براحة بال، وخلال أكثر من أربعة أسابيع، تفرج العالم الغربي، ممثلا في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا، على المحرقة الإسرائيلية النكراء التي ارتكبها الجيش الصهيوني في حق سكان غزة العزل. محرقة تسببت في قتل ما يزيد على 1300 شهيد وجرح ما يفوق 6000 شخص، معظمهم من الرضع والأطفال والفتيات وبعض النساء الحوامل اللائي كن على وشك وضع أحمالهن. أكثر من 10.000 طن من القنابل الفتاكة تساقطت على أهل القطاع الأبرياء... قنابل من مختلف أشكال التقتيل الممنهج التي تتفنن في تمزيق وشي وتفحيم جثث الرضع والشيوخ والنساء والصبيان على مرأى ومسمع من العالم بأسره. منها الانشطارية، ومنها قذائف المدرعات، ومنها ذخائر حية باليورانيوم المضعف، التي حين تلتصق بالجسد تفتك بالكلى فتكا منكرا، وتتسبب في آلام عظمية حادة مع إتلاف الذاكرة وإثارة اضطرابات رهيبة في الجهاز العصبي برمته. وعلاوة على كل هذا، فإن الجيش الصهيوني لم يتورع في استعمال قذائف مصنوعة بالفسفور الأبيض. وهي قذائف جهنمية تحدث أفظع الحرائق في الجسم البشري. وقد قامت أسبوعية «التايمز» البريطانية بالكشف عن ذلك، حين استطاع بعض صحفييها نشر صور نادرة تظهر مخزونا لهذه القذائف على الحدود مع غزة، كتب عليها بالخط الواضح الفصيح: م. 825. أ 1، أي بمعنى أنها قذائف أمريكية الصنع. ونحن إذ نورد هذه التفاصيل، فإنما نريد فقط أن نقيم الدليل القاطع على أن الغرب هو طرف أساسي في هذه المجزرة الإنسانية الشنيعة. كما أنه من باب التذكير أن نشير هنا إلى التصريح الذي أدلى به إفيغدور ليبرمان يوم 13-1-2009 في إحدى المحاضرات أمام طلبة «بار إيلن»، وهو بالمناسبة رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» ووزير سابق، حيث اقترح على حكومته أن تلقي بقنبلة نووية على قطاع غزة، في تلميح فاضح إلى القنبلتين النوويتين اللتين ألقتهما الولاياتالمتحدةالأمريكية على مدينتي هيروشيما ونكازاكي اليابانيتين. هذا التصريح الخطير اختفى بسرعة من الخطاب الصحفي الأوربي، بحيث إنه لم يظهر له أثر لا في الصحف ولا في التلفزيون، ولم يترتب عليه طبعا أي نقاش أو سجال، علما بأن الدولة العبرية تمتلك أكثر من 100 قنبلة نووية... نحن نتساءل: ماذا كان سيحصل من القائمين على الصحافة الغربية لو أن مثل هذا التصريح خرج من فم مسؤول عربي أو إسلامي؟ لا شك أن الدنيا كانت ستقوم ولن تقعد... إن هؤلاء الصحفيين المتحيزين البالعين لألسنتهم اليوم، هم أنفسهم الذين لا يخجلون من الترديد إلى حد الإسهال، أن حماس وقذائفها المصنوعة محليا هي المسؤولة الوحيدة عن ضحايا غزة. إنهم لا يسأمون من التصريح بذلك وهم يدركون طبعا أن ذلك مجرد بهتان يريدون به إلباس الضحية جلباب الجلاد، وجعل الطرفين المتصارعين على قدم المساواة من حيث القوة والعتاد، والله والعالم بأسره يشهد إنهم لكاذبون... فهذا الجيش الإسرائيلي يقدر عدده ب: 