ما عدا في حالة وواحدة، حالة القدر الذي لا مفر منه. من ناحية أخرى، جسدت «حليمة» شخصية «إيزيس»، حكائيا، عن طريق لملمتها لأحداثها، ترميما وتوظيفا في المواقف الحاسمة، حفاظا على استمرار القرية وقيمها المتوارثة.
أما بالنسبة للشخصية الأسطورية الثانية، شخصية «عمران»، فإنها تجسد شخصية «أوزيريس» المتجدد. فهو سليل الموت، بعد أن خرج، منذ خمسين عاما، من صلب الطاعون والفيضان. جسمه، على حد تعبير الشنفرى، مقسم في جسوم كثيرة، جسوم الأبناء والأحفاد. وبمجرد غياب أحد أفراد السلالة، ينبت، في مكانه، كائن آخر. و»حليمة» شاهدة على كل ذلك، تمده بعناصر الحياة والاستمرار، بعد أن تحول إلى مستودع رمزي لتاريخ القرية وتحولاتها. ومن مظاهر الأسطرة، أيضا، في هذه الرواية، توظيف عناصر مكونات العالم، كمالا وردت عند الفلاسفة القدامى، من هواء وتراب وماء ونار.
1-الماء: عنصر الحياة (الضرورة اليومية)، وهو عنصر الموت (الطوفان الذي دفع بالأهالي إلى الهجرة وبناء قرية جديدة). وهو صلة وصل بالعالم سلبا (الغريب/ المستعمر) أو إيجابا (الخير العميم)، أو تفاعلا مع الآخر، سواء معتقدا أسطوريا (النداهة)، أو مع فرد غائب من أفراد السلالة.
والماء أداة للتعميد والتطهير، في آن واحد، من خلال حادث غرق «هند» التي أغرقت نفسها في النيل، وكأنها تمارس طقسا لاشعوريا من طقوس التعميد استعدادا للذهاب إلى العالم الآخر حيث يوجد «مبروك» الذي لم يغب عنها لحظة واحدة.
2-أما التراب فبرز جانبه الأسطوري، من خلال التمثال الذي يشبه»سالم» شقيق «عامر»، والابن المسالم، من عائلة «عمران». وسيصبح التمثال تعويذة القرية، بعد «حليمة»، مستودع أسرار القرية الرمزي. لنستمع إلى هذا الوصف للتمثال الذي (يقترب طوله من ارتفاع شجرة كافور، وعرضه يزيد على ساقها. كان منحوتا من الجرانيت لرجل عملاق، يقف بكبرياء، ناظرا إلى الأفق متعاليا على الحياة ومافيها. تلفه عباءة تبرز منها إحدى ذراعيه، وقدما في نعلين لايخفيان أصابعه المنحوتة بدقة تكاد تنبض فيها الدماء.. وبلا اتفاق أطلقوا عليه «سيدي سالم» ثم وضعوه فوق قاعدة مرتفعة، أمام البوابة، في مواجهة القادم إلى «أوزير» من» سمنود). 4 السؤال الآن: من يشبه الآخر؟ سالم أم التمثال؟ وفي الرواية توظيفات عديدة للموروث الثقافي في القرية، من»نداهة» ومرويات مختلفة.
3-النار: وهي متوزعة المصادر بين نار الأعراس والطقوس والكوانين والمواسم، وبين نار الغزو (بنادق النصارى) بين نار الشوق والعاطفة المشبوبة، ونار الحقد والموجدة.
4- الهواء: هو شمس «بؤونة» القاسية، وهو العصاري الرائعة. هو الليالي المرعبة، والنهارات المبتسمة. هجير لافح، ونسيم رائق. ريح خبيثة، أو ريح طيبة. عبر هذه العناصر الأربعة، صنعت القرية أسطورتها بعد أن بنيت من قبل اثني عشر فردا، ولكنها ظلت منذورة للموت، كل خمسين سنة. فهي الصورة المقلوبة ل»أرم ذات العماد» التي تسعد كل من رآها، كل أربعين سنة. هي قرية اللعنة الأبدية التي ظلت تطارد أهلها من مكان إلى آخر، ويتحول «عمران»، خلالها، إلى شخصية ملحمية تكرر ما فعله «آدم» عندما عمر الأرض. والقرية، أولا وأخيرا، تتحول سيرتها إلى سفر ضخم، أشبه ب «كتاب الموتى»، الذي حمل في الأصل عنوانا دالا هو (الخروج إلى النهار)، وهو عنوان ليس بعيدا عن عنوان روايتنا الحالية.
هكذا تحولت القرية إلى (أليغوريا) للحياة والموت، انتصر فيها الإنسان للحياة من عمق الموت. وبفضل هذه الأسطرة انتقلت القرية، من مكان معزول في العالم، إلى دلالة العالم برمته..
* هوامش:
1-سعد القرش: أول النهار.
2- من قصيدة بعنوان: جزيرة شدوان. والنص يحكي عن المقاومة البطولية -معارك القنال- لمصر ضد الاحتلال الانجليزي.
3-شوقي: موسوعة الفولكلور والأساطير العربية. مكتبة مدبولي1995. ص. 75.
4- الرواية. ص176


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.