في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، قرّرت العديد من الدول وقفَ إنتاج مركبات «ثنائيات الفينيل متعدّد الكلور» (PCBs) التي اعتمِدت بشكل كبير في صناعة المحولات والمكثفات الكهربائية وعدد آخر من الآليات الصناعية، بسبب دراسات عديدة أكدت سُمّيتها الشّديدة وخطورتها على صحّة الإنسان وضررَها الكبير على البيئة.. في المغرب، أيضا، انتشرت هذه الزيوت، واقتنتها العديد من المؤسسات العمومية والخاصة التي تحتاج إلى شبكة كهربائية بطاقة عالية، وعلى غرار دول العالم وقعت المملكة اتفاقيات تحدّد شروط التعامل مع هذه الزيوت السّامة، وانخرطت في برنامج وطني للقضاء عليها في أفق 2025.. وهي العملية التي تشوبها العديد من مظاهر الاختلال.. ماذا تعني عبارة «ثنائيات الفينيل متعدّد الكلور» بالنسبة إلى أزيدَ من 30 مليون مغربي؟ لا شيءَ، بالتأكيد، إلا لقلة قليلة منهم، فكم واحد بيننا يُغريه البحث عن معاني ودلالات عبارات علمية من هذا القبيل؟ ومن منا يدرك أنه يتعامل كل يوم مع مواد كيماوية أثبتت الدّراسات العلمية خطورتها على الصحة العامّة وتأثيراتها السّلبية على المجال البيئي؟.. لكنْ، رغم عدم إلمامنا بكثير من الحقائق العلمية، فإنّ هذا لا يشفع في تجاهُل كثير من الأخطار التي تمثلها هذه المادة، التي تُرجِمت من الكلمة العلمية «les polychlorobiphényles»، وتعرف اختصارا ب»PCBs»، كما تعرَف بالاسم التجاري «البيرالين» (pyralènes) فما هي هذه المادة، التي استنفرت العالم قبل أزيدَ من ثلاثة عقود، وجعلت منها العديد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة «عدوا» لا بدّ من هزمه قبل حلول سنة 2025؟ وما هي علاقة بلد مثل المغرب بهذه المادة الكيميائية؟ وأين توجد؟ ثم ما الذي تحقيقه على الصعيد الوطني لتجنب الأخطار التي قد تنشأ جرّاء التعامل مع هذه المادّة السامة؟ قبل الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، يبدو من المفيد تقديم تعريفات لمادة «ثنائيات الفينيل مُتعدّد الكلور» أو «البيرالين»، التي تعتبر من عائلة «الملوثات العضوية الثابتة» (POPs)، أي أنها مواد كيميائية ثابتة تتراكم حيويا وذات تأثيرات سلبية على صحة الإنسان والبيئة. كما يمكن أن تنتقل إلى مسافات طويلة، إذ تم كشفها في أماكنَ بعيدة عبر العالم، حتى في مناطق لم يسبق أن صُنِّعت أو استخدمت فيها.. ورغم أن تصنيع «البيرالين» قد توقف فعليا منذ عقود، فإنّ إمكانية تسرّبه في البيئة ما تزال واردة بشكل كبير، على اعتبار أنّ كميات كبيرة منه ما زالت مُستخدَمة أو مُخزَّنة ولم يطلها التدمير النهائيّ. وحسب التعريف الذي تُقدّمه عدد من المنظمات الدولية، ومن ضمنها منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية وبرنامج الأممالمتحدة للتنمية، تعتبر المحولات والمكثفات الكهربائية أحدَ المصادر الرئيسية لثنائيات الفينيل متعدّد الكلور، إذ استخدم بشكل واسع بفضل قدرته العالية على عزل الكهرباء، فضلا على تمتعه بقدرة كبيرة على مقاومة الحريق. كما يستعمل في دهانات الألوان الزيتية، والمواد اللاصقة، وفي السوائل الخاصة بتشحيم الآلات الصناعية.. وقد اكتشفت «ثنائيات الفينيل متعدّد الكلور» (PCBs) لأول مرة سنة 1881، في حين بدأ إنتاجها تجاريا في أواخر عشرينيات القرن الماضي 1920.. كما يقدر الإنتاج العالمي من هذه المادة، منذ عام 1930، بحوالي مليون طن. وقد انتشر استخدام «البيرالين» بشكل واسع لحوالي 40 سنة، في أمريكا أولا، ثم في باقي دول العالم، قبل أن تكتشَف مساوئه سنة 1979، سواء على الصحة البشرية أو على البيئة، ليطلق