سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الأسواق النموذجية بالبيضاء... حلم لم يحقق طموح الباعة المتجولين في العيش الكريم أصحاب محلات «أبو غريب» يطالبون المسؤولين بالتدخل لإنقاذهم من الإفلاس و«إيترو» ترفع يدها عنه
أزمة الأسواق النموذجية بالبيضاء تطرح أكثر من تساؤل بسبب تعثر التجربة، باعة متجولون يحبذون فكرة الأسواق النموذجية ويجدونها حلا حقيقيا سينتزعهم من واقع الهروب اليومي من السلطات المحلية التي تعمل جاهدة على محاربة الظاهرة، غير أن تشعبها وارتباطها بشريحة واسعة من المجتمع جعلها صعبة التحقق، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تعثرها وعدم تحقيقها للأهداف التي أنشئت من أجلها، وعلى رأسها أن تكون بديلا للأسواق العشوائية، وتضع حدا لظاهرة الباعة المتجولين، خاصة في الأماكن والمناطق التي تعرف حركة مكثفة لوسائل النقل. ومن نماذج هذه الأسواق السوق النموذجي بالمدينة القديمة بالبيضاء أو «أبو غريب»، وهو اللقب الذي أطلقه عليه الباعة بسبب خلوه من الزبناء وحالة الركود التي يعرفها. «حنا لاجئين هنا في جامع السوق، دايرين ضدنا حرب»، «العواشر هذي. ما بغينا والو، بغيناهم يخليونا نقلبوا لولادنا غير على طرف ديال الخبز»، «هذا ماشي معقول شي حاط كيترزق الله وشي كتهز ليه سلعتو وكتهرس. هذ الشي راه حرام»، شهادات لباعة متجولين بجامع السوق بالمدينة القديمة بالدار البيضاء تعالت بأصوات مبحوحة قهرها الكر والفر، في خضم «لعبة الفأر والقط» مع السلطات المحلية التي تشن حملة ضدهم منذ أزيد من خمسة عشر يوما. بقدر ما كانت السلطات المحلية تبدي تشددها في منع الباعة المتجولين من عرض سلعهم بجامع السوق بقدر ما يزيد إصرار الباعة المتجولين على الاستمرار في عرض سلعهم، في رحلة بحث مضنية عن سبيل لكسب قوتهم اليومي، فكان كل منهم يسترق لحظات لوضعها أرضا, وما إن يتلقى رسالة رمزية من زملائه في المهنة، أو يشتم رائحة غير عادية حتى يهم بحمل بضاعته على كتفه مخترقا الأحياء والملتويات الضيقة بالمدينة القديمة خشية أن تحجز بضاعته التي يتوسم فيها ربح بعض الدراهم. «أبو غريب» اللقب الجديد «أبو غريب» ليس اسما لمعقل آخر شبيه بذلك الذي يوجد في العراق، ولكنه وصف أطلقه أصحاب المحلات التجارية على السوق النموذجي بالمدينة القديمة بالدار البيضاء ال«280» تقريبا، التي أغلقت بعد أن حلت لعنة الإفلاس بسبب قلة زواره إن لم نقل انعدامهم، وهو ما أدى تدريجيا إلى إغلاق أغلب المحلات باستثناء عدد قليل منها مازال أصحابها يعلقون الأمل على أن ينتعش السوق من جديد. كانت الساعة حوالي الرابعة والنصف، وهو وقت الذروة، حيث يخرج أغلب المواطنين في جولة في الساعات الأخيرة من اليوم وتكون الوجهة في الغالب «القيساريات» أو الأسواق، غير أن الوضع كان مغايرا بالسوق المذكور. أحكم أصحاب المحلات إغلاقها بعد أن أفرغت من السلع، خاصة المحلات التي كانت تتوسط السوق، حيث كان من الصعب أن يبيع أصحابها قطعة واحدة مما يعرضونه، يقول مصطفى، الذي مازال يفتح محله بحكم قربه من الشارع العام:«حنا عاضين في الصبر بالعربية، راه كاين النهار اللي ما كنبيعو حتى ريال، وبعد المرات أسبوع كامل ما كاين والو، آشنو غادين نوكلوا ولادنا. هذ السوق خطأ كبير». وأكد بعض الباعة أن السوق النموذجي بالمدينة القديمة يحتل أحسن موقع بالدار البيضاء، ودليل ذلك الرواج الذي شهده السوق خلال الأسبوع الأول، غير أن إغلاق المحلات بالسوق جعلته يحتضر يوما