سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
متقاعدو القوات المساعدة القاطنون بدوار العسكر بالدار البيضاء يعانون تحت وطأة الفقر أجورهم تتراوح ما بين 800 درهم و1000 درهم في الشهر وأراملهم يتقاضين 100 درهم
«800 درهم آشنو غادي ندير بها، نشري منها الدوا اللي إلى قطعتو نموت ولا غادة تكفيني فالمصاريف». 800 درهم فقط هو الأجر الشهري الذي يتقاضاه الشعراوي محمد، وهو نفس الأجر الذي يتقاضاه أغلب متقاعدي عناصر القوات المساعدة بدوار العسكر بمنطقة العنق بالدارالبيضاء، أو أقل منه بكثير، حسب ما صرح به عدد منهم، أكدوا أن هذا الأجر لا يكفيهم حتى لتوفير الأدوية التي تتوقف عليها حياة بعضهم فما بالك بمصاريف الحياة الأخرى، خصوصا أن المعيشة أصبحت مكلفة. كانت كل شهادات هؤلاء توحي بتذمرهم بسبب أوضاعهم الاجتماعية «القاهرة» بعد أن أحيلوا على التقاعد. يتذكرون أمجادهم ويلوحون بها بفخر واعتزاز بعدما تنكرت لهم جهات أخرى وجعلتهم يعيشون فقرا وحاجة بسبب هزالة ما يتقاضونه نهاية كل شهر من أجور «يخجلون من ذكرها». دوار معزول غير بعيد عن مشروع «مارينا» بساحل الدارالبيضاء يطالعك تجمع سكني شبيه بحي صفيحي، لن تجد به ما يثير فيك الرغبة في الوقوف به، رغم أنه ينفتح مباشرة على شارع مولاي عبد الله، الذي يؤدي إلى منطقة الكورنيش. كان مدخل دوار العسكر شبيها بمدخل حي صفيحي، أو أحد الدواوير النائية التي طوقها الهجر والنسيان، أو كجزيرة يعرف سكانها بعضهم البعض جيدا وينحون لأنفسهم منحى خاصا يجعلهم يعيشون شبه عزلة عن العالم الخارجي. لذلك توجه نظرات الاستغراب إلى كل غريب يقتحم حيهم «غير المهيكل» وهي نظرات تحمل تساؤلات وتثير فضولهم لمعرفة سبب الزيارة غير المرتقبة. دوار العسكر على جزءين، جزء عن اليمين وجزء عن الشمال، وتتوزع المنازل، التي تتوسطها أزقة شبيهة بأزقة الأحياء الصفيحية، بطريقة مكدسة ولا تلتزم بمعايير التعمير، وهي ذات طابق أرضي فقط، مساحتها حوالي مائة متر، جزء منها مسقف والآخر ترك عاريا. ويحاصر دوار العسكر بجدار متآكل، غير منيع، وكأنه فقط يخصه بالعشوائية، ويفصله، جزئيا، عن باقي الأحياء، خاصة حي العنق الذي يفصله عنه شارع مولاي عبد الله (الطريق المؤدية إلى الكورنيش). معاناة سكان دوار العسكر لا تختلف عن معاناة سكان الأحياء الصفيحية في ما يخص السكن، إذ يعانون من «القطرة» في فصل الشتاء، ومن الارتفاع المفرط في درجة الحرارة في الصيف، لأن أسقف المنازل ليست بالإسمنت المسلح، فهي إما ب«القصدير» أو «القرمود» الذي تضاف إليه بعض المواد الأخرى مثل «الزفت» من أجل الاحتماء من التقلبات الجوية، لذلك كان بعض السكان منهمكين في عمليات تبليط ترقيعية تحسبا للأمطار المقبلة. منذ خمسينيات القرن الماضي ودوار العسكر على حاله، والسكان ينتظرون أن تنفرج أحوالهم ويغادرون الدوار نحو منازل محترمة، وهو المشروع الذي مازال مؤجلا إلى أجل غير مسمى. فيضانات في الفترات الممطرة، ومعاناة مع الحرارة في فترة الصيف، وضعية يتقاسمها سكان ال 600 منزل، الشبيهة ب«البراريك»، ومازالوا يمنون النفس بأن ينعموا بسكن لائق مثل غيرهم من المواطنين، رغم أنهم لا يعتبرون