بعدها برنامج دوليٌّ يهدف إلى التخلص من «مركبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور» أينما وُجدت.. وحسب الدراسات العلمية التي اهتمّت بتحديد مخاطر «البيرالين» على صحة الإنسان، فقد اتضح أن تأثيراته خطيرة، على اعتبار أنها مادة قادرة على التراكم في الخلايا الدهنية في الجسم، ويُشتبَه في كونها مُسرطنة! كما أنه من المُحتمَل أنها تؤدي إلى فشل الكليتين ونقص الوزن، وإعاقة وظائف المناعة، والتشوه الخلقي، ومشاكل في التكاثر.. ويمكن، أيضا، أن يكون مُسبّبا رئيسيا للصّداع إذا استنشِقتْ، فضلا على أنها تسبّب اخضرار الجلد في حال ملامسته. كما كشفت الدراسات العلمية أنّ التركيزات العالية لهذا المركب تُحدث تشوهات للمواليد، وتدمّر الكبد، واضطراب الأعصاب.. لهذه الأسباب.. على غرار الملوثات العضوية الثابتة -وعددها 12 مُلوثا- يخضع «البيرالين»، أيضا، لاتفاقية ستوكهولم، التي تؤطر عمليات إنتاج واستخدام وإدارة عمليات تخزين هذه الملوثات والتخلص منها، كما تحدّد تفاصيل تعامل الدول الموقعة عليها مع مجموع المشاكل والعقبات التي قد تبرُز أثناء التعامل مع المحولات الكهربائية المحتوية عليه، فضلا على أنها تشمل مجموع القرارات المناسبة المفروض اتخاذها في حال وقوع أيّ تسرّبات أو تلوث تجهيزات أخرى. وبالنظر إلى خطورة هذه المواد فقد شملتها، أيضا، بنود اتفاقية «بازل»، التي تؤطر نقل النفايات الخطرة عبر الحدود، بالنظر إلى خطورتها، وأساسا لكونها غير قابلة للتفكك الحيوي وثابتة في البيئة.. فضلا على بنود اتفاقية روتردام، المتعلقة بتطبيق إجراء الموافقة المُسبَقة عن علم على مواد كيميائية ومبيدات آفاتٍ مُعيَّنة خطرة متداوَلة في التجارة الدولية.. وحسب بنود «اتفاقية ستكهولم»، والتي وقعها المغرب بتاريخ 21 أبريل 2004، تلتزم المملكة باتخاذ جميع الإجراءات الضّرورية لضمان احترام وتنفيذ أحكام هذه الاتفاقية. وقد قدّم برنامجه الوطني المتعلق بتنفيذ أحكام الاتفاقية المذكورة بتاريخ 2 ماي 2006. ويعَدّ التدبير الايكولوجي السليم والتخلص الآمن من مركّبات ثنائية الفينيل مُتعدّد الكلور من بين الإجراءات ذات الأولوية في اتفاقيتي بازل واستكهولم.. وفي هذا الإطار، أطلق قطاع البيئة، التابع لوزارة الطاقة والمعادن والماء والبيئة، بدعم ماليٍّ من الصندوق العالمي للبيئة، برنامجا وطنيا لضمان التدبير الايكولوجيّ الرشيد لمركّبات ثنائي الفينيل متعدّد الكلور، بالتعاون مع منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية (ONUDI) وبرنامج الأممالمتحدة للتنمية (PNUD). ويهدف هذا البرنامج، الذي تناهز كلفته الإجمالية أزيدَ من 15 مليون دولار، إلى التخلص الآمن في أفق 2013 من جميع (المحولات الكهربائية والمكثفات) المحتوية أو الملوثة بهذه المركبات. ويتكون هذا البرنامج من جزءين، أولهما برنامج الأممالمتحدة للتنمية، ويتغيى وضع إطار قانونيّ لتدبير مركبات ثنائي الفينيل متعدّد الكلور، وتعزيز القدرات الوطنية لتدبير مركبات ثنائي الفينيل متعدّد الكلور، وتحديد مصادر جديدة لهذه المركبات، ثم تصديرها لشركات مُتخصّصة للتخلص منها بطريقة سليمة بيئيا. في حين يهدف الجزء الثانيّ، والذي تسهر على تنفيذه منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية إلى جرد المحولات المحتوية على الزّيوت المعدنية الملوثة بمركبات ثنائيّ الفينيل مُتعدّد الكلور؛ وإنشاء وحدات لتفكيك المحولات ومعالجة الزّيوت والمُعدّات الملوثة؛ ثم تعزيز القدرات الوطنية لرصد ومراقبة التلوث الناتج عن مركبات ثنائي الفينيل مُتعدّد الكلور. أكثر من ذلك