منذ نحو خمسين عاما خلت، وقف كوامي نكروما مخاطبا الزعماء الأفارقة في القمة التأسيسية لمنظمة الوحدة الأفريقية بأديس أبابا عام 1963 بقوله: «إننا أمام اختبار حقيقي اليوم. إما أن نخطو خطوة إلى الأمام لتحقيق الاتحاد الأفريقي أو نتراجع إلى الوراء نحو الركود وعدم الاستقرار والوقوع فريسة سهلة للتدخل الأجنبي». ويبدو أن الزعيم الغاني، الذي ارتبط اسمه بحركة الوحدة الأفريقية، قد ذهب بحلمه الوحدوي بعيدا، حيث تغلبت اعتبارات الاستقلال والسيادة الوطنية على آمال الاندماج والوحدة. ماذا حدث، إذن، لأفريقيا والأفارقة بعد هذه العقود الخمسة الماضية؟ لقد كان الاحتفال باليوبيل الذهبي للاتحاد الأفريقي في قاعة الألفية في أديس أبابا مخيبا للآمال، حيث افتقدت القارة جيل الزعماء الكبار، أمثال نكروما وعبد الناصر وسيكوتوري. لقد أصبح الاحتفال أشبه بمسرح الهواة الذي هجره المتفرجون، فالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند كان يخاطب في قاعة شبه فارغة من الحضور حتى إن وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، اضطر إلى إلغاء خطابه المقرر سلفا أمام القمة الأفريقية. من الواضح أن أفريقيا قد وقعت في المحظور الذي حذر منه نكروما.. إنها تبدو وكأنها خطت خطوة واحدة إلى الأمام وخطوتين إلى الخلف، فهي لا تزال تعاني الفقر والصراع وعدم الاستقرار. ومما يزيد الطين بلة أن أجواء مؤتمر برلين 1884-1885 التي قسمت أفريقيا بين القوى الأوربية قد عادت، مرة أخرى، لتطل برأسها وبمشاركة قوى دولية كبرى غير أوربية. أليست مؤتمرات لندن وباريس الخاصة بالقرن الأفريقي والساحل والصحراء بمثابة بعث جديد للتكالب الدولي على الثروة والنفوذ في أفريقيا؟! اللافت للانتباه حقا، في ظل هذا التراجع الأفريقي، أن الخاسر الأكبر هو مصر ونظامها الإقليمي العربي بشكل عام، فالأفروعربية التي عبرت عن التلاحم العربي الأفريقي في عصر التحرر الوطني من الاستعمار -والذي جسده نكروما نفسه بزواجه من سيدة مصرية- كانت هي أولى ضحايا تصدع حلم الوحدة الأفريقية. كما أن انفصال جنوب السودان وظهور المارد الإثيوبي بمساندة غربية وإسرائيلية، بالإضافة إلى حروب القرن الأفريقي والساحل والصحراء، قد أدى إلى إقامة الفواصل بين كل ما هو عربي وما هو أفريقي. وسوف نحاول رصد بعض هذه الظواهر التي أدت إلى التراجع العربي الاستراتيجي في الامتداد الأفريقي. حروب الساحل والصحراء لا شك أن التدخل الفرنسي في أزمة شمال مالي قد أدى إلى تفجير منطقة الصحراء بأكملها، وهو ما ينعكس سلبا على أمن واستقرار دول الجوار العربية، مثل موريتانيا والجزائر وليبيا، وبشكل غير مباشر مصر. فالحسابات الفرنسية، التي ترمي إلى المحافظة على مصادر اليورانيوم في النيجر، لا تعنيها في شيء مطالب الحركة الأزوادية المشروعة في شمال مالي والتي عانت من الظلم والتهميش منذ الاستقلال. وإذا كانت القوات الفرنسية والأفريقية قد أعادت الأمور إلى نصابها في مالي بقوة السلاح، فإن جذور المشكلة باقية وهي تستعصي على الحل العسكري. لقد خرج آلاف المقاتلين من السلفية الجهادية من مالي إلى دول الجوار في النيجر وتشاد وليبيا والجزائر وموريتانيا، وهو ما يعني توجيه تهديد مباشر إلى أمن واستقرار المنطقة ككل. وقد