"وزارة التعليم" تعلن تسوية بعض الوضعيات الإدارية والمالية للموظفين    مسؤول فرنسي رفيع المستوى .. الجزائر صنيعة فرنسا ووجودها منذ قرون غير صحيح    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    "حماس": منفذ الطعن "مغربي بطل"    الكاف : المغرب أثبت دائما قدرته على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة يقلب الطاولة على بنفيكا في مباراة مثيرة (5-4)    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    "سبيس إكس" تطلق 21 قمرا صناعيا إلى الفضاء    الحاجب : تدابير استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد (فيديو)    ارتفاع عدد ليالي المبيت السياحي بالصويرة    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    "البام" يدافع عن حصيلة المنصوري ويدعو إلى تفعيل ميثاق الأغلبية    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    تركيا.. ارتفاع حصيلة ضحايا حريق منتجع للتزلج إلى 76 قتيلا وعشرات الجرحى    التحضير لعملية "الحريك" يُطيح ب3 أشخاص في يد أمن الحسيمة    لمواجهة آثار موجات البرد.. عامل الحسيمة يترأس اجتماعًا للجنة اليقظة    الحكومة: سعر السردين لا ينبغي أن يتجاوز 17 درهما ويجب التصدي لفوضى المضاربات    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الانخفاض    تركيا.. يوم حداد وطني إثر حريق منتجع التزلج الذي أودى بحياة 66 شخصا    وزارة التربية الوطنية تعلن صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور الأساتذة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    مطالب في مجلس المستشارين بتأجيل مناقشة مشروع قانون الإضراب    اتخاذ إجراءات صارمة لكشف ملابسات جنحة قطع غير قانوني ل 36 شجرة صنوبر حلبي بإقليم الجديدة    توقيع اتفاق لإنجاز ميناء أكادير الجاف    مجلس المنافسة يكشف ربح الشركات في المغرب عن كل لتر تبيعه من الوقود    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    هل بسبب تصريحاته حول الجيش الملكي؟.. تأجيل حفل فرقة "هوبا هوبا سبيريت" لأجل غير مسمى    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    المجلس الحكومي يتدارس مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة    ندوة بالدارالبيضاء حول الإرث العلمي والفكر الإصلاحي للعلامة المؤرخ محمد ابن الموقت المراكشي    المبادلات التجارية بين المغرب والبرازيل تبلغ 2,77 مليار دولار في 2024    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    مطالب برلمانية بتقييم حصيلة برنامج التخفيف من آثار الجفاف الذي كلف 20 مليار درهم    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    انفجار في ميناء برشلونة يسفر عن وفاة وإصابة خطيرة    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    العمراني : المغرب يؤكد عزمه تعزيز التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد تنصيب ترامب    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    ترامب يوقع أمرا ينص على انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية    إيلون ماسك يثير جدلا واسعا بتأدية "تحية هتلر" في حفل تنصيب ترامب    ترامب: "لست واثقا" من إمكانية صمود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    المغرب يدعو إلى احترام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    دوري أبطال أوروبا.. مواجهات نارية تقترب من الحسم    ياسين بونو يتوج بجائزة أفضل تصد في الدوري السعودي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    القارة العجوز ديموغرافيا ، هل تنتقل إلى العجز الحضاري مع رئاسة ترامب لأمريكا … ؟    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أول النهار: حكاية قرية في حجم الكف
نشر في العلم يوم 21 - 02 - 2013


حول العنوان
« أول النهار»(1) هو العنوان الرئيسي لرواية الكاتب المصري سعد القرش.زمن قد لا يكون صالحا للحكي بالقياس إلى زمن الليل، لحظة الحكي النموذجية.وزمن النهار، هو زمن الانتشار في الأرض، خاصة أهل قرية «أوزير» بالذات - مسرح الرواية- طلبا للمعاش، أوقضاء الحاجات المختلفة.
والعنوان، في الدرس النقدي، عتبة لبداية اشتغال النص، بداية لاشتغال القراءة. وهو ، بالإضافة إلى هذا وذاك، ميثاق للقراءة، بين المرسل( الروائي/ السارد) والمتلقي( القارئ).