أحدِثت -في شهر مارس 2010 - لجنة وطنية تدعى «لجنة PCB» تحت إدارة مديرية البيئة في وزارة الطاقة والمعادن والماء والبيئة، عُهِد إليها السّهر على احترام و تطبيق مقتضيات اتفاقية ستوكهولم حول «الملوثات العضوية الثابتة»، لاسيما تلك المتعلقة بالمركّبات ثنائية الفينيل متعدّد الكلور. ويناط إليها أساسا إعطاء رأيها حول الإجراءات المُتّخَذة من قِبَل الإدارات العمومية ومن قبل الخواص لتطبيق الاتفاقية؛ وتقييم المخاطر المتعلقة بالأنشطة المرتبطة بالمركبات ثنائية الفينيل مُتعدّد الكلور، واقتراح الحلول الملائمة للوقاية، الحدّ، أو التخلص منها، ثم مساعدة السلطة الحكومية المكلفة بالبيئة على إعداد وتنفيذ المخطط الوطني للتخلص من المُركّبات ثنائية الفينيل مُتعدّد الكلور، ودراسة كل مسألة ذات طابع تقنيّ أو علمي مرتبطة بهذه المركبات، ثم اقتراح كيفيات تدبير هذه المادة، خاصة تلك المتعلقة بوضع علامة على المُعدّات المحتوية على المركبات المذكورة وتخزينها والوقاية من مخاطر تسرّبها إلى البيئة. وبالعودة إلى المعطيات التي توفرها المنظمات الدولية المُهتمّة بموضوع «البيرالين»، فمن بين أهمّ المشاكل التي تواجهها الدول صعوبة التعرف على المحولات المحتوية على ثنائيات الفينيل متعدد الكلور، بالنظر إلى أنه تم صنع وبيع أعداد كبيرة لأنواع مختلفة من المحولات الكهربائية التي ما يزال استخدامُها جاريا عبر العالم.. فضلا على أنه ليست هناك خلاصة وافية لهذه التجهيزات، كما ليست هناك طريقة مطلقة للتعرّف من الخارج على أنواع المحولات المتضمّنة لها، باستثناء اللوحة الاسمية الأصلية للصّانع، التي قلما تتضمّن معطيات عن طبيعة المواد التي تدخل ضمن تركيبه هذه التجهيزات.. ويركز الاهتمام الدوليّ اليوم بشكل كبير على أمور الصحة والسلامة عند التعامل مع المواد المحتوية على ثنائيات الفينيل مُتعدّد الكلور، خاصة من طرف المؤسّسات العمومية والخواص ممن يتعاملون مع المواد والسوائل الملوثة بهذه المادة، إذ يُفترَض أن يتخذوا عددا من التدابير الوقائية، من بينها أساسا ضمان وجود تهوية كافية في منطقة العمل، وارتداء لباس حماية كامل بخاصية مقاومة للكيميائيات، إضافة إلى قناع تنفُّسٍ للوجه من النوع الجيد.. كما يُحظَر، تحت أي ظروف، أنْ يدخّن المشغلون أو المراقبون في المنطقة التي يجري فيها التعامل مع ثنائيات الفينيل متعدّد الكلور.. وفي حالات وقوع الحوادث الطارئة، مثل الانسكاب أو التسرّب خلال عمليات التبديل أو الشّحن، يجب على الفور اتخاذ تدابيرَ مُعيّنة للاستجابة لمثل هذه الحالات الطارئة. كما يجب اتخاذ الخطوات الأولى لمنع الأشخاص غير المُخوَّلين من الوصول إلى المنطقة التي وقع فيها الحادث.. إنّ عملية نقل التجهيزات المحتوية على «البيرالين» هي واحدة من المهامّ ذات الخطورة العالية، لإمكانية حدوث تسريب أو انسكاب لهذه المادة، مع ما يمثل ذلك من خطر وصولها إلى مجاري المياه أو أي مسطحات مائية. وتحدُث معظم المشاكل أثناء عمليات تحميل وتفريغ الشحنة من الآليات، ولهذا تشدد اتفاقية ستوكهولم وعدد من المُقرَّرات الصادرة عن المنظمات المعنية على ضرورة اتخاذ التدابير لمنع حدوث تسرّب أو سيلان، مع توفير ضوابط للتحكم ومواد لتنظيف الكميات المنسكِبة أو المُتسرّبة، في حال دعت الحاجَة إلى ذلك.. كما أن أي عملية لاحقة لتحريك أو نقل النفايات الملوثة يجب أن تتمّ بتوافق تام مع اشتراطات اتفاقية «بازل»، التي تؤطر حركة النفايات الخطرة . «البيرالين» مغربيا.. على الصعيد الوطني تشير المعطيات المتوفرة حول «ثنائيات الفينيل مُتعدّد الكلور» إلى أن المغرب