كيف سيكون إحساسك وأنت تقطن في خيمة يمكن أن تكون في أحيان كثيرة مهترئة، رغم أنك تعيش في القرن الواحد والعشرين؟ وهل تخيلت أن البدو الرحل مازالوا يعيشون بيننا؟ إنه حال بعض قبائل المغرب الشرقي التي تتخذ من منطقة تدعى «الضهرة» مكانا للاستقرار. إنهم أناس ترغمهم ظروفهم على السير على منهاج آبائهم وأجدادهم والاحتفاظ بعاداتهم التي لم تستفد من التطور العلمي والتقني إلا في أمور قليلة. لم تكن السيدة قائمة تعلم، عندما استيقظت في ذلك الصباح المشمس، أن يومها سيكون مختلفا هذه المرة. فلم تمض سوى سويعات قليلة حتى أحست بآلام المخاض التي بدأت تزداد حدة مترافقة بصرخات تطلقها مستنجدة بصاحبات الخبرة من أجل توليدها، فتأكد زوجها ساعتها أنه مجبر على نقلها إلى أقرب مستشفى أو مركز صحي. وأمام الوضع الذي كانت تعيشه السيدة قائمة، وغياب وسيلة للنقل، اهتدى الزوج إلى ضرورة استخدام أقدم وسيلة نقل على وجه الأرض، كما دأب على ذلك أبناء جلدته، فحمل زوجته على ظهر البغل أملا في بلوغ أقرب مستشفى أو مركز صحي. لكن رغبته هذه لم ترد لها الأقدار أن تجد طريقها إلى التحقق، فأنجبت قائمة توأمين في الخلاء قبل أن تصل إلى المستشفى كما كان يريد زوجها، مما نجمت عنه وفاة الطفلين، فانهارت قائمة بالبكاء بعد أن عجزت عن أن تتمتع بضمهما إليها ومراقبتهما وهما يكبران أمام عينيها، وهو أبسط حق من حقوقها كأم، بسبب ضعف العناية الطبية الناجم عن بعد المراكز الصحية. وسيلة النقل المتوفرة السيدة قائمة ليست الوحيدة من سكان منطقة «الضهرة» التي قضى بعد المسافة بإقبار آمالها. فمشكلة النقل من أجل الوصول إلى أقرب مجال حضري للاستفادة من بعض الخدمات، بما فيها الصحية، تقض مضجع السكان. فوسائل النقل في منطقة «الضهرة» غير متوفرة، ماعدا بعض الشاحنات المتآكلة، التي عفا عنها الزمن، حيث لا يتم استخدامها إلا في بعض المناطق القليلة من ربوع المملكة. ورغم أن بعض سكان «الضهرة» يتوفرون على هذه الشاحنات، فإنها تبقى غير كافية، ولا تستجيب للطلب الكبير عليها، بحيث أن معظمها لا يستطيع أن يلج المجال الحضري بسبب المضايقات التي يتعرض لها أصحابها من طرف رجال الدرك، لأن أغلب هذه الشاحنات لا تتوفر على الرخص القانونية، فمالكوها لا يقومون بالإجراءات القانونية للحصول على الرخص في غالب الأحيان. لكن مشكل الرخص ليس الوحيد الذي يعرقل حركة تنقل هؤلاء البدو في اتجاه المجال الحضري أو حتى وصول سيارات الإسعاف إلى «الضهرة»، وذلك لصعوبة المسالك الطرقية وانعدام البنيات التحتية التي تعيق وصول هذه الساكنة إلى المجال الحضري، بل تتجاوزه إلى وضع هذه المنطقة في عزلة شبه تامة. وتبقى صعوبة مغادرة «الضهرة» بنفس صعوبة الوصول إليها، وفي هذا الصدد يقول المسيح، وهو من ساكنة المنطقة: «المسالك الطرقية صعبة حيث لا تستطيع سوى بعض الشاحنات اجتيازها» مضيفا أن المنطقة لا تمر بها وسائل للنقل، كما أن هذه الطرق، بعد سقوط الأمطار، تصبح غير صالحة لمرور حتى هذه الشاحنات التي تعتبر وسيلة النقل الوحيدة بالمنطقة. وعندما يحدث أن يتوفى أحد أبناء المنطقة، يضطر أهله إلى القيام بنقل الجثة على متن هاته الشاحنات إلى أقرب نقطة حضرية تبعد على الأقل عن بعض الخيام ب100 كيلومتر، بحثا عن شخص قادر على القيام بإجراءات الدفن على الطريقة الإسلامية، فلا يوجد ب«الضهرة» شخص واحد يعلم كيفية غسل الميت وتكفينه. أما في بعض المناطق التي لا تتوفر فيها الطرق فيتم نقل الموتى والمرضى على متن البغال، وغالبا ما يفارق المريض الحياة قبل أن يصل إلى أقرب مستشفى أو مركز صحي. وكلما تعذر على هذه الساكنة استخدام الشاحنات