نظراً للوضع الاجتماعي المتأزم الذي تعيشه مدينة خريبكة في ظل تدهور القدرة الشرائية والانخفاض المتكرر لعتبة الفقر والحصار الاقتصادي المضروب على المدينة، تنامت عدة ظواهر اجتماعية، منها بالأساس ظاهرة الباعة المتجولين... رغم القرارات العديدة التي اتخذتها المجالس البلدية المتعاقبة منها إحداث منطقة صناعية بحي الأمل منذ 1992، لكنها لم تستغل بالشكل المطلوب، والتي وزعت بقعها بطرق غير قانونية وتم إجهاض العملية.. بالإضافة الى إحداث منطقة الأنشطة الاقتصادية بحي الزيتون، لكن لحد الساعة، مازال المشروع حبراً على ورق.. وكذلك قرار عاملي صادق عليه المجلس لتنظيم الباعة الجائلين وإحداث مناطق خاصة للنشاط التجاري غير المهيكل.. وباستثناء «جوطية طاليان»، فإن باقي المشاريع لم تر النور بعد. وفي إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تم إحداث وبناء أسواق حضرية منها: المتريف والقدس، لكنها مازالت مغلقة لأسباب مجهولة. كما أن سوق لخوادرية وسوق العمران وجوطية لبريك مازالت تعاني من الفوضى وعدم تطبيق دفتر التحملات وأغلب دكاكينها مغلقة.. حسب آخر إحصاء للباعة المتجولين بالمدينة لسنة 2007 فقد وصل العدد الى 1900 بائع متجول، يتمركزون وسط المدينة، وخاصة بجوار السوق الحضري لحي الحبوب وسوق المدينة بزنقة الحمام وعلى طول شارع مولاي اسماعيل بجوار «القيصريات» والأزقة المتفرعة عنها: أبي الجعد، تادلة ووادي زم والبروج ووسط حي السوق القديم، وأمام المسجد العتيق ومسجد أنس بن مالك.. وابتداء من الساعة الرابعة بعد الزوال، يستحيل على المرء أن يمر منها، وبالأحرى أن تمر السيارات والدراجات، وخاصة في المناسبات الدينية...ورغم الحملات الموسمية التي تقوم بها السلطة المحلية والمصالح البلدية والأمن، وخاصة بعد احتجاجات النقابة الوطنية للتجار والمهنيين، فإنها فقط من أجل ذر الرماد على العيون...الباعة المتجولين هم أيضا يشتكون من ممارسة السلطة التي تبتزهم يوميا أمام أنظار الجميع وبدون سند قانوني، بل إن رئيس المجلس السابق الذي تم عزله في أبريل 2008 اتهم باشا المدينة السابق في إحدى دورات المجلس بأنه يتسلم أسبوعيا خمسة آلاف درهم من الباعة المتجولين!! كما أن مجموعة من الباعة المتجولين كانوا ضحايا ملفات مفبركة وتهم ملفقة بسبب سياسة الكيل بمكيالين في معالجة ملفاتهم، كما أن مجموعة من أفراد السلطة كانوا ضحايا الاعتداءات نتيجة الشطط، كان آخرها الاعتداء على قائد مقاطعة في شهر رمضان...إن التجار القارين المجاورين، وخاصة بسوق حي الحبوب و«قيصاريات» الشرادي ومولاي اسماعيل وبوخال وسوق المدينة والدكاكين المجاورة وسكان حي الحبوب ولبلوك وحي لخوادرية القدام وبلوك جميلة يعانون يوميا من جراء الاحتلال اليومي للشوارع والأزقة، سواء في تجارتهم التي أصبحت مفلسة وأغلبهم قد أغلقوا دكاكينهم ومازالت بذمتهم مستحقات الكراء والضرائب، وهناك ملفات تروج الآن أمام القضاء، كما أن هناك من السكان من باع منزله وغادر إلى حي آخر.. ناهيك عن الكلام