وعلى هذا الأساس يتجاوز النهار، في العنوان أعلاه، روزنامة الأيام والحقب والسنين، ليتجه نحو عنوان فرعي آخر دال ، بعد قلب الصفحة الأولى، يجسد روزنامة جديدة على الشكل التالي (تخرج إلى النهار).
النهار إذن في العنوان الرئيسي، بداية يوم جديد، شقشقة الصبح، الطبيعة البكر، تفتح الكائنات ،كل الكائنات، في هذه القرية المنسية.إنها صورة عادية ،متداولة في بلاد الدنيا، ومنها هذه القرية المسماة ب « قرية أوزير».
أما النهار في العنوان الفرعي، فهو انتقال رمزي من الظلمة إلى النور: إنه العتبة الفاصلة بين زمنين: زمن ما قبل النهار، وزمن ما بعد النهار.الزمن الأول زمن الأهوال والكوارث الصادرة عن الطبيعة أوالإنسان(الطاعون/ فيضان النيل/مآسي الأهل والعشيرة/مواجهة القرية لأشكال الفناء والتدمير...).أما الزمن الثاني، زمن ما بعد النهار، فهو الزمن الخارج من رحم قرية منذورة للموت، لكنها تحيا بالأمل وحب الحياة. إنه زمن الاستمرار، ولو كان نطفة ستتحول،لاحقا، عبر الصراع اليومي، إلى علقة، لتستوي خلقا جميلا، مجسدا في الأولاد والأحفاد، وأحفاد الأحفاد إلى أن تنتصر الحياة ،التي تخفي، في طياتها ،بذور الموت، معلنة عن دورة جديدة من دورات الزمن ،ومظاهره في الزرع والإنسان والعمران.
وإذا كان العنوان الرئيس روزنامة الزمان، فان العنوان الفرعي
روزنامة المكان.إنه، كما جاء في النص، سيرة للمكان، علما أن لكل مكان زمان، ولكل زمان مكان.والقرية تبعا لذلك، تمارس البطولة المطلقة، من عمق الخراب. ف» الكوليزيوم» ما زالت تحمل أطلاله صدى لهاث مصارعي الأسود من عبيد وسجناء ومغامرين، ما زالت تتصادى فيه أصوات الحيوان في صراعه مع الإنسان، وأصوات الإنسان في صراعه مع الإنسان. فالموت حاضر في الحالتين .»موت يخرج لموت»-على حد تعبير عبد المعطي حجازي-(2) بعد أن تشبع الحجر والشجر، أو القرية، بالعرق والدم، وما زالت،إلى الآن، لحظة القراءة، تنز بقطرات الحياة،أوالموت، لافرق..هكذا تصبح القرية المسماة» أوزير» حكاية للإنسان، قبل أن تكون حكاية لمكان محدد،أوفضاء معين.
«أول النهار»- أخيرا وليس آخرا- زمن يتداخل فيه الغبش بالغسق، انقشاع الظلام،وزحف جيوشه، في الآن ذاته، إلى الحد الذي نتساءل فيه عن البداية والنهاية: نهاية الليل، أو بداية النهار،أونهاية النهار وبداية الليل.والأغنية الجميلة ل»عبدالرحمان الأبنودي»
(عدى النهار) ذات النفس الملحمي، ترسم نهاية يوم متزامن مع بداية الحكاية . إنه نهار الحكاية، قمر النهار في عز الليل، شموس تشع بها شخصيات كتبت سيرة قرية وقودها الناس والحجارة، الدم والقربان.
الرواية
تقوم الرواية على مكون مركزي مجسدا في العائلة.وهو من الأساليب المتداولة في الكتابة الروائية شرقا وغربا. والعائلة ، في النص، موضوع حكائي، وأداة من أدواته، من خلال شخوصها جدودا وآباء وأحفادا..
هي موضوع للحكي، من حيث كونها مادة لتقديم المسار التاريخي لعائلة «آل عمران»، رب الأسرة الذي ولد من رحم الفيضان ، منذ خمسين عاما،وزمن الطاعون،ونبوءة عرافة الغجر التي لا تكف عن ترديد اللازمة المرعبة عن « عمران» الذي ينحدر ( من عائلة مشؤومة تحل بها الكارثة كل خمسين عاما) . الرواية،ص.12.
