لم يكن لسكان مدينتي متنفسا سوى مقاهي الشاي التي تعد على رؤوس الأصابع، كانت مجموعة من الشيوخ تتسلى بلعب "الضاما" التي اشتهر بها متقاعدون عن الجندية، ألفوا حياة المعارك فلم يستطيعوا التخلص من ممارستها ولو على ميدان من الورق المقوى وعساكر من سدادات القنينات أو من قطع خشبية، مر من ساحة "المرس" فلن تسمع سوى صوت أحدهم: "نفخ هذي، جوج وضاما"... أو ترى آخر يعتدل في جلسته فارزا صدره كأنه طاووس: "سير فالواد أو لدي واطلع الضيم". لم أفهم آن ذاك سبب وضع مجموعة منهم أوراقا على حافة آذانهم أو تحت طاقيتهم حتى أخبرني أحد الأصدقاء، أنها إعلان عن هزيمة في معركة دارت رحاها على تلك الرقعة العجيبة. مجموعة أخرى تجمعت في أركان المقاهي رباعا رباعا لتلعب الورق تتوسطهم حبات حصى. "روندا.. طرنكا.. ميسا.. إستي" مصطلحات غريبة لا وجود لها في قاموس اللغة العربية، إلا أنها أصبحت لغة ذات مرجعية للعبهم الذي لا ينتهي إلا بسماع "حبل وبنت" إعلانا عن فوز فريق على آخر. أما نحن الصغار لم يكن لنا مكان بينهم فكنا مولعين بالذهاب إلى ساحة "المرينة" لحضور "الحلقات" التي تنظم كل مساء: "قاص ضابو" و"ولد حليمة العويرة" يحكيان الأزليات والعنتريات وقصص "ألف ليلة وليلة"، "بامو" يأمر قرده "سعدان" بتقليد شخصيات من المجتمع أو أعمالهم (نوم الكسول عجين الفلاحة...) و"باحمو" يبهر بعروض كلبه الذكي "تشيكو" جميع الحاضرين. أذكر جيدا أنه لم يجرؤ أحد على الجلوس على تلك الحجرة الكبيرة التي تحتل موقعا بارزا على محيط حلقة "قاص ضابو" والمخصصة ل "خاي أحمد" أقوى رجل في المدينة. أما "كاكا" فاستطاع بخبرة (قل نظيرها في الركوب الدراجات) أن يحتل مكانة مرموقة داخل "حلقات" المرينة، يقوم بألعاب بهلوانية تبهر الكبار قبل الصغار"، يدور داخل محيط الحلقة على دراجته دون الإمساك بمقودها ويرفع أحد عجلاتها في السماء، يسوقها في الاتجاه المعاكس دون النظر إلى الخلف، بمهارته العالية يجعلها تدور لوحدها ويأمرها بالعودة إليه وهو يصيح: "ويكا" "ويكا" تعالي إلى هنا. فتعود إليه خانعة طائعة، كأنها حيوان أليف. ما أروعه وهو يتصدر سباقا للدراجات رافعا يديه إلى السماء عند نقطة الوصول كما لو كان طارق بن زياد وقد دخل بلاد الأندلس. كان سعيدا بحياته، يختال في مشيته أثناء تجواله في شارع "مولاي علي بوغالب" هذا يوجه له تحية إكبار وآخر يعانقه كما لو سجل هدفا رائعا، كان نجما ساطعا يضاهي نجوم "هوليود" شهرة. طويل القامة، أنيق الملبس، حليق الدقن باستمرار ويضع ذهن "البرنتين" الإسباني على شعره الناعم المسرح إلى الخف. غير أن دوام الحال من المحال، غزا العمران ساحتا "المرينة" و"السويقة" وأعدم "الحلقة" وألقى بملوكها "قاص ضابو" "و"ولد حليمة العويرة" "بامو" وغيرهم في خزان المنسيات. بقي "كاكا" يجول شوارع المدينة على متن دراجته التي لم تعد نشيطة كعهدنا بها تآكلت عجلتيها وأصاب الصدأ إطارها المعدني، حزنا على ماض ولى وجمهور غادر مسرحها. وجدته ذات يوم يخاطب معشوقته "ويكا": لم أعد قادرا على إعالتك أيتها الغالية، لا شيء فيك لا ينقصه شيء. تركها مسندة على الجدار الخلفي لسينما "بيريس كالدوس" الذي التهم جماهيرا كانت بالأمس لا تبارح حلقتها، وانصرف إلى حجرته التي اكتراها في أبخس فندق بحي "الديوان" لكنه ما كاد أن يصل إلى بوابته العتيقة، حتى وجدها ترن له على عتبته وتحرك عجلتها الخلفية فرحا لرؤيته ، ولأنها سبقته إلى مرقدها المعهود، انفجر "كاكا" ضاحكا: يا لك من مخلصة، أتقبلين بي في الحلو والمر؟! كل صباح كان يجلس على حافة إحدى أرصفة حي "السويقة"، يرثي أطلال حلقته وقد تحولت إلى حديقة ليقول في صمت: جميل أن تتحول ساحة لكم زرعت الفرحة في النفوس إلى حديقة ، وكأنني كنت بالأمس أزرع بها ورودا وأشجارا... استقر الحال ببطلنا على مقعد في مقهى يقابل مكتب "العدول" كأنه ينوي طلاقا ما، أفل نجمه ووضعه الزمان في أرشيف المنسيات، إلى أن جاءه عون السلطة: بلدية المدينة تحتاج إلى خدماتك. اعتدل "كاكا" واقفا كالفينيق الذي ينبعث من رماده، ورفع أنفه إلى السماء علامة على الرفض، لكن الجوع كان أقوى منه و من كرامته ، وقادرا على مسح الأرض بأعثى الأنوف. في صباح الغد استحم، حلق ذقنه بنصف شفرة كان يدخرها لمناسبة لم يكن ينتظرها حتى تصدأت، ثم مشط شعره إلى الخف بعد أن ذهنه بما تبقى من زيت في قاع قنينة لم تعد تقبل أية سدادة ، وارتدى قميصا باهتا و سرواله الوحيد الذي لم يعد يتقبل أية رقعة. لما دخل بهو بلدية المدينة لم يثر فضول أحد، تقدم نحو موظف غارق في سجلات طال طولها وعرضها. صباح الخير سيدي. فجاء صوت الموظف من أعماق بحار من الأرقام والحروف: أهناك خير أكثر من هذا؟ (مشيرا إلى تلك السجلات) ضع طلبك في مكتب الضبط. هم صاحبنا بالانصراف ، لكنه التفت نحو الموظف وكأنه تذكر شيئا. أنا "كاكا" لقد طلب مني الحضور. انتصب الموظف واقفا وكأنه ضبط من طرف رئيسه في عملية رشوة فاحت رائحتها. معذرة تفضل أهلا وسهلا، بفضلك يا أخي سأستطيع الذهاب إلى بيتي في أي وقت متأخر من الليل. لم يفهم هذا الزائر الغريب فك شفرة كلام الموظف. بعد طول انتظار استقبله المسؤول: لم ننساك يا "كاكا" لقد وجدنا لك شغلا مؤقتا. فرد عليه باعتزاز: شكرا على هذه الالتفاتة إلى من دفن في كهوف النسيان. ابتسم في محاولة لإضفاء جو من المرح وإذابة تلك الصخرة الثلجية التي كانت تجلس على كرسي دوار. كما أشكركم بالنيابة عن دراجتي "ويكا". أجابه المسؤول بعد أن أشعل سيجارة فخمة وابتسم ساخرا: دعك من الحلقة ومن "ويكا"، وابحث عن أريكة لتريح وتستريح. لكن "كاكا" لم يفهم المقصود لأن مؤخرته ما تذوقت قط نعومة الأرائك. وبكل وقاحة طلب منه المسؤول قنص الكلاب الضالة أثناء خلو الشوارع والأحياء من أهلها، سيما حول منزله الفخم، على اعتبار أن "كاكا" خبير بأماكنها ما دام قد تسكع لليال طوال بعد عجزه المستمر عن توفير أجرة حجرته بفندق خمسة نجوم تحت الصفر وهمس قائلا: الدنيا إذا أقلبت باض الحمام على الوتد وإذا ما أدبرت بال الحمار على الأسد لم يكترث المسؤول لوقع حديثه على كرامة "كاكا" وطلب منه تسلم عهدة الصيد من المخزن الموجود بأسفل "البلدية". أفرغ "كاكا" حقده وقتل جحود الناس في مئات الكلاب، وظل مصرا على إيقاظهم من عمق سباتهم وهو يطلق الرصاصة تلو الأخرى، إلى أن واجه ذات يوم كلبا عجز عن الإيقاع به، أدار الكلب رأسه نحو الحائط بعد أن أعيته لعبة المطاردة وآلام الحجارة التي لم تكن لتخطأ جسده النحيف، ليستسلم لحكم الإعدام الصادر من قبل البلدية في حق الكلاب الضالة، لم يتردد "كاكا" في إطلاق رصاصة لم تخطئ قلب الكلب، اقترب منه و برجله أدار جثثه ليتعرف على هذا الماكر الذي قد يكون من فصيلة الذئاب، فجاءت المفاجأة كالصاعقة، إنه "تشيكو" نجم حلقة "باحمو" الذي غادره قصرا إلى دار البقاء تاركا "تشيكو" يتسكع وحيدا في مزابل الكلاب الضالة. كانت تلك هي الصدمة التي جعلت "كاكا" يغادر أسوار مدينة غادرة، فعشق طيور "الوادي الجديد" البعيد عن العمران : لأن لها أجنحة كالتي كانت له بالأمس يحلق بها في مملكته "الحلقة الواسعة"، كأمير خرج للتجوال أمام رعيته المطيعة، فأصبح خبيرا بأنواع الطيور المهاجرة، يعرف بالضبط وقت رحيلها، وينتظرها على ضفاف النهر الرقراق باكرا يوم عودتها، كأم حنون جاءت تستقبل أبناءها بعد طول غياب في بلاد المهجر، ألفها وألفته حتى أصبح "تشومسكي" في لسنياتها ، عن طريق صفيره الكرواني يتواصل معها وتتواصل معه، يفهمها وتفهمه. غارت عليه وعلى طيوره أمطار الشتاء الباردة، فطاردته حتى مشارف المدينة القديمة، ليتسكع من جديد في ثنايا دروبها العتيقة، يحضر للناس طلباتهم مقابل سيجارة رخيصة أو كأس خمر رديء. رفقا بحاله لم تعد"ويكا" تطلب منه شيئا، بعد أن قررت صيام الدهر. بعد طول مدة من الذل والحرمان حملت حبيبها "كاكا" لتلفظ أنفاسها الأخيرة من أعلى قنطرة "الوادي الجديد"، لكنها فضلت أن تعطل شاحنة إسمنت كبيرة قادمة لخنق الفضاءات المتبقية في المدينة، فأحدثت فراملها صوتا احتجاجيا غريبا، وكأنها تقرأ وصيتها الأخيرة على مسامع حبيبها الغالي: لن أتركك وحدك، معا عشنا ومعا سنموت... *قاص من مدينة القصر الكبير