600.000 رجل وامرأة مجهزين ب: 2500 مدرعة و7.000 آلية أخرى مصفحة و465 طائرة مقاتلة منها 25 سوبير فانطوم، و40 ف 16، و14 بارجة حربية منها ثلاث غواصات من نوع 800... والقائمة طويلة لا حصر لها... بينما في الجهة المقابلة، نجد 15.000 مقاوم فلسطيني لا يملكون لا طائرات ولا دبابات ولا غواصات ولا مصفحات ولا حتى مضادات للطائرات... كل سلاحهم بنادق، وقاذفات صواريخ و... ربنا عليك توكلنا... نعم... على مدى أربعة أسابيع والفلسطينيون العزل يُمطرون من السماء والأرض والبحر بوابل جهنمي من الحديد والنار تحت أنظار زعماء هذا العالم الذين يدعون الحضارة والمدنية، والذين آثروا غض الطرف رغم ما نقلته أقمارهم الاصطناعية المتطورة من صور بشعة للرضع المشويين والأطفال المحروقين. أكثر من ذلك... إن العزة بالإثم ذهبت ببعضهم إلى حد الادعاء بأن هذه المحرقة المهولة مسموح بها لإسرائيل مادامت تدخل في صميم دفاعها المشروع عن نفسها. أما في المجال الإعلامي الغربي، فعلى امتداد أربعة أسابيع، ظل الصمت شبه المطلق سيد الموقف: فهذه صور مخدومة مطهرة من البشاعة تنشر هنا، وتلك معلومات تافهة ترقى بالكاد إلى خانة الأخبار المختلفة تبث هناك... وبين هذه وتلك، تعاليق مستفيضة تصب كلها في النهاية لصالح الكيان الصهيوني، مدعمة بكم هائل من صور صواريخ المقاومة، يدعون فيها زورا أن حماس هي أول من بدأت بخرق اتفاق الهدنة، في حين أن الجيش الإسرائيلي قام بخرقه في تلك المدة 190 مرة دون أن يتجرأ الإعلام الغربي، مجرد تجرؤ، أن يذكر ولو خرقا واحدا، علما بأن بعض الأرشيفات التي هي في متناول من هب ودب، يمكن الحصول عليها عبر الأنترنيت في الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية الإسرائيلية، تشهد بكل صلف على أن إسرائيل خرقت اتفاق الهدنة في شهر نونبر، حين دخلت إلى مدينة غزة لتصفية ستة أو سبعة من المقاومين. وهنا، يشهد الموقع على نفسه، بأن حماس ردت على هذا العدوان بإطلاق صواريخها... ومن البديهي أن كل هذه المعلومات لا يمكن أن تخفى طبعا عن زعماء هذا العالم، الذين يتشدقون بالحضارة والمدنية. ولم تعد بعض الصور والتصاريح عن هذه المأساة الإنسانية تتسرب في خجل إلا في الأسبوع الرابع، خصوصا بعد أن أصيبت بعض المؤسسات التابعة للأمم المتحدة بالدمار. في مقابل ذلك، فإن الذي أُبرز بشكل أساسي ومبالغ فيه، هو مقتل 20 إسرائيليا... أما ما يزيد عن ألف ضحية من الجهة الفلسطينية، فلم تحظ من الإعلام الغربي إلا ببعض ثوان خاطفة وحزمة من الصور المنقحة المعقمة، حتى إن قناة «ت. ف.1» الفرنسية، صادرت صورة لأب فلسطيني وهو يشهر أمام العالم جثة ابنه المفحمة، وذلك «خوفا من صدم أنظار المشاهدين الكرام»... دونما أي اكتراث بحرقة الوالد الملتاع المنكوب في فلذة كبده، وكأنما قدرنا نحن العرب هو أن نُقتل ونشرد ويُنكل بنا، بينما قدر الإسرائيليين هو أن يُدللوا ويُنَعموا ويترك لهم