تحقق هذا التهديد على أرض الواقع في مناسبتين، أولاهما: الهجوم الذي قادته كتيبة تابعة للجزائري مختار بلمختار في يناير 2013 على عين أميناس للغاز، وقد انتهت هذه الأزمة بشكل دموي مع تدخل القوات الجزائرية الخاصة؛ ثانيتهما: الهجوم المزدوج بالنيجر في 23 مايو 2013 الذي قادته كتيبة «الموقعون بالدماء» على أحد مناجم اليورانيوم في أرليت وموقع عسكري في أغاديز، وهو ما أدى إلى مقتل نحو 26 شخصا بعد تدخل القوات الفرنسية. ولا شك أن المنطقة الصحراوية الأفريقية باتت تشكل نقطة ضعف أمني واستراتيجي بالغة الخطورة، فالنيجر، التي تعد رابع منتج لليورانيوم في العالم، تقع بين منطقة صخرية وحزام السافانا الأفريقية، كما أنها تاريخيا تستعصي على السيطرة المركزية، وتعد ملاذا آمنا للخارجين عن القانون والرافضين لعصا الطاعة في بلدان الجوار. وتحتفظ النيجر بحدود طويلة تبلغ مئات الكيلومترات مع كل من مالي والجزائر وليبيا ونيجيريا؛ فماذا عساه أن يفعل جيش النيجر الصغير الذي يبلغ قوامه نحو اثني عشر ألف جندي لتأمين هذه الحدود البرية الطويلة؟! حروب القرن الإفريقي إذا كانت حروب القرن الأفريقي التي تتركز في الصومال وبمشاركة قوات من خمس دول أفريقية، أبرزها إثيوبيا وكينيا وأوغندا وبوروندي، قد قاربت على الانتهاء من خلال الحسم العسكري، فإن دور الغرب، ولاسيما بريطانيا، بات هو الأبرز في صياغة مرحلة الإعمار وإعادة الصياغة الجيو-استراتيجية للمنطقة ككل. ويمكن النظر إلى مؤتمر لندن الثاني لإعمار الصومال في السابع من مايو 2013 على أنه إعلان رسمي عن استبعاد مصر من خريطة المعادلة الاستراتيجية في القرن الأفريقي لصالح قوى إقليمية ودولية. لقد حظيت حكومة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود بالاعتراف الدولي، ولاسيما من قبل الولاياتالمتحدة والمؤسسات الدولية المانحة، كما أن المملكة المتحدة أعادت افتتاح سفارتها في مقديشيو. وقد عبر رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، صراحة أمام مؤتمر لندن، بأن الصومال تمثل أولوية استراتيجية للمملكة المتحدة، حيث تسعى الحكومة البريطانية إلى تحقيق هدفين اثنين: أولهما القضاء على خطر الشباب المجاهد، والثاني ألا تؤدي الفوضى العارمة في الصومال إلى موجة نزوح جماعية جديدة تجاه بريطانيا. على أن التطور اللافت في الصومال هو الإعلان في 15 مايو 2013 عن فوز أحمد مدوبي، الموالي لكينيا، برئاسة إقليمجوبا لاند (أزانيا) على الرغم من عدم اعتراف الحكومة الفيدرالية في مقديشيو بهذا الإقليم. يعني ذلك أن كينيا استطاعت تحقيق هدفها الاستراتيجي بعد عامين من تدخلها العسكري في الصومال بخلق منطقة عازلة في كيسمايو تكون امتدادا أمنيا واستراتيجيا لها، وذلك في مواجهة خطر الحركات الإسلامية الراديكالية التي تؤمن بحلم الصومال الكبير. وتكتسب منطقة جوبا لاند في جنوب الصومال أهمية استراتيجية بالغة، حيث تغطي مساحة تزيد على 33 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها نحو 1.3 مليون نسمة، وهي تحظى بمشاطأة للمحيط الهندي وتحدها كينيا وأجزاء من جنوب إثيوبيا ومنطقة غيدو. يعني ذلك، بصراحة شديدة، انتصار كينيا وخسارة الصوماليين وامتدادهم الاستراتيجي في مصر والوطن العربي. حروب