بعد آخر إلى أن مات الرواج التجاري به نهائيا. عقب افتتاح السوق كانت الأجواء جد عادية، «بل كانت ممتازة وتنبئ بأنه سيكون نموذجيا في كل شيء»، يؤكد المصدر نفسه، غير أن العكس هو ما حصل. «أدينا مبلغ أزيد من 5000 درهم، بالإضافة إلى مصاريف الإصلاح»، أغلب أصحاب المحلات أكدوا أنهم صرفوا مبالغ تراوحت ما بين 20 ألف درهم و40 ألف درهم، والنتيجة «ما صورنا والو، مشات غير حرام»، يؤكد صاحب أحد المحلات. الانسحابات المتوالية لأصحاب المحلات، منهم من انسحب نهائيا وباع المحل لشخص آخر، ومنهم من حمل سلعته وعاد إلى جامع السوق، وهو المكان الذي تم تنقيلهم منه في وقت سابق، رغم أنهم لم يكونوا يخلقون أي مشكل بالنسبة إلى السلطات المحلية، يقول أحد الباعة :«تم تنقيلنا إلى هنا لأسباب غير واضحة، قالوا لنا إنه سيتم إحداث نافورة بساحة جامع السوق، غير أن لا شيء من ذلك حدث، وكانوا وعدونا بأن الأمر يتعلق بمصلحة عامة، وأنه في حال عدم انطلاق الأشغال وتحويل الساحة إلى نافورة ستكون لهم الأسبقية للعودة إليها، وبعد مرور مدة دون حصول أي شيء مما قيل، وبسبب الكساد الذي أصابنا كنا مكرهين على العودة إلى السوق، خاصة بعد أن غصت الساحة بالعديد من الباعة المتجولين الجدد». معاناة يومية وظروف قاسية خمس سنوات مرت على انطلاق تجربة السوق النموذجي بالمدينة القديمة، عندما تحركت آلة السلطات المحلية وهدمت براريك التجار بساحة جامع السوق سنة 2003، كان الأمل يعلو محيا كل أصحاب المحلات القصديرية الذين سيتم تنظيمهم بالسوق الجديد، خاصة أن الأخير لا يبعد كثيرا عن ساحة جامع السوق التي كانت توفر لهم دخلا محترما، تقول بائعة متجولة: «كنا في البداية نعرض سلعنا بالقرب من الكرة الأرضية، وتوسلنا إلى أحد المسؤولين بمنحنا محلات بجامع السوق وكان سخيا معنا بالفعل، وآنذاك انتقلنا إلى هنا، غير أننا فوجئنا بعد مرور السنين بأحد المسؤولين يقول لنا سيتم هدم كل محلاتنا وسيتم تعويضنا بأخرى، لأن ساحة السوق ستستغل لمصلحة عامة، حيث سيتم إنجاز نافورة ومساحة خضراء بها». استسلم أصحاب المحلات ال 80 شخصا تقريبا لما أقرته السلطات رغم أنهم لم يستسيغوا فعلا قرار تنقيلهم، وعقب مدة، في انتظار إتمام أشغال تهيئة السوق من طرف شركة «إيترو» التي فوض لها السوق، تم تسليم المحلات لأصحابها، حيث أدى كل واحد منهم مبلغ 5500 درهم تقريبا. تقول إحدى البائعات: «اشترينا المحلات بسعر 5500 درهم، علما أنها كانت فقط عبارة عن صناديق، وقد بلغ إجمالي ما صرفته على المحل سبعة ملايين سنتيم بالحجة والدليل، حتى أغرقت نفسي بالديون، أخي منحني خمسة ملايين سنتيم من السلع، وبسبب «هجر» أصحاب المحلات للسوق وجدت نفسي في مأزق، لذلك قررت في النهاية أن أقفل المحل وأعود إلى ساحة جامع السوق». وفي الوقت الذي غادر فيه بعض الباعة مازال آخرون ينتظرون أن يبتسم لهم الحظ في يوم من الأيام، رغم أن لا شيء ينبئ بذلك، يؤكد محمد، أحد الباعة الذين ما زالوا يأملون التغيير:«كنقولوا اليوم غادة تزيان غدا غادة تزيان، غلب المكيال، الحالة واقفة». يقضون ساعات اليوم كاملة في الترقب، يبيعون سلعهم على أعصابهم، وكل ساعة تمر بسلام إلا ويحمدون الله عليها، عيونهم تترقب ما قد يأتي مخافة أن يفقدوا «الفْضَل وراس المال». وصف الباعة المتجولون بساحة جامع السوق الحملة التي تشنها السلطات عليهم ب«غير العادلة» وبأن لا يد لهم في الفشل الذي أصاب السوق، وأنهم لا يمكن أن يدفعوا ضريبته لوحدهم، يقول الحسين:«لا