لم ينتج أبدا هذا المادة، وإلى أنّ كل المخزون المتوفر تم استيراده من طرف المُصنّعين وشركات الصيانة الكهربائية، فضلا على أنها متوفرة لدى عدد من المؤسسات العمومية، وبشكل أساسيّ لدى المكتب الوطني للكهرباء، الذي يحتكر إنتاج وتوزيع الكهرباء، ووكالات توزيع الكهرباء عبر مدن المملكة، ووكالات توزيع الماء الصّالح للشرب، ثم شركات التدبير المفوض، خاصة «ليديك» في الدارالبيضاءوالمحمدية، و«أمانديس» في تطوانوطنجة، ثم «ريضال» في الرباط.. إضافة إلى المكتب الوطني للمطارات والمجمّع الشريف للفوسفاط والمكتب الوطني للموانئ والمكتب الوطني للسكك الحديدية، والشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة الوطنية، ومحطات الطاقة الحرارية وسلاح الجو الملكي.. وتشير آخر الإحصائيات الصادرة عن لجنة ال»PCB» تبعا لعمليات الجرد المُنجَزة، إلى أن أعداد المحولات الكهربائية والمكثفات في تناقص مستمرّ منذ إطلاق البرنامج سنة 2001، وهذا ما توضّحه المعطيات المُستخلَصة من ثلاث عمليات إحصاء أجريت، على التوالي، سنوات 2001 و2004، ثم 2007. وتشير النتائج إلى أنّ عدد المحولات الكهربائية المحتوية على مادة «البيرالين» انتقل من 671 محولا سنة 2001 إلى 573 محولا سنة 2004، ثم إلى 371 محولا سنة 2007، ويبلغ الوزن الإجمالي لهذه التجهيزات 678 طنا، بينها 224.6 طنا من مادة «البيرالين». كما أنّ ما مجموعه 258 محولا تحتوي على 139.5 طنا من «البيرالين» ما تزال في الخدمة، مقابل 103 محولات كهربائيا تمّت إزالتها دون أن تعرف طريقها إلى التدمير وتحتوي على قرابة 70 طنا من مادة «البيرالين».. وبخصوص المكثفات الكهربائية تشير الأرقام إلى أنّ عددها بلغ -حسب إحصاء سنة 2007 - ما مجموعه 394 وحدة، بوزن إجماليّ يبلغ 8.8 أطنان، من بينها 2.5 طن كوزن للبيرالين، كما أنّ معظم المكثفات التي جرى إحصاؤها لا تحتوي على أي بطاقة تعريفية تشير إلى احتوائها على هذه الملوثات!.. شمل الإحصاء، أيضا، عددا من التجهيزات الأخرى التي تحتوي الملوثات، وهي التجهيزات التي يفوق تاريخ صناعتها 50 سنة، ووُجدت أساسا في بعض المطارات وفي محطات الإرسال التابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، ويبلغ الوزن الإجمالي لمادة «البيرالين» التي وُجِدت فيها 49.3 طنا. كما شمل مخزون المادة لدى بعض المؤسسات العمومية، خاصة لدى ورشات المكتب الوطني للكهرباء، حيث يعاد استعماله لتعبئة المحولات.. ويبلغ الاحتياطي الذي تم إحصاؤه 5.6 أطنان.، وامتدّ ليشمل أيضا المحولات الكهربائية التي تحتوي زيوتا معدنية تعرّضت للتلويث بمادة «البيرالين»، من خلال أعادة تعبئتها. وهكذا تشير الإحصائيات، المتوفرة إلى حدود سنة 2007، إلى أنّ قرابة 30 في المائة من المحولات التي تمّت مراقبتها تتضمّن نِسباً تزيد على المعدل المسموح به (أي 50 مليون جزء في المليلتر) وهي المعطيات التي أكدتها التحاليل المختبرية التي أنجزتها مختبرات لفائدة مالكي هذه المحولات.. واعتبارا لكون جميع الدّراسات التي أجريت على مركبات ال«البيرالين» أثبتت خطورتها، سواء على صحة الإنسان أو على المجال البيئي، فقد كان هذا سببا كافيا لتجنّد العديد من المنظمات الدولية المهتمّة من أجل تحديد طرق التعامل معها وإدارة عمليات التخلص التدريجيّ منها بشكل سليم، وصدرت العديد من الدلائل التقنية توضّح طبيعة الاحتياطات المطلوبة للأشخاص الذين يتعاملون مع هذه المواد. وتوصي الدلائل، التي تجد لها أيضا سندا في اتفاقيات ستكهولم وبازل وروتردام، بالصيانة المُستمرّة للتجهيزات الكهربائية التي ثبت وجود ال«البيرالين» فيها للتقليل -ما أمكن- من إصدار «أبخرة» هذه المركّبات والحيلولة دون تسرّبها إلى التربة، ووضع بيانات على هذه التجهيزات تشير إلى مقدار تراكيز هذه المركبات وأخطارها، واحتياطات الأمان الواجب اعتمادها.. إضافة إلى جمع وتخزين الزّيوت المحتوية على هذه المُركّبات المفرَغة من التجهيزات المُستهلَكة أو التربة الملوثة وتخصيص مُستودَعات مناسِبة للمحولات المُستهلَكة ولحاويات الزّيوت لتخزينها مؤقتا إلى حين اتخاذ ما يلزم بشأن إتلافها بطريقة آمنة. .