هل تسمعون أزيز سيّارته الزّرقاء المهترئة، يزعق في فراغ الأبديّة. ها ضوء فنارها كحباحب يعربد وحيدا في آخر الّليل، يشطر المدينة إلى نصفين، مارقا في شارع تلهث فيه كلاب «جياكوتي» الضّالة، شارع لا يفضي إلى شيء على ما يبدو، عند بوّابته الشّبيهة بثلمة جحيم، سيتبوّل على جدار مهدّم، كان قوس نصر فيما مضى لإحدى مدن «إيطالو كالفينو» الخياليّة، وقد حلج عن أعضاء جسده الهاذية معطف النّهار، كما صرّار متقاعد قرّر الاستغناء عن حكّ قدميه المعوليّتين اللتين تطرب لعزفهما الحادّ مخلوقات كافكاويّة شاردة في ظهيرة قانطة بالنصف الآخر من الكوكب المسمّى أرضا. ثلمة الجحيم تلك تتّسع لتصير ثقبا أسود ولا يتردّد في أن يقذف بفزّاعة جسده داخل دوامتها، ممتشقا علبة سجائر وزجاجة فودكا، وهو الذي توهّم من قليل الخروج من تداعيات و تهويمات المدينة الخرائبيّة وضجّتها الفارغة الكابية والموحشة، بسيّارته الطّروادية سيحتطب المسافة محرّضا أقاصي الخيال على الإفصاح المجازف بخيال الأقاصي. فقبّرات عزلته الفادحة لا تبتهج إلا وقدمه تدعك دوّاسة السّرعة المغامرة تماما كمغامرة اقتحامه لأفق غريب غير محمودة العواقب وهذه المضاعفات الجسيمة هي ما يجعله باستمرار يدمن الهاوية المفتوحة على رعب المآلات، ها دخّان السّيارة يرسم الدّوائر الإهليليجية لكائناته الممسوخة المرعوبة المنذورة لمصائر كارثيّة وجحيميّة، وها دخّان سيجارته يرسم نتوءات الغياب على زجاج النّافذة المخروم، نتوءات تتماهى والتهابات ميتافيزيقيّة لإحدى متاهات «إدمون جابس» التي تحترف هسيس الرّمال والصحراء، الغياب الصّاعق الّذي دأبت زجاجته على فضح سديم فوضويّته، ولا بدّ أن يطلّ من النّافذة ويصرخ مثل ذئب «هرمان هسه» في الخلاء الشّاسع الذي تشقّه السّيارة كنفق بصخب ضوء فنارها (أليست الكتابة الحقيقية هي الصّرخة التي يتردّد صداها طويلا في نفق الوجود) موغلا بشراهة في خارطة الّليل وكأنّ العتمة محبوكة من غربان توقظها حزمة الأشعّة المندلقة، فتحلق مفزوعة كي تتفادى رفسة الحيوان المحشرج ذي العجلات الأربع. تلكم هي الصّورة الشّبحية الأولى لبطل «هذيان الأعضاء» المأساوي التي تعلنها مهاوي السّرد المثلوم، هذه المهاوي التي يشرق بها أوّل الفخاخ مع علامة تمويه جنس الكتاب الموسوم بالقصصي، لأنّ القراءة الممعنة في النّصوص توقظ عدم الاطمئنان لكونها قصصا بالفعل، أي أنّ القصّة هنا مجرّد ذريعة لارتكاب فعل الكتابة، هذا الجوهر الخطير المنسي، ونوايا إتيان هذا الفعل الآثم غير معنيّة بتاتا بالحبّ المزمن الذي جعل من هذا النّوع المشاغب عقيدة عند زمرة من الكتبة وطريقة أحادية في فهم العالم مع فقدان شرعية انتهاك هذا الولع الأنطولوجي بالرّدة عليه وخيانته، إذ إن النّصوص تبدي عدم مبالاتها بهوس سرد حكاية أو تدميرها في آن، لا تسعى إلى هندسة فسيفساء القصّة اللاّطائل منه، بل يهمّها أن تضيء ملاذ القصّة في نسيانها ومحوها