النابي وترويج المخدرات وانتشار السرقة والاعتداءات والمس بسلامة المواطنين. إن مجموعة من المستشارين وخاصة مستشاري الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالمجلس البلدي طالبوا في عدة مناسبات في عدة دورات بإيجاد حل لهذه الظاهرة الاجتماعية التي أصبحت تشكل خطراً على المدينة، وذلك بتطبيق القانون المنظم للباعة المتجولين وتنفيذ المشاريع المصادق عليها وفتح الأسواق المغلقة وتشجيع الاستثمار بالمنطقة الصناعية ورفع الحصار على التجار والسكان، وأن تتدخل السلطة المحلية لتفعيل تلك القرارات، حسب ما ينص عليه القانون.. ومحاربة ظاهرة الابتزاز. وحسب تقارير المجلس البلدي، فإن السلع المعروضة للبيع من طرف الباعة المتجولين هي من المستودعات السرية للخضر والفواكه والملابس والأسماك والأحذية والأواني والتمور والقطاني.. وأن تلك المستودعات معروفة وتختزن فيها تلك المواد بأغلب أحياء المدينة، وبالتالي، فالمجلس البلدي لا يستفيد منها بما أنها غير خاضعة للضريبة وللعشار ولا للقوانين، وينعدم تكافؤ الفرص فتؤثر بشكل سلبي على مداخيل البلدية. وحسب مصادر غير رسمية، فإن أغلب الباعة المتجولين هم أجراء مياومين عند بعض أفراد السلطة وعند بارونات المستودعات السرية ولدى بعض الجمعيات الإسلاموية... هدفها الربح والمتاجرة في البؤس الاجتماعي لبعض الباعة المتجولين واستغلالهم في الانتخابات وفي المناسبات الأخرى.. إن تنظيم الباعة المتجولين يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية لدى المسؤولين من يقف وراء هذه الفوضى؟ من يشجعها؟ من يستفيد من ريعها؟ لن نجيب عن هذه الأسئلة، لأن أصحاب الغنيمة هويتهم معلومة ويعرفهم الجميع! لكننا سنحاول الارتقاء في مقاربتنا للظاهرة في محاولة لتدقيق التشخيص واستجلاء بعض الحلول الممكنة. مسؤولية الجماعات أوكل المشرع مسؤولية إصدار التراخيص لمزاولة الأنشطة للجماعات بناء على الفصل 44 من الظهير المنظم للعمل الجماعي، وكانت غاية المشرع هي تقديم بعض الصلاحيات للجماعات المحلية من أجل تنمية مواردها، والمساهمة بالمقابل في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإنعاش الشغل بتراب الجماعة، وقيد المشرع - من خلال قوانين تنظيمية - بعض الأنشطة التجارية بمجموعة من الشروط، كما أن بعض التراخيص الممنوحة تكون محط استشارة وتنسيق مع مصالح إدارية أخرى. وهنا نؤكد على بعض الحقائق التي لا تساهم في خلق نسيج تجاري منظم وقار، ولكن على العكس من ذلك حيث هناك العديد من التراخيص التي تسلم تبعا للولاء الانتخابي وتساهم في تأبيد الفوضى والتسيب، لكن أكثر من هذا نجد أن أفق التفكير بالنسبة للمنتخبين لا ينصرف الى تطويق الظاهرة بإعمال آليات لاستقبال هؤلاء الباعة المتجولين، وتنظيم تجارتهم من ذلك مثلا إيجاد محلات تجارية أو ساحات للبيع القار سواء بإمكانيات ذاتية تمول من ميزانية الجماعات أو بشراكة مع الباعة أنفسهم أو بمنح الامتياز للقطاع الخاص أو المؤسسات العمومية للتجهيز والبناء لاحتواء الباعة