أحد منا يريد أن يذل بهذه الطريقة، وأن نقضي اليوم بطوله متأبطين سلعنا ونجوب الأزقة لنكسب قوت أطفالنا، وقد تضيع في لمح البصر إن تم حجزها». وأكدت فاطمة الحريري، بائعة متجولة: «فقدت في الأسبوع الماضي سلعا بقيمة أربعة ملايين سنتيم، ورغم توسلي للجهات التي حجزت سلعتي، وهي عبارة عن قطع من الفخار، لم ترأف بحالي. بل عبئت السلع كاملة في السيارة وتم نقلها. نحن نريد فقط أن نعيش، ولا نريد أن نتصارع مع أحد، وبما أن السوق لم يعد يربحنا ولو عشرة دراهم في اليوم فماذا سنفعل فيه»?. وأكدت فاطمة الحريري بأنها من أكثر البائعين المتجولين الذين يتلقون صفعات مستمرة من السلطات من خلال حجز سلعها، علما أنها تعمل على تنظيف مكانها وليست لديها سلع تخلف أزبالا تثير غضب السلطات. أكرية متراكمة أجمع عدد من أصحاب المحلات بالسوق النموذجي بالمدينة القديمة بالبيضاء، الذين قرروا الاستمرار بفتح محلاتهم رغم قلة الزوار، على أنهم يعانون أوضاعا اجتماعية مزرية خاصة بسبب قلة المداخيل، التي تكاد تنعدم في بعض الأحيان، وشبهوا أنفسهم بمن «يتنفس تحت الماء»، ودليل ذلك عجزهم عن دفع السومة الكرائية التي حددت في 300 درهم في الشهر، وأن أغلب من باعوا محلاتهم التجارية دفعوا معظم المبلغ في الأكرية المتراكمة عليهم، والتي تتجاوز عند أغلب التجار 20 ألف درهم، حسب بعض الباعة. يقول أحمد:«كيف سأتمكن من دفع السومة الكرائية وأنا لا أجد أحيانا ما أطعم به أطفالي، من أين لي أن أدفع عشرة دراهم في اليوم وأحيانا لا يزورني ولو زبون واحد». ثلاث سنوات فما فوق هو عدد السنوات التي يجب أن يؤدي التجار أكريتها، بعد أن أثقلوا بمبالغ ضخمة بسبب عجزهم عن أدائها نتيجة الركود الذي يعرفه السوق، ومنهم من أكد أن تجارته أصابها الكساد، وأنه رزئ في مبالغ مالية ضخمة دفعته إلى بيع المحل وأنه عاد للعمل لدى بعض التجار بعد أن اطمأن على وضعه نسبيا بعد استفادته من مكان بالسوق النموذجي، كما هو حال أحد الشباب الذي قال إنه عاد إلى العمل لدى أحد الأشخاص بمقابل هزيل بعدما صدم بواقع الإفلاس الذي كبده خسائر مادية كبيرة بعد أن بارت كل بضاعته وفي النهاية تعرضت للفساد والإتلاف، يقول :«كنت أعقد آمالا كبيرة على المحل التجاري بهذا السوق غير أن الصدمة كانت كبيرة عندما وجدنا أنفسنا هنا بدون زبناء..». موقع استراتيجي وسوق متعثر «الموقع جيد للغاية بالسوق، وأنا أرى أن المشكل الأساسي في الفشل الذي أصابه هو فقط بسبب الإغلاقات المتتالية للمحلات التجارية، فالأمر ليس مشجعا لإقبال الزوار عليه، ومن البديهي أن يهجر الزوار السوق بعد أن هجره أصحاب المحلات»، يؤكد صاحب أحد المحلات. واعتبر مجموعة من أصحاب المحلات بالسوق النموذجي بالمدينة القديمة أن هناك مجموعة من المشاكل الأخرى التي تجعل زواره ينفرون منه، إذ إن تصميمه الهيكلي غير جيد، حيث إن أزقته ضيقة للغاية ولا تسمح بمرور عدد كبير من الأشخاص، كما أنها تتحول إلى مجار مائية في فصل الشتاء. كما أن السوق، يؤكد أحد الباعة، بحاجة إلى أبواب أخرى تطل على شارع الجيش الملكي، وهو أهم شارع يمكن أن يشكل نقطة استقطاب حقيقية بالنسبة إلى السوق، ودليل ذلك، يؤكد المصدر نفسه، أن المحلات التي هي على مقربة منه ليس المشكل بها بذات الحدة بالنسبة إلى المحلات التي توجد بوسط السوق، إذ إن السوق يضم أربعة أبواب، اثنين منها تنفتح مباشرة على «سوق الدجايجية»، وهو ما يشكل له نقطة سوداء تسهل دخول اللصوص، حيث إن مجموعة من التجار يفقدون