وعبر أفراد العائلة، تتعدد مصائر الأبناء والأحفاد، والرجال والنساء. وتتعدد، من ناحية أخرى، الموضوعات والقضايا، وإن كانت، على غرار مصائر البشر، تلتقي جميعها في النهاية المأساوية( الموت)،التي ، كما سبقت الإشارة، لا تمنع من الإصرار على زرع بذرة الحياة في رحم الأرض ،أو في رحم عروس جديدة- والأمر سيان- لمقاومة الموت ،أو الفناء، بالانتصار للحياة، أو الإنسان.
ولما كانت القرية تحمل اسم « أوزير»، وهي ليست بعيدة عن شخصية غائبة- حاضرة، شخصية «أوزيريس»- كما سيتضح خلال التحليل- فإن هويتها الحقيقية تتأسس على جدلية الحياة والموت. ومن ثم، فتساقط أفراد عائلة( عمران)، لسبب أولآخر، تباعا ، هو تجسيد لأشلاء « أوزيريس» المتناثرة في الأرض، والتي ترسمت « إيزيس» - وفي الرواية يوجد معادلها الموضوعي كما سيأتي لاحقا-آثارها، بهدف بناء جسد « أوزيريس» لتستمر الحياة.
قرية بناها اثنا عشر فردا، وازدهر فيها الحرث والنسل، وطمع فيها القريب والبعيد،من بقايا الأتراك،وفلول العجم( الفرنسيون)- خلال القرن 19- ومنهم من راعى الخبز والملح، فبنى الكنيسة والمسجد، وشق الترعة والقناة درءا للفيضان ، ومنعا للغزو، ومنهم من انتسب إلى عائلة «عمران»- عمران مصر وليس إسرائيل كما جاء في الرواية- بالرغم من انتمائه إلى الأجنبي ،أو الغريب. ومنهم من فضل البقاء بالقرية بالرغم من هجرة الزوجة والإبنة...والقرية، في كل ذلك، تعيش المد والجزر، البناء والهدم، كما جسده آخر العنقود « مبروك» الذي أفلت من الطواعين، وفيضان النهر الأخير ، بعد أن جرفهم نحو فضاء جديد ستبنى فيه القرية والسلالة، مرورا بآخر الأحفاد ، بدءا ب» زهور» ، مرورا بالأبناء»سالم» وعامر»، ثم «إدريس» و»يحيى» والزوجات» هند»، ومريم» و» صفية»، وأخيرا ، وليس آخرا،» زهرة» المغربية.
ومن الطبيعي أن تتحكم ، في العائلة، روابط الدم والولاء التي تفاعلت مع السلالة عبر تاريخها الطويل الذي تداخلت فيه روابط النسب بروابط المصالح المشتركة ، وروابط المصاهرة( الزواج) بروابط القيم من بطولة ومساندة ومواقف إنسانية دالة.
ويمكن تفريع هذه الشجرة العائلية إلى جذور ثلاثية محورية امتدت ، نصيا، على الشكل التالي:
1-عمران: رب العائلة وسيد «أوزير»( من ص،9-96) والإسم دال على العمران- بالرفع- الذي كان وراء بناء قرية من عدم.
2- حليمة وهند( من ص97-185) وهما يجسدان قيمة العطاء بدون حساب.
3-عامر( من ص،187-301) ،أي إلى آخر صفحة من صفحات الرواية، كدلالة على استمرار السلالة.
أما بالنسبة للعائلة،أداة للحكي،فإن هذه الأخيرة تصبح فاعلا سرديا، يتحكم في بناء الرواية بمختلف مكوناتها المادية والرمزية والحكائية. وأهم هذه المكونات نذكر:
طبيعة الرواية الأجناسية التي جعلت منها رواية نهرية تقوم على تعاقب الأجيال، وتفرع الأبناء إلى أحفاد ومصائر ومواقف تبعا للمكونات النفسية والتربوية والجسدية،فضلا عن الحدثية التي تحكمت في هذه المصائر والمواقف عبرمسلكيات محددة.