المتجولين وتنظيم القطاع، وفي هذا الاتجاه ستجني الجماعات عدة منافع أولها التحكم في ظاهرة الباعة المتجولين وهيكلة هذا القطاع ثم استفادة الجماعات من موارد الاستخلاص الضريبي والجبائي. لكن، والمؤسف له - هو انصراف أغلب الرؤساء إلى البحث عن التمويل بواسطة القروض المضخمة لإجراء صفقات من أجل إحداث بنايات فرعونية ومشاريع تجارية عديمة الجدوى، حيث لا يتم تدقيق جدوى وكلفة العديد من الأسواق والمركبات التجارية والغذائية أو ساحات البيع العمومي ويظل أغلبها فارغا غير مستغل بعد رفضه من طرف التجار المتجولين إما بسبب قيمة إيجاره وبيع المفتاح مثلا بكلفة مالية جدا، أو بسبب موقعه كبعده عن كثافة السكان وعن مراكز استقطاب الزبناء أو لهندسته غير المدروسة.. ولنا في مدينة آسفي عدة نماذج كالمركب الغذائي والفلاحي، والذي مازالت العديد من مرافقه التجارية فارغة لم تجد من يستأجرها لموقع المركب البعيد عن مركز المدينة. نفس الأمر بالنسبة لسوق ادريس بناصر الذي نفر منه التجار الصغار لغلاء قيمة الإيجار، كلفة المفتاح تراوحت بين 8 و12 مليون سنتيم، نفس الأمر بالنسبة لإحداث ساحة للبيع العمومي بمنطقة غير صالحة للبناء بجماعة بياضة بقرض فاق (2) ملياري سنتيم، وقد أصبح المشروع عبارة عن سراب بعد أن اكتشف صندوق التجهيز الجماعي بعض الأساليب التحايلية ليعلن تحفظه ويطالب بإلغاء المشروع. وتقدر القيمة المالية لهذه المشاريع الثلاثة ببعض الملايير رصدت دون جدوى ودون توظيفها لهيكلة القطاع غير المنظم ولفائدة الباعة المتجولين. ولسنا ندري ما هي المشاريع المجدية التي يمكن بفضلها استثمار المبالغ الخيالية، كم سيكون لنا من أسواق؟ ومن مركبات تجارية؟ ومن ومن... كان هذا ممكنا طبعا لو كانت هناك ذمم نظيفة وأياد بيضاء؟ إدماج مراكز تجارية بتصاميم التهيئة افتقرت أغلب الجماعات وطيلة عقود الى وثائق التعمير. ولعل المجهود الذي تقوم به الآن وزارة إعداد التراب الوطني والبيئة والتعمير والإسكان بغاية تأهيل المجال وتشجيع الاستثمار مهم جدا إلا أن مكاتب الدراسات المتعاقد معها لا تستحضر أهمية وأولوية إحداث مراكز تجارية أو مراكز التنشيط الاقتصادي، مما يزيد في استفحال ظاهرة الباعة المتجولين، حيث تختنق أغلب الجماعات بعد ابتلاع رصيدها العقاري بحكم البنايات الاسمنتية الزاحفة هنا وهناك. وبالتالي فإن المجال يضيق لتوطين هؤلاء الباعة المتجولين سواء بشكل نهائي أو مؤقت. كما أن أغلب التجزئات السكنية سواء الممولة من طرف الخواص أو المؤسسات التابعة للدولة لا تستجيب في غالب الأحيان لحاجيات السكان بإحداث أسواق نموذجية أو تجمعات بمحلات تجارية بل إن غايتها هي تسويق المنتوج العقاري دون الالتفات للحاجيات الموازية له. لكن الأمر يبقى قابلا للاستدراك خاصة بالنسبة للجماعات التي مازالت تصاميم تهيئتها في طور الدراسة والاستشارة، وهو الأمر الذي يسمح للمجالس المنتخبة المؤهلة وباقي الأطراف المتدخلة كالوكالات الحضرية ومفتشيات التعمير بالمطالبة بإدماج بعض المشاريع