وغيابها، باستدراج المنفلت إلى كمين هشاشته الوجودية، ولا يني يتحول فعل الكتابة نفسه إلى شبهة بامتياز (فكل ما يميّزنا ينبع من مصدر مظلم ومشبوه من أعماقنا)، كما يقول إميل سيوران . وإن كانت نصوصا طاعنة في النّدوب والتشظّي، تمارس لذوعيتها الخاصّة عبر هامش التّقويض وإشاعة الهلامية واستشراء اللاّنسق، ففي لملمة التماعات محكيها المتعذّر على الإسترسال التلقائي، الواضح، المنبوذ طبعا، يمكن رصد هذا الخيط الماكر المفتول من قنب اللاّمرئي بين فصوص الكتاب والوقوف من ثمّة على أبيسوديّتها المضمرة. ينسلخ مصطفى الحسناوي في كتابته الانشطاريّة عن أفق النظرية وتبعات هرطقتها، كما يحشد لها كثيرون الضّجة والجعجعة والنّفير دون أن يتمثّل نصّ كتابة واحد لهم مقولة واحدة من دليل حصانتهم الفجّة، شاردا في ملاذات عزلته الأسطورية الهاجسة بأنقاض منافيه، تلهج بها لغته المسنونة التي تشهر الغياب بدل الحضور، لغة مثخنة بهشاشة الكائن، تقول تصدّعاتها الحميمة بقدر كبير من الهرمسة، مدجّجة ببياض كثير يعوي بين شذرات النّص ومفرطة في صمت يطنّ بأزيز الدّبابير المدوي بين الكلمات... هذيان الأعضاء كتاب مفتون بالهسيس، هسيس الكينونة الهازج بالتّمفصلات والتّبدلات الحرّى، يجاور في توهّجه الصّيرورة العنيدة لحيوات تعيش على الحافّة بين الغياب والنّسيان، يرصدها الحسناوي من شرفة ليليّة بهينمات تستنطق فراغ اليومي، مستضيفة لاختلالاته داخل كيمياء جنون يستغور ممكنه لا ليكشف المتواري فيه وحسب، بل ويستمزج هبة التأمّل بحذاقة تعقب اللانهائي في انطفاءاته والمضيء في أعتى قتامته، وهنا تبتهج يقظة التّهويمات الهاتكة لجوّانية الكتاب، الجوّانية الصّاخبة المسكونة بهاجس سؤال المآلات الرّهيبة. فشخصية نصوص «هذيان الأعضاء» الّتي تحيل على ذات المؤلّف الشّارخة والصّارخة في آن، تتنقل كطيف وصدى هلامي بين الأمكنة والنّداءات، بحضور شبحيّ لا يكاد يكون مؤكّدا، إذ يتربّص بفضيحة الوجود من كوة غياب فادحة، إنّه تماما شبيه بصورة «الهزار الشّيطاني» الذي يحلق بين الهاويات. ومصطفى الحسناوي الذي يعلن إدمانه الهاوية مولوع حدّ الوله بالرّقص على الحبل المشدود بين الجنون والعزلة، متّقد الخيال المشحوذ كمدية يغرزها في الكتف بين الأفق والمدى كي يطلّ أكثر على مكبّة الحياة الآهلة بالأنقاض والغرابة والهباء. وسط هذا الرّكام الفاحم يشقّ - بوجه غائر الحداد، موشوم بقساوة التكهّنات، يصرخ في يقظته العاتمة نداء الجنوب الفواح - نفقا نحو صحو شاسع بين النّسيان والموت، يشعّ فيه صباح الأركان المعتّق في منفاه الهسبريسي. في «هذيان الأعضاء» ما يؤكّد الأثر بدل البرهان بأنّ كتابة مصطفى الحسناوي حفر مرح في طبقات التّيه والصّمت، ما يشبه جينالوجيا النّسيان، بامتياز يقوله هذا الولع بالإقامة في الهوامش حيث يصيخ السّمع لهسيس الأبديّة ويرشقها بجذوات منافيه، إنه سيّد منافيه المشرعة على ضباب الأقاصي.