مع التشديد على تفادي خلط الزّيوت المحتوية على هذه الزيوت السّامة مع الزيوت الأخرى، وعدم استخدامها كوقود أو إدخالها كمواد أولية في صناعات أخر، .وعدم التخلص من التجهيزات إلا بعد أخذ موافقة وزارة البيئة، مع شرط أساسيّ هو إجراء التحاليل اللازمة لكشف تراكيز ال«PCBs» في الأوساط البيئية المختلفة. وعلى اعتبار أنّ المملكة وقعت على مجموع هذه الاتفاقيات وبالنظر، أيضا، إلى انخراط المغرب في كلّ البرنامج التي تعتمدها منظمات الأممالمتحدة، فضلا على إنشائه سنة 2010 اللجنة المكلفة بتتبع بهذا الملف، سيكون من المفيد طرحُ السؤال العريض التالي: «إلى أي حد يتقيّد المغرب بجميع التوصيات والمُقرَّرات الصّادرة عن هذه المنظمات خلال تدبيره لهذا الملف؟».. بحثا عن جواب لهذا السؤال وطرَحْنا استفسارات على المنسقة الوطنية للبرنامج، لكنها ظلت رهينة مسطرة إدارية حالت دوننا والأجوبة.. ما فرض علينا الاكتفاء ببعض المُعطيات التي أوردتها التقارير الصّادرة بهذا الخصوص، وهي التقارير التي تكشف اختلالات كثيرة في طريقة تعاطي عدد من المؤسسات العمومية والخواصّ مع المحولات الكهربائية والمكثفات المُحتوية على «البيرالين»، وأيضا، أسلوب تدبير المخزون المتوفر في البراميل، وهي الملاحظة التي أوردتها اللجنة في عدد من التقارير المُنجَزة، وتفيد بعدم التقيّد بتاتاً بالبروتوكول المعمول به في ما يخصّ تغيير المحولات أو تخزينها في أفق تدميرها الكليّ عبر وساطة شركات دولية مُتخصّصة.. التقارير تتحدّث كذلك عن عدد من العقبات الأخرى، من بينها مشكل التواصل، ما يقود إلى صعوبة الوصول إلى مُعطيات دقيقة من عدد من المؤسسات تحدّد بدقة أعداد التجهيزات المتوفرة لديها، رغم تأكيد مسؤولي هذه المؤسسات على وعيهم التام بخطورة هذه السّموم وبالمشاكل التي قد يُسبّبها سوء التعامل معها، فضلا على إقراره بصعوبة بعض الأماكن التي يُشتبَه في احتوائها على تجهيزات تتضمّن «البيرالين» أو آليات تعرّضت للتلوث جرّاء عمليات استبدال مخزون المحولات بالزّيوت المعدنية.. وكذلك احتمال وجود تجهيزات مماثلة لدى باعة المتلاشيات ممّن يقتنونها من المؤسسات العمومية أو الخواص دون علم مسبق باحتوائها على هذه المادة، ما يزيد احتمالات التعرّض ل «مركّبات ثنائيات الفينيل مُتعدّد الكلور» باستمرار دون أخذ الاحتياطات الصّارمة التي تحدّدها الاتفاقيات التي تضع شروطا لطرائق التعامل معها، بما يَضْمَن أقصى درجات الحماية للأشخاص والبيئة معاً..
مكتب المطارات يتخلص من 5 أطنان من الزيوت المسمومة في الهواء الطلق
تحقيق داخلي كشف خروقات عديدة ومُعده يرفع دعوى قضائية ضد الإدارة بسبب الإهمال