التجارية في تصاميم التهيئة المقبلة. شراكة بين الخواص والمؤسسات العمومية لتطويق ظاهرة الباعة المتجولين وتوفير فضاءات تجارية ملائمة، ومواكبة لتطور الظاهرة، فإن أفق الشراكة يبدو حلا ناجعا للتغلب على صعوبات التمويل والبناء، ذلك أن الأمر يستدعي تدخل مختلف القطاعات المعنية من جماعات محلية وغرف مهنية ومندوبيات التجارة ومؤسسات التجهيز والبناء والقطاع الخاص. إن إمكانيات التعاقد في إطار شراكة واضحة الهدف بين مختلف المتدخلين، ستسهل لا محالة عملية التغلب على الصعوبات التمويلية وسيساهم في تطوير المنتوج التجاري وتأهيل مرافقه. وستكون له حتما مردوديته المالية ونفعه الاجتماعي والاقتصادي وهو الأمر الذي يتطلب من الجميع التعبئة لاحتواء ظاهرة التجارة المنفلتة والمساهمة الجماعية في تأهيل المدن وتشجيع الاستثمار. 4- اعتماد نظام مرن للاقتراض إن الأنظمة التمويلية سواء المعتمدة من طرف الأبناك أو المؤسسات المالية الأخرى، تشكل بحق عرقلة أمام المبادرات الحرة الرامية الى تنظيم الحرف وتأهيل التجارة وإدماجها في القطاع المنظم، ولن نبالغ إذا قلنا إن شروط التمويل التي تطرحها مختلف المؤسسات البنكية تظل بعيدة كل البعد عن متطلبات المرحلة وخطاب المرحلة الذي يحث على تشجيع الاستثمار والمبادرة الحرة، ذلك أن رفض تمويل مجموعة من المشاريع التجارية والتحفظ بشأن منح قروض بذريعة غياب الضمانات دون التفكير في شروط موازية أخرى تكون ملزمة للمدين بعد تحقيق مشروعه التجاري. بالإضافة الى أن عدم فتح المجال للسلفات الصغيرة والقروض الصغرى وتعقيد المساطر الإدارية، لن يزيد ظاهرة الباعة المتجولين إلا استفحالا، حيث لا ملاذ لهؤلاء سوى احتلال الملك العمومي وعرض منتجاتهم في الشارع العام كرد فعل طبيعي ضد الإكراهات المالية والإدارية. المواطنة حقوق وواجبات يشتكي أغلب التجار من القطاع المنظم من المنافسة غير الشريفة للباعة المتجولين الذين يروجون نفس المنتوج التجاري، ولا يؤدون أدنى مساهمة لخزينة الدولة. فالتجار المنظمون ملزمون بأداء عدة ضرائب سنوية، بل إن تعدد الأنظمة الضريبية والجبائية أصبح يهدد الكثير منهم بالإفلاس، فمنهم من أغلق محله التجاري لكساد تجارته، ومنهم من أفرغ محله وأصبح بدوره يعرض بالشارع العام كرد فعل ضد المسؤولين الذين يتعايشون مع الظاهرة كما لو أنها طبيعية. والحال أن جميع المغاربة سواسية في الحقوق والواجبات، فقد سبق للنقابة الوطنية للتجار أن طالبت بتنظيم مهنة التجارة في الاتجاه الذي يخدم مصلحة الجميع، لكن عدم اتخاذ مبادرات جريئة ومعقلنة يجعل الفوضى والتسيب سيد الموقف، وعليه فإن الوقت قد حان ليتحمل الجميع مسؤوليته، فالمدن المنظمة والنظيفة هي التي ستحظى مستقبلا بالتنافسية. وإن كان الجميع اليوم يطالب بتأهيل المجال وجودة الخدمات وتشجيع الاستثمار، فإن الانطلاقة تبدأ من تنظيم الحياة اليومية للناس وتنظيم التجارة بتدخل جميع الأطراف المعنية وبمراجعة لقوانين والمساطر وطرق التمويل وتدقيق المشاريع التي تخدم الدولة والمجتمع.