المهترئة، التي تعتبر وسيلة نقل فارهة بالنسبة إلى عموم هؤلاء البدو، تجدهم مستعدين أتم الاستعداد من أجل اعتماد وسيلة النقل التقليدية التي اعتادوا عليها، بعدما توارثوها أبا عن جد. التعليم.. الحاضر الغائب التنقل والخدمات الصحية والتعليم أمور تقض مضجع ساكنة «الضهرة»، فالتعليم يعتبر من بين المشاكل التي تعانيها هذه الساكنة، حيث ظل ذلك الحاضر الغائب عن الحياة اليومية لهؤلاء البدو، كما نصت على ذلك تقاليدهم، فهم لا يعترفون إلا بلغة العمل. ولا يلج حجرات الدراسة إلا عدد قليل من الأطفال قد لا يتجاوز أصابع اليد، فنسبة الأمية تقارب المائة في المائة. وإلى غاية سنوات الثمانينيات لم يكن هناك وجود لشيء اسمه حجرات الدراسة في «الضهرة»، لكن ومع نهاية التسعينيات تم إحداث بعض الحجرات في مناطق متباعدة جدا، مما يجعل من الصعب على ساكنة تلك النجود العليا الاستفادة من التعليم. وفي هذا الشأن يؤكد علي، وهو من ساكنة المنطقة، أن «تعميم الاستفادة من التعليم بالمنطقة هو من رابع المستحيلات، نظرا لتباعد الخيام وقلة مداخيل الأسر، مما يجبر العائلات على الاكتفاء بتوفير القوت اليومي الضعيف أصلا». علي، وهو من بين حاملي شهادة الإجازة في الحقوق، من أبناء المنطقة القلائل المتمدرسين الذين سنحت لهم الفرصة بأخذ حقهم في التعليم. فعلي كغيره من أبناء «الضهرة» الذين ولجوا حجرات الدراسة وجدوا بعض أفراد عائلاتهم أو معارفهم، بأوطاط الحاج في الغالب أو أي مناطق أخرى، القادرين على استقبالهم طوال مدة دراستهم. وفي سنة 2003 تم إحداث مجموعة مدرسية في «حاسي البطمة» إحدى مناطق «الضهرة» من أجل تشجيع العائلات على تعليم أبنائها. غير أن هذه المجموعة المدرسية وجدت نفسها مغلقة بعد أربع سنوات فقط على إحداثها، لعدم قدرة المعلمين على التدريس بهذه المؤسسة المقامة في تلك المنطقة الخلاء التي لا يوجد بها غير نبات الحلفاء، كما لم يستطع هؤلاء التلاميذ أن ينضبطوا لأوقات الدراسة، خاصة في بعض الفترات من السنة، حيث اعتادوا على العمل خاصة في بيع فطر «الترفاس»، الذي يوجد بالمنطقة، والذي يقومون بجمعه من أجل مساعدة أسرهم على تكاليف العيش، فهؤلاء الأطفال تربوا على ضرورة العمل من أجل توفير ما تقتات به أسرهم، حيث أكد علي أن العائلات تحتفظ بنظرة سوداوية عن آفاق التعليم، حيث تفضل أن يعمل أبناؤها في تربية الماشية على أن يلجوا حجرات الدراسة». لا وجود لحياة عصرية بيع فطر «الترفاس»، الذي لا يظهر إلا في فترات متباعدة جدا تصل إلى عشر سنوات أحيانا أو أكثر، ليس أهم مورد عيش لهؤلاء البدو، فتربية الماشية تعتبر مورد الرزق الرئيس لسكان خيام القرن الواحد والعشرين، فالرجال يقومون بإعداد الشاي كما جرت العادة، وبعد أن ينتهوا من تناول وجبة الفطور، التي تعتمد أساسا على الشاي المرفوق ببعض قطع الخبز، يترجلوا إلى الزريبة التي تكون مبنية بالحجر أو السياج أو الاثنين معا من أجل مراقبة الغنم، التي لا تتم مراقبة سلامتها الصحية من طرف المصالح البيطرية إلا في فترات متباعدة جدا، مما يؤدي إلى موت الكثير من رؤوس الأغنام، ويجعل أصحابها في مواجهة دائمة مع شبح الفقر، حيث يقومون بإخراجها من الزريبة لكي ترعى سواء كان رب الأسرة هو من يرعاها بنفسه، أو يتركها أمانة في عنق الراعي الذي يتقاضى مبلغا لقاء خدماته، حيث يحصل على 20 خروفا و500 درهم سنويا إلى جانب كيس من الدقيق و6 قوالب من السكر شهريا مقابل رعي ما بين 250 و400 رأس غنم، هذا العدد الذي لا يملكه إلا البعض القليل والمحسوب على الطبقة البورجوازية ب«الضهرة»، حيث أن نسبة 90 في المائة من هؤلاء البدو ينتمون إلى