أنفسهم مواطنين عاديين. وكان المتقاعدون ينتظرون أن يتم «الإفراج عنهم» من الدوار بعد أن كان من المرتقب أن تتكلف إحدى الشركات الإماراتية بإنجاز مشروع سياحي في مكان الدوار، وهو عبارة عن فنادق سياحية ومساحات خضراء، حسب رئيس جمعية الأخوة للأعمال الاجتماعية، غير أنها رست على صندوق الإيداع والتدبير، ومازال السكان يجهلون مصيرهم. تاريخ ومجد عناصر من القوات المساعدة تتذكر تاريخ دوار العسكر، الذي بني في عهد الاستعمار خصيصا لعناصر القوات المساعدة التي كانت تحارب في الحرب العالمية الثانية إلى جانب فرنسا ضد ألمانيا. صاحبة الأرض آنذاك كانت تدعى فاندال، وكانت تعمل مساعدة اجتماعية، تستقر بمنطقة عين الشق بالدارالبيضاء. بعد الاستقلال أهدى الملك محمد الخامس الحي لأول فوج للقوات المساعدة، وكان ذلك بحضور السيدة فاندال. كل المتقاعدين الذين مازالت الذكريات تدغدغ دواخلهم شاركوا في استرجاع الصحراء المغربية، وهم يحتفظون بسجل ذكريات حافل بقدر ما يجلهم ويعظم شأنهم بقدر ما يحز في أنفسهم ويشعرهم بيأس بسبب ما انتهى إليه حالهم، على اعتبار أن الجهات التي كانوا يتوسمون فيها الخير تتجاهلهم وتطوق أعناقهم بحبال الإهمال واللامبالاة وكأنهم مواطنون عاديون لم يتأبطوا أسلحتهم ويلجوا ساحة الوغى لاسترجاع أراضي الوطن المسلوبة، وتكبدوا في ذلك أضرارا صحية وتبعات مازالت بادية على أجسادهم، إذ من بينهم معطوبون. يقول محمد داكير، رئيس جمعية الأخوة للأعمال الاجتماعية بالحي السكني العنق: «أتذكر أن فوجا عسكريا من ثكنة برنازيل بالبيضاء مات بأكمله في الصحراء المغربية، بالإضافة إلى العناصر التي تم اختطافها والمعطوبين. عناصر القوات المساعدة التي مازالت على قيد الحياة، بالنظر إلى الخدمة التي أسدتها، تستحق أن تقطن بمساكن محترمة وأن توفر لها امتيازات من قبيل المتابعة الاجتماعية والتغطية الصحية المناسبة». أجور هزيلة تتراوح أجور عناصر القوات المساعدة المتقاعدة ما بين 800 درهم و1000 درهم، وهي أجور يعتبرونها جد هزيلة، خاصة أن كل المتقاعدين في قطاعات متعددة استفادوا من الزيادة في الأجور، ولا يعلمون سبب إقصاء القوات المساعدة منها، مؤكدين أنهم في أمس الحاجة إليها بسبب ظروفهم الصحية، حيث إن ما يتقاضونه من أجر لا يكفي لتسديد ثمن الأدوية، بالنسبة إلى المرضى بأمراض مزمنة. يعيشون في صمت ويقدمون لبعضهم يد العون لمواجهة كل أزمة اقتصادية أو اجتماعية، رغم أنهم تعودوا الأزمات الاقتصادية، وتعودوا سياسة التقشف من أجل الاستمرار، فحالهم لا يختلف عن باقي فقراء المغرب. تقول لكبيرة، زوجة الساقي الشيخ، متقاعد من القوات المساعدة، ومصاب بشلل نصفي: «يتقاضى زوجي مبلغ 850 درهما في الشهر، علما أنه يأخذ مجموعة من الأدوية وهو عاجز عن الحركة، فكيف لهذا المبلغ أن يكفينا لولا التكافل الاجتماعي» وتضيف: «حنايا تقهرنا، والله حتى غلبتنا الوقت، كلشي ولا غالي والفلوس قليلة بزاف. واش ما شي عايب شي واحد ياخذ 16 ألف في الشهر، أشنو غادي يدير بها؟». باقي سكان دوار العسكر ليسوا أحسن حالا من هذه السيدة، رغم وضع زوجها الصحي الذي يتطلب ميزانية خاصة، لكن نساء أرامل بالدوار لا تتعدى