سلعهم بسبب تسلل اللصوص إلى السوق، يؤكد بعض التجار بالسوق. يقول نايت حميدوش الحسين، أحد المستفيدين من محلات بالسوق النموذجي: «كنت أستغل المحل التجاري رقم 19 الكائن بجامع السوق بالمدينة القديمة، وأنا أتوفر على جميع الحجج المثبتة لذلك، لكن مع الأسف صدر قرار في عهد والي سابق قضى بإزالة محلي ومحلات أخرى على أساس تحقيق منفعة عامة، غير أن لا شيء من ذلك تحقق»، وأكد الحسين وغيره من التجار أن الساحة توجد في حالة يرثى لها، وأنهم الأولى بالعودة إلى النقطة المتميزة في البيع، على الأقل لتعويض الخسارة الكبيرة التي لازمت التجار بالسوق النموذجي، ويضيف الحسين: «اقتنيت من شركة إيترو محلا بمبلغ 5500 درهم بسومة كرائية قدرها 300 درهم في الشهر، وبما أن المحل لم يحقق أرباحا لأن موقعه غير مناسب عكس محلي الأول، وبما أن ظروفي أصبحت جد صعبة فقد خرجت من السوق النموذجي لأبحث عن لقمة لعيش أطفالي». واستغرب المصدر نفسه كيف أن السلطات المعنية تترك بعض التجار يعرضون سلعهم بشكل عادي في حين يقابل آخرون بعنف ويمنعون من عرض بضاعتهم مهما كانت الظروف. «إيترو» ترفع يدها عن سوق المدينة القديمة أكد رضوان نضام، عن شركة إيترو، أن الشركة رفعت يدها منذ مدة عن السوق النموذجي بالمدينة القديمة، لأن السوق لم يكن تجربة ناجحة مائة في المائة، ليس بسبب شركة إيترو ولكن لأن عددا كبيرا من المحلات التجارية تم إغلاقها وهو ما أدى إلى تعثر التجربة، يؤكد نضام. وأضاف المصدر نفسه أن الشركة مازالت تتدخل لحل بعض المشاكل بالسوق على سبيل أنها ربطت علاقة طيبة مع الباعة الذين لهم رغبة في الاستمرار بالسوق، علما أن السوق ليس سوقا قارا بل هو مفتوح بصفة مؤقتة بسبب وجوده بشارع مهم كالجيش الملكي، والغريب في الأمر، يؤكد نضام، أن بعض الباعة المتجولين الذين شملتهم الاستفادة يتخذون من المحلات مخزنا لسلعهم ويمارسون تجارتهم بالشارع العمومي، والشركة، يضيف، ليس من صلاحياتها أن تجبر الباعة على إخلاء الشارع العمومي، علما أن هناك التزاما يجمعنا بأصحاب المحلات يعطينا صلاحية سحب المحل من صاحبه وتفويته لبائع متجول آخر إذا تم إغلاق المحل لشهرين متتاليين حتى وإن كان يؤدي السومة الكرائية، وكذا في حالة لم تؤد لشهرين متتاليين، وأن أغلب المحلات لم يؤد أصحابها سومتها للشركة منذ مدة طويلة، ورغم ذلك فإن الشركة لم تسحب أي محل من صاحبه، علما أنها تؤد مبلغ 100 درهم عن كل محل لفائدة الجماعة، يضيف نضام، بسبب مراعاتها للجانب الاجتماعي، غير أن الخطوة الموالية ستكون تصعيدية، حيث سيتم سحب بعض المحلات من أصحابها وتفويتها لباعة آخرين لإنقاذ السوق من حالة الركود. وأضاف المصدر نفسه أن شركة «إيترو» خاضت تجارب أخرى ناجحة في إطار الأسواق النموذجية كسوق الشريفة، وسوق ياسمينة، وسوق عين الشق بالدار البيضاء، وكلها تجارب ناجحة، وأن السبب في تعثر سوق المدينة القديمة لا تتحمل فيه الشركة أي مسؤولية، وأن الشركة كاتبت السلطات المسؤولة للتدخل في إطار اختصاصها لإنجاح التجربة. ومن جهة أخرى اعتبر نضام أن السبيل إلى نجاح أي سوق نموذجي هو استقدام مهنيين من أسواق معروفة، كسوق القريعة ودرب غلف بالبيضاء، لأنهم تجار متمرسون ولهم قدرة مادية مهمة تجعلهم يوفرون السلع بكثرة، مما يعزز المنافسة بينهم وبين الباعة المتجولين، وأن هؤلاء الباعة المتجولين يتم إدماجهم في نسبة 30 في المائة الخاصة بالشركة، في حين يتم توزيع 70 في المائة على الباعة المتجولين، يضيف نضام.