ب-وبحكم انتمائها إلى هذا النمط، فإن الشخصية جسدت محورها المركزي ، في مفاصلها الكبرى، من خلال مستويين:
- مستوى الدم مجسدا في أصول وفروع «آل عمران»، بدءا ب» مبروك» الذي أفلت من عوادي الزمن، من طاعون وفيضان..وعبر» مبروك» تتعاقب ال،»سلالة ،إلى أن تصل إلى
آخر الأحفاد» زهور»، مرورا بالأبناء»سالم»، «عامر» ، «إدريس»ثم «يحيى»، وما يقابلهم من زوجات:» مريم»،»صفية»، وأخيرا ، وليس آخرا، « زهرة» المغربية.
-أما بالنسبة للمستوى الثاني، مستوى الولاء، فيبدأ بعمود العائلة»حليمة»-وهي في جوهرها تتموقع في مرتبة الدم أكثر من مرتبة الولاء- مرورا بالعبد» هو جوسيان»، والد «هند» زوجة «مبروك»، ثم «خليل الطوبجي»- وابنه «مروان» والقهوجي ، وابنه «منصور» الذي سيصبح الآمر الناهي ، في القرية، بعد دخول عامر في العد العكسي، بحكم السن.مما دفعه إلى الإسراع بعقد زيجة « عامر» و» زهور «المغربية.
وروابط الدم والولاء تتفاعل، بدورها، مع روابط الحكاية، سواء تعلق ذلك بالحكاية المركزية ، حكاية « آ ل عمران»، وما جرى له من أحداث، توزعت بين الفرح والحزن، أو تعلق ذلك- من ناحية أخرى، بما يوازيها من محكيات صغرى صبت روافدها في نهر الحكاية المركزية، حكاية» عمران» والقرية. من بين هذه المحكيات نذكر:
- حكاية «حليمة» المحايثة لحكاية» عمران».
-حكاية « مبروك» و»هند» ابنة العبد لمحرر» هوجوسيان»من جهة. وسقوطه -من جهة ثانية- من سطح المنزل، ليلة عرسه، وهو في عز النشوة والمتعة بجانب «هند».
- حكاية «سالم» المسالم، ومقتله،أثناء بحثه عن أخيه «عامر» المتمرد..
-حكاية «عامر» الطائش، وتغربه ، ثم عودته إلى القرية وزواجه ،ثم إنجابه لولديه «إدريس» و» يحيى».
- حكاية هند مع مبروك الزوج، ومع- من ناحية أخرى- ولديها :سالم وعامر.
- حكاية مريم مع سالم.
-حكاية صفية مع عامر.
وبجانب هذه المحكيات الكبرى والصغرى، الرئيسية والفرعية، وجدت مرويات أخرى لعبت دورا تأثيثيا، في انتظار تحولها إلى محكيات قائمة الذات ما دامت قرية «أوزير» مشروع حكاية كبيرة
ساهم فيه الأهالي، من مواقع مختلفة، كما هو الشأن بالنسبة للعبد المحرر « هوجوسيان»،و» الطوبجي» والقهوجي وابنه» منصور»، مرورا بالأجانب ،من فرنسيين وإيطاليين ، مثل «كارلو» و» رينيه»و»موران»...
من هنا كان السرد الملائم للرواية، مجسدا في السرد الأفقي
(الخطي) الذي يتابع ،من البداية إلى النهاية، تشكل عائلة «آل عمران» من الجد إلى الحفيد.
ولاشك أن الخط السردي الأفقي، بالرغم من انتشار بؤر حكائية عديدة،يلائم هاجس التأريخ الذي حرصت الرواية على إبرازه ، من خلال التأريخ للمكان ،أثناء التأريخ للأفراد.ومن ثم كانت الرواية النهرية الوجه الآخر للرواية التاريخية، مع وجود فارق نوعي، جعل من الرواية التاريخية رواية الماضي، عن طريق إحياء أبطالها للدلالة على الحاضر، وجعل من الرواية النهرية، رواية الحاضر لاسترجاع الماضي، ماضي القيم المنتصرة للإنسان في صراعه مع واقعه، و تجسد تفاعل هذين الوجهين- التاريخي والنهري- في:
أ- التوثيقية( التسجيلية)التي ربطت الرواية بالنص الواقعي بمعجمه وأحداثه ، وإلحاحه على الخصائص الاثنوغرافية والتقاليد السائدة، والطقوس المتوارثة.. كل ذلك جعل من هذه الرواية نصا نموذجيا من نصوص الرواية الواقعية ، رواية القرن19.،التي تفاعلت فيها مصائر الشخوص بمصير القرية وتحولاتها.