أجورهن 100 درهم. يقول المعطي الموساوي باستنكار: «أريد فقط مبررا واحدا عن سبب الاقتطاع من الراتب الهزيل للزوج بعد وفاته، والذي يتوجه مباشرة إلى الزوجة، فإن كان الأجر وهو كامل لا يكفي الزوج فكيف لنصفه أن يكفي الزوجة بعد وفاته. هذه إشارة مباشرة لدفعها للتسول، وهذا ما يقع فعلا لبعض الأرامل هنا بالدوار بسبب الفاقة والفقر». وأكد ابن إحدى الأرامل أن والدته تتسلم شهريا 350 درهما شهريا، وأنها تدفع 1000 درهم في الشهر في الأدوية. ورغم أن توفر بعضهم على مأذونيات يخفف عنهم نسبيا أعباء المصاريف، فإن نسبة 40 في المائة من المتقاعدين بدوار العسكر، حسب محمد داكير، لا تتوفر على مأذونيات، حيث تعيش أوضاعا مزرية، إذ تجد نفسها مجبرة على العيش حسب هذا الراتب الهزيل، وهي بذلك لا تجد مخرجا سوى السلف من أجل سد ضروريات الحياة، كما هو حال حدو علي سعيد الذي يتقاضى 900 درهم في الشهر. تتذكر عائشة السقاي كيف كانت تستقر إلى جانب زوجها دون أن تعبأ بكل ما يتعلق بالعيش والمصاريف، غير أنها أصبحت اليوم مضطرة لأن تنهج كل السبل من أجل أن تضمن لنفسها كسرة خبز للأيام القادمة، فالمبلغ الذي تتقاضاه من أحد المكاتب الوطنية، وهو على دفعتين، بقيمة 1550 درهما في كل ثلاثة أشهر، لا يكفيها. نقطة غير آمنة يعد دوار العسكر، حسب عدد من السكان، نقطة سوداء، أولا لأن الدور السكنية غير آمنة، وهم ينتظرون على مضض اللحظة التي سيتم فيها نقلهم إلى وجهة أكثر تحضرا وأمانا، لأن السكان يتعرضون لسرقات متكررة، وهو ما يجبرهم على اتخاذ الحرس في كل لحظة وحين، لأن هذه السرقات تطال حتى أبسط أشيائهم. وقال السكان إن الدوار يعاني من التهميش، وأن الوضعية التي يوجد عليها تتكلم بلسان واقعه، وأن أخطر شيء يهدد حياة السكان، وخاصة فئة الأطفال، والفئات المسنة، هو شارع مولاي عبد الله. يقول الكنزري محمد، نائب رئيس جمعية الأخوة للأعمال الاجتماعية بالدوار: «تسجل حوادث كثيرة بهذا الشارع والضحايا هم من سكان الدوار، وهم في الغالب أطفال أو شيوخ، حيث إنه في فترة 15 يوما توفي 3 أشخاص في حوادث السير، والسبب عدم احترام السائقين للضوء الأحمر، كما أن الحوادث تسجل ضد مجهول، لأنهم يلوذون بالفرار، كما أنهم يكونون في حالة سكر». وطالب السكان بسبب عدم امتثال السائقين للإشارات الضوئية والسرعة بتعيين شرطي خاص بالمنطقة حفاظا على حياتهم، وحتى يعم الأمن والاستقرار نسبيا بالدوار، في حين طالب آخرون بالاستعانة بقنطرة مؤقتة في انتظار تسوية وضعهم وقفا لنزيف الأرواح البريئة، حيث إن الحوادث تكثر يوم الجمعة والسبت. تقاعد وتهميش منهم من يتخذ لنفسه مجلسا أمام منزله لعله يقتل بعض الفراغ الذي يعيشه، كما هو حال الشعراوي محمد، الذي بترت رجله اليمنى، وآخرون ألزمهم المرض الأسرة، ولا يغادرونها، أو يحملون منها بتعبير أصح، إلا إذا تعقدت بعض الأمور، كأن يمتنع أحد موظفي بعض القطاعات عن تيسير بعض الأمور في حالة غياب المعني مثل تسليم الأجور الشهرية. تقول الكبيرة عكوش إنها تضطر إلى حمل زوجها الساقي الشيخ، الذي يعاني من شلل نصفي حاد، شهريا إلى الخزينة لجلب «جوج فرانك» التي يدفع جزءا مهما منها إلى سيارة