السدود والمياه لقد أفاق المصريون، الذين أعلنوا الحرب على أنفسهم وتفرقوا شيعا وأحزابا بعد رحيل نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك منذ نحو عامين، على هول المفاجأة الكبرى، وهي تحويل مياه النيل الأزرق في 28 مايو 2013 لاستكمال إنشاءات سد النهضة العظيم في إثيوبيا. ولم تكن المفاجأة في عملية التحويل نفسها ولكن في توقيتها، حيث إنها جاءت بعد لقاء الرئيس المصري محمد مرسي في أديس أبابا مع رئيس الوزراء الإثيوبي هيلامريام ديسالجن على هامش اجتماعات القمة الأفريقية. ويبدو أن الثقة المفقودة بين كل من مصر وإثيوبيا عبر العصور تدفع باتجاه التصعيد وقرع طبول الحرب حتى إن البعض طالب علنا باستخدام القوة العسكرية لتدمير سد النهضة. وبغض النظر عن تضارب التقديرات والأرقام الخاصة بتأثيرات سد النهضة، فإن مصر مقبلة، لا محالة، على مرحلة العطش المائي، إذ إنها تستهلك اليوم حصتها الكاملة من المياه، وبحلول عام 2050 سوف تكون بحاجة إلى نحو 21 مليار متر مكعب إضافي لمواجهة الزيادة السكانية. وفي كل الأحوال، فإن تحويل مجرى مياه النيل لملء خزان سد النهضة سوف يؤثر يقينا على تدفق المياه باتجاه دولتي المصب (مصر والسودان). على أن النقطة المهمة هنا التي يمكن أن تكون أساسا لعملية تفاوضية ناجحة هي أن الكمية من المياه والمدة الزمنية التي ستؤثر على مصر سلبا تعتمد على الطريقة التي تقوم من خلالها إثيوبيا بملء الخزان. وتزعم إثيوبيا أنها سوف تستخدم السد لإنتاج الكهرباء فقط، حيث من المتوقع أن تصبح أكبر منتج للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، أما إذا قامت باستخدامه لأغراض الري والزراعة فإنها سوف تقوم قطعا بتحويل ما يربو على 18 مليار متر مكعب من المياه، وهو ما يضر بالأمن المائي المصري ضررا` بالغا. ويبدو أن مصر وجدت نفسها في معضلة حقيقية، حيث إن الحل العسكري غير مضمون العاقبة ويبدو مستحيلا، كما أن الإصرار الإثيوبي والدعم الدولي لها لا يضمن نجاح الحل التفاوضي. وعليه، فإن على مصر أن تتبنى أساليب غير معتادة للدفاع عن أمنها المائي. ولا شك أن ثمة بدائل عديدة، غير الحل العسكري والصراعي، يمكن لأي إدارة مصرية ناجحة أن تعتمد عليها للخروج من هذا المأزق الخطر. وفي جميع الأحوال، طبقا لتقرير اللجنة الثلاثية لتقييم سد النهضة الإثيوبي، يتعين على مصر الدخول في عملية تفاوضية جادة مع إثيوبيا لأن تنفيذ سد النهضة دون التفاوض مع مصر يعني وقوع المصريين بين مطرقة الجوع وسندان العطش. الخلاصة التي تثير الفزع والخوف من الترتيبات الإقليميةالجديدة في جوارنا الجغرافي هي أن الحروب الأفريقية، التي استدعت التدخل الغربي تحت غطاء محاربة الإرهاب والراديكالية الإسلامية، إنما هي تدشين لمرحلة جديدة من التكالب الدولي على الثروات والموارد الأفريقية، وذلك من خلال انتهاج أدوات وسياسات جديدة. كما أن ملف سد النهضة يتضمن أيضا تدخل قوى وأطراف دولية داعمة وممولة له، وهو ما يدفع إلى التوتر والصراع بين كل من مصر وإثيوبيا. وإذا كانت الشعوب الأفريقية هي الخاسر الأكبر في ظل هذا الإحياء الاستعماري الجديد، فإن المصالح العربية الاستراتيجية، ولاسيما المصرية منها، قد تعرضت للتهديد المباشر في محيطها الأفريقي.