ب-والاحتفال بهذه الخصائص،كشفت عن سلطة سارد «عليم بكل شيء» وجد خارج النص، دون أن يتمكن من إخفاء تعاطفه مع القرية وأهلها،بعد أن انحاز إلى قيم محددة أعلت من شخصية « عمران» التي انتصرت للحياة ضد الموت. فالناس يذهبون والقيم يجب أن تبقى.
ج-وبرز ذلك جليا في التأكيد على زمن القرية الموازي: والمعارض، للزمن السائد. فالسارد العليم بكل شيء انطلق من روزنامة القرية، من خلال مصر القديمة بمرجعيتها القبطية،
(بؤونة/توت..) بعيدا عن التاريخ الميلادي(ق19). فالقرية خاضعة لزمنها الخاص، وما يتعلق بما وجد خارج هذالزمن( بقايا الإقطاع العثماني/الاستعمار الفرنسي..)تتم مواجهته بأساليب عديدة ، ومنها قيم القبيلة المشار إليها،آنفا،والمجسدة في تماسك العائلة الصغيرة(آل عمران)، والعائلة الكبيرة( الأهالي) ضد الغريب ، من جهة، وضد المدمر لمختلف تجلياتها من نجدة ووفاء وكرم وصبر، من جهة ثانية.
د-هكذا أصبحت القرية- بالرغم من عزلتها- مسرحا لتجسيد قيم تتضاءل يوما عن يوم، لكنها تستمر على يد هذه السلالة الر افضة لأي شكل من أشكال الهزيمة. ولعل ذلك هو الذي خلع على القرية- كما هو شأن قرى عديدة قدمتها نصوص روائية إنسانية- طابعها الأسطوري الذي جعل منها قطرة في عرض محيط شاسع، لكنها قطرة تفعل في حركية الموج مدا وجزرا.
وبرزت مظاهر هذه الأسطرة للقرية من خلال الآتي:
1- الشخصية الروائية من خلال نموذجي» عمران» و»حليمة».
ف»حليمة» تماثل «إيزيس» التي تعرف أن القرية منذورة للموت، كما أخبرتها العرافة الغجرية،وهي تمسح على رأس» مبروك»، أوالشلو الذي سقط من أعلى السطح ليلة عرسه ، بعد أن( لحقته لعنة كبير الآلهة رع لأمه نوت، التي وقعت على رأس أوزوريس حفيده، بمعنى أن لعنة الآباء ، تلحق وتقع على رأس الأبناء،أو أن الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون).(3) وظلت «حليمة «حريصة على لملمة أشلاء القرية أبناء وأحفادا،إلى أن غابت مبتسمة في وجه الموت».
حليمة،إذن، تعويذة القرية التي حمت الكل ما عدا في حالة واحدة، حالة القدرالذي لامفر منه. من ناحية أخرى، جسدت «حليمة» شخصية «إيزيس» ، حكائيا ، عن طريق لملمتها لأحداثها ، ترميما وتوظيفا في المواقف الحاسمة، حفاظا على استمرار القرية وقيمها المتوارثة.
أما بالنسبة للشخصية الأسطورية الثانية، شخصية «عمران»، فإنها تجسد شخصية»أوزيريس» المتجدد. فهو سليل الموت، بعد أن خرج، منذ خمسين عاما، من صلب الطاعون والفيضان. جسمه ، على حد تعبير الشنفرى،مقسم في جسوم كثيرة، جسوم الأبناء والأحفاد.وبمجرد غياب أحد أفراد السلالة، ينبت ،في مكانه، كائن آخر.و»حليمة» شاهدة على كل ذلك ، تمده بعناصر الحياة والاستمرار ، بعد أن تحول إلى مستودع رمزي لتاريخ القرية وتحولاتها.