الأجرة التي تقله من المنزل إلى الخزينة وينتظره إلى حين استكمال الإجراءات، وإن كان وضعه الصحي متدهورا تتوجه إلى الخزينة كي يصحبها أحد الموظفين ليتأكد من صحة المعطيات، موضحة أن هذا الأمر مكلف أيضا. وأضافت الكبيرة، التي أمضت خمس سنوات على هذا الحال مع زوجها، الذي سرعان ما تغالبه دموعه بسبب عجزه وتأثره بما انتهى إليه مصيره، يجب أن يرأف حال المسؤولين بوضعية هؤلاء المتقاعدين وعائلاتهم، وأن «يقدموا لنا بعض العون، من قبيل تسهيل الإجراءات وتيسير عملية استلام الأجور، إذ إنه من غير المعقول أن ننقل مريضا لا يجرؤ على الحركة شهريا إلى الخزينة، ففي ذلك مشقة لنا وله». أكد لطفي حمو، عنصر متقاعد، أنه ينتقل كل ثلاثة أشهر إلى الرباط للاستفادة من الأدوية، وطالب المسؤولين بالرأفة بحالهم، فمن الصعب أن ينتقل متقاعد مريض إلى عدة مصالح، خاصة إذا كانت هذه المصالح بمدن أخرى، «نحن مرضى مسنون وأصبح كل شيء صعبا بالنسبة إلينا. أفنينا زهرة شبابنا في النضال وعبرنا عن تشبثنا وحبنا بالوطن ونحن الآن بحاجة إلى أن يظهر لنا هذا الوطن ومسؤولوه بعض الحب الذي أبنا عنه في فترات الاستعمار». «هؤلاء المتقاعدون بحاجة إلى مساعدات اجتماعية، إذ هناك أشخاص مقعدون لا يتوفرون حتى على كراس متحركة»، يؤكد داكير، الذي يرى أنه يجب على الدولة أن تقدم لهم العون ليعيشوا حياة طبيعية وتدعمهم باستمرار لتكافئهم عما أسدوه من مهام جليلة لوطنهم، و»ذلك أضعف الإيمان»، فمن العيب أن يحمل المتقاعدون في أرذل العمر بين الأيدي، أو أن يتحملوا عناء التنقل إلى المصالح بسبب عجزهم الجسدي والمادي أيضا. وهناك بعض أفراد القوات المساعدة الذين انتهت مسيرتهم بالجنون كما هو حال عبد الواحد.م، الذي يقضي الليل والنهار يجوب أزقة الدوار، بلحية بيضاء وشعر أشعث، وهيئة تفتقر إلى العناية، يبسط يده إلى كل عابر بالدوار ليمنحه درهما واحدا فقط لشراء سيجارة، وإن أعطاه أكثر يرمي النقود في وجه صاحبها، وأكد بعض أقران عبد الواحد أن ظروفه الاجتماعية والضغط العائلي هو الذي تسبب له في مرضه العقلي، حيث إنه ينتمي إلى أسرة تتكون من عشرين فردا، والجميع يستقر تحت سقف واحد وفي ظروف اجتماعية قاسية، موضحين أن ما قدمه من عمل وتضحية في سبيل الوطن لم يشفع له لكي يعيش حياة كريمة بعد أن فقد صوابه، أو على الأقل تقديم العون لأسرته لتعتني به أكثر. ومن بين المشاكل التي يواجهها المتقاعدون التمطيط في مدد التعويضات عن المرض، حيث إن المدة قد تصل إلى سنة أوأكثر، حسب الكنزري محمد، رغم أن الاقتطاعات تكون كل شهر، وهو ما يزيد من تعقيد أمورهم الاجتماعية. ويضطر سكان دوار العسكر إلى تأدية فواتير ضخمة للماء والكهرباء، إذ تصل إلى 500 درهم في أحسن الأحوال وقد تتجاوز ال 1000 درهم، وهو ما عقب عليه أحد المتقاعدين بالقول:«من المستحيل أن نستهلك كل هذه الطاقة، إنها أثمنة خيالية وأظن أنها تحمل أبعادا أخرى». ورغم أن عناصر القوات المساعدة تستقر في الدوار مجانا، فإنها تجد في الفواتير الضخمة التي تدفعها شهريا حملا ثقيلا وكأنها تؤدي فعلا قيمة الأكرية، يقول أحد المتقاعدين: «لو أننا نؤدي ثمن السكن أيضا لحكم علينا بالإعدام».