الحابل على الغارب ليفعلوا ما يشاؤون... وعلى ذكر الخطاب الإعلامي الأوربي، سواء المكتوب منه والمرئي، نقدم لكم إحدى عشرة قاعدة أصبح استحضارها ضروريا كلما شاهد أحدكم نشرة الأخبار في المساء أو طالع جريدته في الصباح، حيث في كلتا الوسيلتين الإعلاميتين يبدو كل شيء سهلا واضحا: القاعدة الأولى: في الشرق الأوسط، العرب هم من يبدؤون دائما بالعدوان، أما إسرائيل الضحية، فلا تفعل شيئا غير الدفاع عن نفسها، ورد فعلها هذا ينعت بالعقوبة المشروعة التي يحق لإسرائيل أن توقعها على الفلسطينيين. القاعدة الثانية: العرب، سواء كانوا فلسطينيين أو لبنانيين، ليس لهم الحق أبدا في قتل المدنيين الإسرائيليين، لأن ذلك يسمى إرهابا. القاعدة الثالثة: من حق الإسرائيليين أن يقتلوا المدنيين العرب، لأن ذلك يسمى دفاعا مشروعا عن النفس. القاعدة الرابعة: عندما تقتل إسرائيل عددا هائلا من المدنيين، فإن القوى الغربية تدعوها إلى مزيد من ضبط النفس، وهذا يسمى رد فعل المنظومة الدولية. القاعدة الخامسة: ليس للفلسطينيين واللبنانيين الحق في أسر الجنود الإسرائيليين، ولو كان عددهم محدودا لا يتعدى ثلاثة جنود. القاعدة السادسة: للإسرائيليين الحق الكامل في أسر العدد الذي يريدونه من الفلسطينيين (عدد الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يقدر ب10000 فلسطيني، بينهم 300 طفل) دون تقيد بعدد أو بحجج أو ذرائع، إذ يكفي أن تطلق عليهم الكلمة السحرية «إرهابيون»، ليكون ذلك تبريرا مقبولا من طرف الغرب. القاعدة السابعة: عندما تذكر حزب الله، فينبغي عليك دائما أن تضيف عبارة: «المدعوم من طرف سوريا وإيران». القاعدة الثامنة: إذا ذكرت إسرائيل، فحذار أن تضيف عبارة: «المدعومة من طرف الولاياتالمتحدة وفرنسا وأوربا»، لأن ذلك من شأنه أن يلمح إلى عدم تكافؤ القوى. القاعدة التاسعة: إياك أن تتكلم عن الأراضي المحتلة، أو القرارات الأممية، أو الخرق السافر للقانون الدولي ولمعاهدات جنيف، فإن ذلك من شأنه أن يزعج المشاهد الكريم ويقلق المستمع المدمن لإذاعة فرانس أنفو. القاعدة العاشرة: الإسرائيليون يتحدثون اللغة الفرنسية بطلاقة لا توجد عند معظم العرب، لهذا يُدعون إلى التحدث أكبر عدد ممكن من المرات إلى وسائل الإعلام الغربية لكي يفسروا لنا بإسهاب القواعد التي أتينا على ذكرها من 1 إلى 9، وهذا يسمى عدم الانحياز الإعلامي. القاعدة الحادية عشرة: إذا لم تكن موافقا على كل هذه القواعد، أو إذا رأيت أنها تنحاز إلى طرف في النزاع على حساب الطرف الآخر، فاعلم أنك عدو خطير للسامية. ملحوظة: هذا المقال ظهر في مجلة «بوليتيس» لكاتبه برنار لانكلوا... عشية يوم السبت المنفرط، ظللت مسمرا أمام التلفزيون أتابع مؤتمر الدوحة، غير أنني حين التجأت إلى الأنترنيت، لم أجد لهذا الحدث أثرا على موقع «النوفيل أبسرفاتور» أو موقع «لوموند» مثلا... ربما سيتكلمون عن ذلك في اليوم الموالي... من يدري؟