كيف تتعامل بعض المؤسسات العمومية والشركات الخاصة مع مخزون "البيرالين"، التي تحتويها المحولات الكهربائية أو المكثفات المملوكة لها؟ وهل تتقيّد هذه المؤسسات بالمعايير الصّارمة التي تتضمنها الاتفاقيات الدولية التي وقع عليها المغرب؟ وهل يتم استحضار الترسانة القانونية التي تؤطر عمليات نقل وتخزين المواد الملوثة والنفايات السامة؟.. المكتب الوطني للمطارات واحد من المؤسسات العمومية التي تتوفر على عدد من التجهيزات التي تحتوي على هذه المادة، وتؤكد المعطيات التي حصلت عليها "المساء" وجودَ اختلالات كبيرة تهُمّ أسلوب تدبير إدارة المكتب لعمليات تغيير الحاويات والمكثفات الكهربائية وطريقة تخزينها، في تعارض تامّ مع التوجيهات والضوابط التي حدّدتها اللجنة الوطنية التي تتولى مهمّة التنسيق والتدخل في كل ما يتعلق بهذه العملية. تفيد المعطيات المتوفرة أنّ المكتب الوطني يتوفر على عدد من التجهيزات المحتوية على مادة "البيرالين"، والتي شملتها الإحصاءات الوطنية التي أجرتها "لجنة ال PCB"، وحُدِّدت عددها -حسب آخر إحصاء لسنة 2007 - في 37 مُحولا كهربائيا، كانت موصولة بشبكة المكتب الوطني للكهرباء، بينها فقط أربعة محولات ما تزال في إطار الخدمة (إلى حدود 2007). وتشير المعطيات إلى وجود 23 محولا في مطار محمد الخامس والبقية مُوزَّعة على عدد من مطارات المملكة، خاصة في طنجة وسلا والراشيدية وورزازات ووجدة والحسيمة وفاس، وهي المحولات التي يعود تاريخ إنتاجها إلى سنوات الستينيات والسبعينيات حتى بداية الثمانينيات، وأغلبها اقتنيت لدى شركة "CGE" في المحمدية، وهي المحولات التي تحتوي كمية تصل إلى 10 أطنان و640 كيلوغراما من زيوت "البيرالين" السّامة.. حقائق حبيسة الرّفوف.. وفق ما تشير إليه المعطيات التي توصلت بها "المساء" من مصدر مأذون في مكتب المطارات فقد شرعت الإدارة، بمبادرة ذاتية، منذ سنة 2005 في استبدال الأجهزة الكهربائية التي تحتوي على مركّبات ثنائي "الفينيل" متعدد الكلور "PCB" بأخرى نظيفة لا تحتوي على هذه المادة في بعض المطارات. وحسب تأكيدات المصدر ذاته فقد ألزم المكتب المقاولات المُتخصّصة التي زودتها بالتجهيزات النظيفة بأنْ تعمل على تفكيك الأجهزة التي تحتوي على هذه المادة بصورة آمنة، مع تسليمه تصريحا بالنقل وشهادة تفيد إبادتها بصورة لا تضرّ بالبيئة، حسب المعايير والضوابط المُعتمَدة في هذا المجال. فضلا على ذلك تفيد إيضاحات الإدارة أنّ "المكتب الوطني للمطارات هو من المؤسسات السّباقة إلى الانخراط في هذا البرنامج الوطني للتدبير الآمن وللتخلص الإيكولوجيّ الرشيد من جميع التجهيزات التي تحتوي على مركّبات ثنائي الفينيل "البيرالين" في المغرب"، حيث أرسل جردا بالتجهيزات التي تحتوي على مركبات ثنائي الفينيل مُتعدّد الكلور إلى القطاع الوزاري المكلف بشؤون البيئة، والذي أدرجها في طلب العروض الذي أطلقه لهذا الغرض في مارس 2011، فازت به مقاولة مُتخصّصة سبق للمكتب التعامل معها، وفي سنة 2012 شرعت المقاولة نفسها -بإشراف من القطاع الوزاري المكلف بشؤون البيئة وبمتابَعةٍ من المكتب الوطني للمطارات- في تفكيك ونقل وإبادة جلّ هذه التجهيزات المتواجدة في عدد من المطارات الوطنية، حسب المعايير والضوابط المُعتمدة في هذا المجال".. تتعارض المعطيات التي أوردتها إدارة المكتب في جوابها عن استفسارات "المساء" بشكل كبير مع عدد من الحقائق التي توصّلنا إليها، والتي تفيد أنّ عملية إزالة المكتب لهذه التجهيزات وتخزينها تمت دون أدنى احترام للمعايير الصّارمة، ودون اللجوء، على الأقلّ في الفترة بين سنة 2005 و2011، إلى أي نوع من المساعدة التقنية التي تقترحها المؤسسات الدولية عبر وساطة لجنة ال PCB الوطنية.. وهي الحقائق التي يؤكدها تحقيق داخليّ أنجزه إدريس عمري، الذي كان يشغل منصب رئيس قسم التنمية المُستدامة، بتعاون مع مسؤول قسم الصيانة ومسؤول البيئة في مطار محمد الخامس، وهو التحقيق الذي توصلت إدارة المكتب بنسخة منه في ثلاث مناسبات، أولها على عهد المدير