تلقيتُ، خلال الأسبوع الفارط، رسالتين من شاعرين أجنبيين اختارا أن يطلا على ما يحدث بغزة، كل واحد من زاويته. الأولى من الشاعر الشيلي ألبرتو كورابل، أخبرني فيها أنه أجهش بالبكاء، رفقة زوجته سوزانا، حينما فتح جهاز التلفاز على صورة لجثة طفلة رضيعة جنب جثث أفراد عائلتها. قال لي ألبرتو إنه أحس كما لو أنه فقد طفلته التي لم يُرزق بها أبدا، وهو الذي أمضى خمسا وعشرين سنة منفيا، رفقة سوزانا، بكندا، بعد انقلاب الشيلي وبعد وفاة صديقه المبدع والموسيقي المشهور فيكتو خارا، الذي أقدم الانقلابيون على بتر أصابعه التي كانت تعزف للثورة. أعرف ألبرتو كورابل جيدا. شاعر ومناضل على طريقته. جال مدن كندا بقيثارته. وخلال خمس وعشرين سنة التي قضاها بمدينة مونتريال، لم ينس أبدا موطنه وأغاني الثورة وذكرياته مع فيكتور خارا. وأذكر جيدا موقفا بليغا له. فقد اختار منظمو المهرجان الشعري لمدينة تروا رفيير الكندية أن نقضي يوما بكامله داخل زنازين سجن قديم بالمدينة، تم إغلاقه لظروفه القاسية وتحويلُه إلى متحف، يُسيره موظفو السجن أنفسهم. وكانت الفكرة أن نعيش نفس ظروف السجناء، مع استثناء وحيد كان خلال وجبة العشاء، حيث جمعت نفس المائدة الشعراءَ «السجناء» والسجانين. كما اختار المنظمون أن يتم بث قراءات شعرية مباشرة عبر راديو كندا، من داخل الزنازين بالطبع. وحينما نطق ألبرتو كورابل اسمَ الشيلي في إحدى قصائده، أجهش بالبكاء، متوقفا عن القراءة، خلال أكثر من خمس دقائق. وسمعتُ المخرج يطلب من مساعديه التقنيين الاستمرار في البث المباشر. خمس دقائق من الصمت مرت عبر أثير إذاعة كندا، كانت أشبه برد على البيان الأول الذي اختار الإنقلابيون قراءته عبر إذاعة الشيلي سنة 1973. الرسالة الثانية جاءتني من الشاعر الكندي إميل مارتل، بطلب مني هذه المرة. إذ كنت أنوي إعداد شهادات لكتاب أجانب عما يحدث بغزة، ثم عدلت عن الفكرة، إذ لم تترك لي الفظاعات التي ارتُكبَت مزاجَ الاستمرار في العمل. لم ينس إميل مارتل أن يحذرني من أن شهادته قد لا تنفع الملف الذي كنت أعده، ثم كتب بالحرف: «أعيش بعيدا عن الحرب، وأجد نفسي مشمئزا من هؤلاء البلهاء الأصوليين الذين يبحثون، بأي طريقة، بما فيها إرهاب الأبرياء، عن تدمير دولة. وكما يحدث في مثل هذه الظروف، تستعمل هذه الدولة كل الطرق وكل الإمكانيات من أجل الدفاع عن نفسها ضد الذين يريدون تدميرها. إسرائيل دولة ديموقراطية وأنا أحترم الأنظمة الديمقراطية» (كذا!). إميل مارتل قد لا يكون الشاعر الكندي الوحيد الذي ينظر إلى مأساة فلسطين من هذه الزاوية. ولحسن الحظ أن أغلب شعراء الكيبك يحتفظون بفلسطين داخل قصائدهم وداخل قلوبهم. فالشاعرة لويز لبليتيي، على سبيل المثال، قد نشرت قبل سنوات كتابا جميلا، سمته «فلسطين ستزهر». كما تحفل قصائد الشاعرة والروائية الكبيرة مونيك جوطوا بحضور خاص لأمكنة فلسطين وقراها الصغيرة. لكنني رغم ذلك، لا أفهم شخصيا كيف يستطيع شاعر أن يزيف الحقيقة وأن يجعل من مجرمي الحرب على غزة ضحايا يدافعون على دولتهم الديمقراطية، وأن لا ينتبه إلى كل هذا الألم الذي ينبعث من صور الضحايا من الأطفال والرضع. قد يفعلها السياسيون، وقد فعلوها بمكر كما رأينا، بما فيهم الإخوة. أما الشاعر فلا عذر له. كتبتُ ذلك لإميل كارتل. ثم سألته: «هل أنت شاعر بالفعل؟». لم يجبني. ولا يهمني أن أفقد صديقا يحب الديمقراطية، على طريقته، حتى لو كانت حمايتها تقتضي قتلَ شعب بكامله.