ومن مظاهر الأسطرة،أيضا، في هذه الرواية، توظيف عناصر مكونات العالم ، كما وردت عند الفلاسفة القدامى، من هواء وتراب وماء ونار.
1-الماء:عنصر الحياة( الضرورة اليومية) ، وهو عنصر الموت
( الطوفان الذي دفع بالأهالي إلى الهجرة وبناء قرية جديدة).
وهوصلة وصل بالعالم سلبا( الغريب/ المستعمر)أو إيجابا( الخير العميم)،أوتفاعلا مع الآخر ، سواء معتقدا أسطوريا( النداهة)، أومع فرد غائب من أفراد السلالة.
والماء أداة للتعميد والتطهير ،في آن واحد، من خلال حادث غرق «هند» التي أغرقت نفسها في النيل ، وكأنها تمارس طقسا لاشعوريا من طقوس التعميد استعدادا للذهاب إلى العالم الآخر حيث يوجد «مبروك» الذي لم يغب عنها لحظة واحدة.
2-أما التراب فبرز جانبه الأسطوري ، من خلال التمثال الذي يشبه»سالم» شقيق «عامر»،والابن المسالم، من عائلة «عمران». وسيصبح التمثال تعويذة القرية، بعد «حليمة»، مستودع أسرار القرية الرمزي. لنستمع إلى هذا الوصف للتمثال الذي( يقترب طوله من ارتفاع شجرة كافور، وعرضه يزيد على ساقها. كان منحوتا من الجرانيت لرجل عملاق، يقف بكبرياء ، ناظرا إلى الأفق متعاليا
على الحياة وما فيها .تلفه عباءة تبرز منها إحدى ذراعيه ، وقدما في نعلين لايخفيان أصابعه المنحوتة بدقة تكاد تنبض فيها الدماء..وبلا اتفاق أطلقوا عليه « سيدي سالم» ثم وضعوه فوق قاعدة مرتفعة،أمام البوابة، في مواجهة القادم إلى «أوزير» من» سمنود).(4)
السؤال الآن: من يشبه الآخر؟سالم أم التمثال؟
وفي الرواية توظيفات عديدة للموروث الثقافي في القرية، من»نداهة» ومرويات مختلفة.
3-النار:وهي متوزعة المصادر بين نار الأعراس والطقوس والكوانين والمواسم، وبين نارالغزو( بنادق النصارى) بين نارالشوق والعاطفة المشبوبة، ونار الحقد والموجدة.
4- الهواء: هو شمس «بؤونة» القاسية، وهو العصاري الرائعة.هو الليالي المرعبة، والنهارات المبتسمة.هجيرلافح، ونسيم رائق. ريح خبيثة، أو ريح طيبة.
عبر هذه العناصر الأربعة، صنعت القرية أسطورتها بعد أن بنيت من قبل اثني عشر فردا، ولكنها ظلت منذورة للموت ،كل خمسين سنة. فهي الصورة المقلوبة ل»إرم ذات العماد» التي تسعد كل من رآها، كل أربعين سنة.هي قرية اللعنة الأبدية التي ظلت تطارد أهلها من مكان إلى آخر، ويتحول «عمران»، خلالها، إلى شخصية ملحمية تكرر مافعله «آدم» عندما عمر الأرض.
والقرية، أولا وأخيرا،تتحول سيرتها إلى سفر ضخم ،أشبه ب «كتاب الموتى»، الذي حمل في الأصل عنوانا دالا هو( الخروج إلى النهار)، وهو عنوان ليس بعيدا عن عنوان روايتنا الحالية.
هكذا تحولت القرية إلى « ( أليغوريا) للحياة والموت، انتصر فيها الإنسان للحياة من عمق الموت. وبفضل هذه الأسطرة انتقلت القرية ، من مكان معزول في العالم، إلى دلالة العالم برمته.
هوامش:
1-سعد القرش: أول النهار.
2- من قصيدة بعنوان: جزيرة شدوان.والنص يحكي عن المقاومة البطولية - معارك القنال- لمصر ضد الاحتلال الانجليزي.
3-شوقي: موسوعة الفولكلور والأساطير العربية.مكتبة مدبولي1995.ص.75.
4- الرواية.ص.176


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.