العام السابق عبد الحنين بنعلو وفي مناسَبتين على عهد المدير الحالي، دليل الكندوز، لكنها بقيت حبيسة الرّفوف.. وحسب خلاصات التحقيق فقد تسبب عمليات الإزالة العشوائية للتجهيزات المحتوية على "البيرالين" في مشاكل بيئية خطيرة، بسبب عدم اعتماد مخطط بيئي ووقائيّ من طرف الإدارة يمكّن من احترام ما تنصّ عليه الضوابط التي تحكم عمليات التعامل مع التجهيزات من هذا النوع.. يفيد التحقيق الذي أنجز شهر أبيرل 2011، واعتمد في إنجازه على عمل ميداني وزيارات واستجوابات، فضلا على لقاءات مع عدد من المسؤولين سواء باللجنة الوطنية لل"PCB"، أو ببرنامج الأممالمتحدة للتنمية.. أنّ إدارة المكتب الوطني للمطارات لم تلجأ إلى إشراك تمثيلية برنامج الأممالمتحدة للتنمية أو منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية في مشروع إزالة التجهيزات الكهربائية المحتوية على هذه الزيوت، ولهذا أجريّ لقاء بتاريخ 6 أبريل 2004 مع أمال نديم، المنسقة الوطنية لبرنامج "PCB"، وصرّحت خلاله لمُعدّي التحقيق بأنّ البرنامج الوطني يستهدف جميع المؤسسات العمومية التي تتوفر على تجهيزات مماثلة، ومن مضمنها مكتب المطارات، لكنّ البحث في أرشيف المكتب لم يُسفر عن إيجاد أي وثيقة متعلقة بإشراك هذه المنظمات في عمليات الإزالة، التي همّت مطار محمد الخامس وعددا من مطارات المملكة. أكثر من ذلك، يثير التحقيق مسؤولية إدارة المكتب في تعريض مستخدميها للخطر من خلال تكليفهم بعمليات إزالة هذه المحولات دون الحرص على اتخاذ الاحتياطات الضّرورية المفروض اتباعها.. وفي هذا الصدد يقدّم التحقيق خلاصات عدد من الاستجوابات التي أجريت مع عدد من المُستخدَمين، سواء ممّن تكلفوا بعملية إزالة هذه المحولات أو الذين تكفلوا بعملية نقلها خارج المطار، فكانت إجاباتهم صادمة.. ومن بينها ما صرّح المدير السابق لقسم الصيانة، بتاريخ 27 أكتوبر 2010، بأنه أشرف على عملية إزالة التجهيزات الكهربائية المحتوية على مادة "البيرالين" (قام بنفسه بإزالة 4 محولات) وهي العملية التي تمّت في "غياب تام لأي وثيقة تتعلق بمشروع إزالة مركبات "البيرالين"، مثلما لم يكن متوفرا لديهم أي مخطط عمل يُحدّد الخطوات المفروض اتباعها، فضلا على أن المستخدمين الذين كلفوا بالعملية لم يتم توجيههم لاتخاذ أي احتياطات وقائية أو صحية.. وهي الملاحظة ذاتها التي أثيرت حول طريقة نقل هذه التجهيزات، إذ يشير المسؤول ذاته إلى أنّ عملية نقل المحولات الكهربائية تمّت دون أي احتياطات تحدد معايير نقل النفايات السّامة، بل حتى عملية تخزينها لم تحترم أدنى معيار من المعايير المنظمة لتخزين "البيرالين"، وتم نقل المخلفات إلى عدد من المواقع الخارجية التابعة لمطار محمد الخامس وتم وضعها في العراء دون أي احتياطات تحول دون تسرّب المواد السامة. وحسب بعض التفاصيل التي أوردها معدّ التحقيق الداخلي، تبعا لإجابات عدد من المستخدمين المستجوَبين ممن شاركوا بتاريخ 11 أبريل 20011، في عمليات التنقيل والتخزين في محطة التيار العالي التابعة لمطار المكتب والتي تعرف اختصارا ب«60 Poste» وأيضا في المحطة الكهربائية التابعة لمطار محمد الخامس، فقد تبيّنَ أنّ عملية نقل وتخزين التجهيزات، التي تحتوي على كميات من "البيرالين"، تمّت بوسائلَ "بدائية" ولم يستفد المُشْرفون عليها، وعددهم غير معروف، من أي نوع من الوقاية، سواء تلك المُخصَّصة لليدين أو قناع الوجه وغيرها من التجهيزات الضرورية.. كما لم يتمَّ إشعارهم بطبيعة وخطورة المواد التي يتعاملون معها.. وأورد التقرير بعض الأجوبة على لسان مستجوَبين تفيد أنهم كانوا على اتصال