صدرت عن مجموعة الأحمدية بالدار البيضاء مؤخرا رواية بعنوان « زريعة البلاد « للقاص والروائي الحبيب الدائم ربي ، وتمتد على مدار 112 صفحة من الحجم المتوسط ، مبوبة إلى فصول وبالأدق حكايات صغرى (خروب بلادي ، حكاية ملفقة من ألف ، حكاية أخرى مضحكة لكنها لا تسر ، صدق أو لا تصدق ، الحكاية وما فيها ...) تطرح تنويعا سرديا (زوايا نظر ) في الاشتغال على أسرة صغيرة بين بلدة الشعاب ومدينة سيدي بنور ( البنورية كما تسميها الرواية ) ضمن فترة تاريخية أربعينات القرن الماضي موسومة بالقحط . هذا فضلا عن انعكاسات الظرف التاريخي العام ( الحرب العالمية الثانية ) . غير أن الكاتب قدم حكاية هذه الرواية بين الذاكرة والمستقبل ، أي الذهاب في الزمان وراء وأماما . تقدم لنا هذه الرواية حياة أسرة آ ل السلومي ، بالتركيز على حياة وموت شخصية السلومي من منظور أهله وقبيلته . والملاحظ أن هذا الموت قدم وفق حكايتين متعالقتين ، الأولي تقول بموت السلومي الغريب والغرائبي الذي امتد لجنازته التي تحولت إلى محفل ، والثانية تعتبره موتا عاديا لحياة هي كذلك . تقول رواية « زريعة البلاد « ص5 : «ولأغراض غير مدركة المرام تبارى مشاؤون بنميم في تصريف القول ( البهتان ) ، الذي ما قيل ، إلى نفي قاطع أو إثبات جازم : ما قال « يا خسارة « وإنما قال « طوزا ميرد « . والدليل أنه كان محاربا في جيش فرنسا وبقي لسانه أعوج مبرطما حتى أ دى مولى الأمانة أمانته «. غير أن ما يثير في هذا العمل الروائي ، هو التتبع الدقيق لشخوص بعينها ، ورصد مسارات حيواتها المتعالقة ضمن مشترك مكاني وثقافي موسوم انثربولوجيا ببصمة خاصة في العيش ، والتصور للموت أساسا هنا . فبدا المكان كأنه امتداد طبيعي للقوى الفاعلة التي تكتسي معانيها من خلال علائقها المختلفة ، فشخصية سالم السلومي العسكري السابق في صفوف الجيش الفرنسي والذي خاض إلى جانبه حروبا قومية (الحرب العالمية الثانية ) لكنه يعود خالي الوفاض إلا من أرضه الصغيرة وقريته وفيما بعد مدينته البنورية . إنها شخصية قدمت وفق حكايتين متناقضتين تماما ، الأولى نفخت تحت ضربات الوهم ، تحول السلومي بموجبها إلى غني ( خرافة الرباط مثلا ) ..حكاية غنية با لغرائبي والعجائبي حولت حياة وموت السلومي إلى أشباح مجسدة توهم بالواقعي والسند . أما الحكاية الثانية فقدمت حياته وموته بشكل عاد جدا . وضمن هذه الحكاية يعيد السارد ترتيب الوقائع من جديد ، رافعا الالتباس الحكائي . فبدا سالم قاصدا البنورية للعيش رفقة شخوص مماثلة باحثة عن ظل آمن ، فتكاثرت زريعة البلاد أي أن سماء هذا الحوض القبلي أكثر إنجابا وخصوبة . تقول الرواية قيد العرض في ص . 86 « بنات الشعاب كلهن، رغم العوز، موردات الخدود. يأتي الجفاف ولا ينقطع الغرس ، يحصد الموت الصغير والكبير ، اليابس والأخضر وتظل البلدة ناغلة وحدها أم التاقي كانت غريبة وما أنجبت غير ثلاثة بطون . أما نسوة بلدة الشعاب فولادات : زريعة البلاد «. وغير خاف ، أن الكاتب مثلما يعارك الواقع السفلي ليمتد ويجري في اللغة والتخييل ليشبهنا؛ يعارك أيضا الحكاية كأنه يسعى إلى التحرر من قبضتها ، مكسرا لتراتبيتها ومنظورها الأوحد . في « زريعة البلاد « حكاية واحدة ، قدمت بطريقتين ، ولكل حكاية حكاياتها الأخرى ، فالواحدة تؤدي بك للأخرى إلا أن تلفظك للموت كما يطرح ويتأمل السارد . وعليه ، يمكن اعتبار الحكاية في رواية « زريعة البلاد « متعددة الوجوه بشكل دائري بين خسارتين ، الخسارة الأولى متولدة من أسف بالغ على موت السلومي ، والخسارة الأخيرة : خسارة الحياة ، من خلال تأملات السارد في الموت . يبدو أن الكاتب مثلما يسعى إلى تحويل بلدة الشعاب إلى بلدة عالمية تقدم قبيلة في عيشها وطقوسها ( العلاقة بالموت ) ، يراقب الحكاية بكثافة سردية عالية في تعددها اللغوي ، في توظيفها للهجة اليومية دون تليينها ، في منظورها السردي المغاير ، في بسطها للحكاية ككبة خيوط .. فبدت الحكاية كورشة تتخلق أمام القارئ وبإمكانه المشاركة في بنائها من الداخل كرهانات واحتمالات غنية بنصها الغائب بما في ذلك الشفوي والذاكرة الجمعية .. وتجدر الإشارة أن الكاتب الحبيب الدائم ربي غني بمدونته القصصية ( حروب صغيرة، طاحونة الأوهام ، زهرة الاقحوان... ) والروائية ( المنعطف، أهل الوقت )؛ بل والنقدية ( آليات الإبداع والتلقي ، الكتابة والتناص عند جمال الغيطاني ...) . وهو ما انعكس على هذا النص الصعب المصاحبة ، لأنه لا يسعى إلى قول الأشياء حكيا، بل حكي الحكاية أيضا.