الفئة المعوزة. لكن ليست جميع هذه العائلات قادرة على تسديد راتب هؤلاء الرعاة مما تضطر معه بعض النسوة إلى الرعي في حالة غياب الأزواج. ترتبط حياة هؤلاء البدو بشروق الشمس وغروبها في ظل غياب إمدادهم بالكهرباء، فهم يعتمدون بالأساس على مصابيح الغاز، وهو ما يطلقون عليه اسم «اللمبة»، من أجل إضاءة خيامهم. لكن استعمال هذه الوسيلة القديمة بدأ يتلاشى مع انتشار قنينات الغاز الطبيعي، فأصبحت الأسر تلجأ إلى هذه القنينات التي يلصق بها أنبوب يوجد بآخره فتيل من أجل الاستنارة. أما نساؤهم، اللواتي لا يتحدثن إلى الأجنبي لأنهن لم يعتدن على مخالطة الغرباء، فيقمن بجلب المياه الصالحة لمختلف الاستعمالات، لأن البدو يعتمدون على مياه الآبار أو ما يسمى «لغدير»، هذه الآبار التي تجف في فصل الصيف، إذ تضطر النساء إلى الانتظار ما يزيد عن اثنتي عشرة ساعة أو أكثر من أجل ملء بعض الدلاء، وهي الأواني المصنوعة من الإطارات المطاطية «الشمبرير»، للقيام بإعداد وجبات الأكل وغسل الملابس. خيام عشوائية عدم وجود ظروف وشروط حياة عصرية وتوالي سنوات الجفاف التي تؤثر على أهم مصدر لعيشهم دفعت هؤلاء البدو إلى البحث عن حياة أكثر رفاهية، حيث فقدوا قطعانهم بسبب الجفاف، كما لم يستفيدوا من الشعير المدعم، حيث لم يستفد منه سوى بعض الأعيان والمحسوبين على المقربين من السلطة،. لذلك قرر البدو اللجوء إلى الهجرة الداخلية خصوصا نحو مناطق الريف مثل العروي، والدريوش والناظور ... وكذلك نحو أوطاط الحاج التي تبعد عن أقرب خيمة من هذه الخيام بتسعين كيلومترا، مما يلاحظ معه تواجد مجمع من الخيام المتواجدة على مشارف المدينة، حيث يقطن أكثر من سبعة أشخاص في الخيمة الواحدة، كما أن هذه الخيام في حالة مهترئة وهي مصنوعة من بعض قطع الشعر والأكياس البلاستيكية المستعلمة. الحياة التي يعيشها هؤلاء الرحل المستقرون على هامش أوطاط الحاج وجدت لها صدى في أوساط الإماراتيين المشتغلين بمحمية الحبارى، بضواحي ميسور، فأعلنوا عن رغبتهم في التكلف ببناء مساكن اقتصادية، لكن الجماعة القروية لتيساف رفضت منحهم الأراضي التي شيدوا عليها خيامهم بدعوى أنهم ليسوا من ساكنة الجماعة، لأنهم ينتمون إداريا إلى جماعة تالسينت. لكن هجرة هؤلاء البدو نحو المجال الحضري، التي كانوا يعتقدون أنها طوق نجاتهم، لم تكن سوى عنوان آخر لنفس مسلسل التهميش والإقصاء، فمعظم هؤلاء النازحين لم يجدوا عملا يوفر لهم حياة أفضل لعدم قدرتهم على الاندماج في سوق العمل المحلي والضعيف أصلا مع غياب محلات لاستقطاب اليد العاملة سواء المؤهلة أو غير المؤهلة. في بلاد «الشيح والريح» تعتبر «الضهرة» من أكبر مناطق المغرب جغرافيا، تحدها غربا أوطاط الحاج والحدود مع الجزائر شرقا وشمالا وجدة وجرادة. تعيش ساكنة «الضهرة» في غياب الماء الصالح للشرب والكهرباء بل حتى إن البعض منهم لا يعلمون بوجود اختراع اسمه التلفزيون، أو الهاتف المحمول، فما بالك بالكمبيوتر أو الانترنيت، كما لا توجد شبكة للهاتف بالمنطقة. لا توجد مساجد ب«الضهرة» حيث يصعب ذلك لتباعد الخيام، فالقليل من الساكنة التي تصلي تؤدي صلاتها بالخيمة طبعا تتميز تضاريس «الضهرة» بوجود نبات الحلفاء والشيح، كما أن مناخها شبه صحراوي. إلا أن حالة الترحال بدأت تعرف تراجعا ملحوظا في السنوات الأخيرة نظرا لنزوح الساكنة نحو الاستقرار بسبب توالي أعوام الجفاف منذ التسعينيات. المبادرة الوطنية للتنمية البشرية منحت سيارة إسعاف رباعية الدفع ليستفيد منها سكان «الضهرة». لكن جماعة تيساف تماطلت في تسليم السيارة لحد الآن، كما انه لم ترد أية معلومة عن مصير سيارة الإسعاف تلك.