مباشر بهذه الزيوت في أنحاءَ مختلفة من أجسادهم، كما أنهم عمدوا إلى تناول وجباتهم في المكان نفسه دون تنظيف أيديهم بشكل كامل.. وحسب المعطيات التي أوردها إدريس العمري في تصريحات استقتها "المساء"، فقد خلص التحقيق الذي قاده إلى وجود اختلالات خطيرة في أسلوب إدارة المكتب عملية إزالة وتعويض المحولات الكهربائية المحتوية على زيوت "البرالين"، فضلا على الاختلالات التي شابت عملية نقلها وتخزينها في محطات تابعة للمطار دون أي إجراءات وقائية ودون أدنى احترام للمعايير المُعتمَدة، وهو ما أوضحته بشكل جليّ النتائجُ المُتوصَّل إليها والبيانات التي استقاها لدى عدد من المتدخّلين في العملية، وهو ما يفسّر، ربما، التجاهلَ الذي لقيه من طرف إدارة المكتب حُيال خلاصاته. المصدر ذاته أضاف أنه أرسل نسَخاً عن التحقيق إلى وزير النقل والتجهيز، باعتباره الوصيَّ على مكتب المطارات، كما أرسل نسخا أخرى إلى وزيرَي العدل والصحة، على أمل أن يتم فتح تحقيق في الخروقات الواضحة التي تم ارتكابها وتحديد المسؤوليات، وأساسا التدخل من أجل الحدّ من خطر وصول الزيوت إلى الفرشة المائية أو تعرُّض أشخاص آخرين لها، كما حدث مع مُستخدَمي المكتب ممن كلفوا بعملة إزالتها ونقلها.. لكن، للأسف، يقول مصدرنا، لا شيء من هذا وقع.. ولأنّ ملفا بهذه الخطورة لا يمكن السّكوت عنه، خاصة أن المغرب مُلزَم باحترام جميع الاتفاقيات التي صادق ووقع عليها، والتي تحدد شروط وضوابط التعامل مع التجهيزات المحتوية على زيوت البيرالين، فلم يجد العمري، الذي أحيل لاحقا على عدد من المجالس التأديبية من طرف إدارة مكتب المطارات وقررت طرده (لم يجد) بُدّا من اللجوء إلى القضاء لإخلاء ذمته، إذ وضع شكاية، بتاريخ 7 شتنبر 2012، لدى الوكيل العامّ لمحكمة الاستئناف في الدارالبيضاء عرَضَ فيها موقفه من القضية ووضّح فيها الخطر الصحي الذي لحق بالمُستخدَمين والضرر البيئي بمحيط مطار محمد الخامس نتيجة تسرُّب وتدفق الزيوت السامة، ومن المُحتمَل أن تُحدث ضررا كبيرا للمياه السطحية والجوفية في منطقة النواصر.. الشكاية استعرضت كذلك تفاصيلَ العمل الذي أنجزه الرئيس السابق لقسم التنمية المستدامة لدى المكتب، وركزت على ضرورة فتح تحقيق مع إدارة المكتب وإلزامها بتدارُك تداعيات الإهمال المقصود الذي رافق عملية إزالة التجهيزات، إذ شكلت العملية مساسا خطيرا بصحّة المُستخدَمين في غياب أي تدابير وقائية، فضلا على التلوث الخطير للبيئة نتيجة التسرّبات، خاصة أن الكمية التي تم نقلها والتخلص منها تُقدَّر بحوالي 5833 كيلوغراما، مع التأكيد أن كيلوغراماً واحداً من "البيرالين" يُلوّث مليوني متر مكعّب من المياه، حسب المعايير البيئية المعتمدة.. وعلى العموم سيكون من المفيد طرح السؤال العريض التالي: كم من المؤسسات العمومية التي أثبتت عمليات الإحصاء توفرَها على تجهيزات تحتوي هذه الزيوت السامة وكان أسلوب تعاطيها مع هذا الملف هو نفسه الذي سلكته إدارة المكتب الوطني للمطارات؟ أكيد أنّ الإجابة عن هذا السؤال ستفرض علينا مساءلة كثير من المؤسسات التي يُفترَض أنها أوجِدت لتحميَّ صحة المواطنين، مثلما تدفعنا إلى مسائلة مؤسسات مماثلة أوجدت لتسهر على حماية البيئة، متسلحة بترسانة من القوانين، سواء تلك الواردة في قانون 28 - 00 المتعلق بتدبير النفايات والتخلص منها، أو القانون 10 - 95 المتعلق بالماء، أو حتى القانون 11 - 03 المتعلق بحماية واستصلاح البيئة، وهي القوانين التي تضعنا، على مستوى التشريع فقط، في مصافّ الدول المُتقدّمة في انتظار أن يعيّ الكثيرون ضرورة ترجمة بنودها على أرض الواقع..