قبل أشهر، كسر عدد من رجال السلطة «حزام الخوف»، ورفعوا صوتهم بنبرة غير مألوفة، في رسالة -نداء وجّهوها لوزير الداخلية، امحند العنصر، طالبوه فيها بحذف الفصل الثالث من الفصل ال11 من القانون الأساسيّ لرجال السلطة، الذي يلزم القياد والباشوات والخُلفان ب»القيام بمهامهم ولو خارج أوقات العمل».. وقد برّر رجال السلطة هؤلاء مطلبهم هذا بعدم دستورية إلزام رجل السلطة بأنْ يكون مستعدا لقطع إجازته أو نومه لمواجهة أي مكالمة طارئة من رئيسه، بل إنهم اعتبروا ذلك «متنافيا مع كل الشرائع السماوية والقوانين الدولية والأعراف الإنسانية»، وأن «الفصل ال11 من القانون الأساسي لرجال السلطة يكرّس العبودية ويجعل من رجل السلطة إنسانا غيرَ عادي.. فلا يستطيع إعطاء موعد قد يتخلف عنه، وقد ينغّص عليه فسحة مع أسرته بل ولا يضمن له حتى النوم دون إزعاج، خاصة إذا انضاف إليه الإزعاج المقصود.. فالمسألة تحتاج إلى تنظيم مداومة إن اقتضى الحال ذلك». وطالب رجال السلطة، الذين كان أغلبهم قيادا، وزيرَ الداخلية، في هذه الرسالة، ب»حثّ الولاة والعمال على احترامنا وعدم المسّ بكرامتنا والتسلط علينا بشكل مزاجيّ وتهديدنا وترهيبنا، وعلى التعامل معنا كأطر منضبطة وذات ثقافة عالية ومسؤولة، ومؤتمَنة على تسيير إدارات ترابية تضمّ كلُّ واحدة عشرات الآلاف من السكان، وأن يتحملوا المسؤولية إلى جانبنا ويكونوا عونا وسندا لنا في جميع الأحوال، وأن يستمعوا إلى آرائنا، وألا يعتبروا أنفسهم يملكون الحقيقة المطلقة، وأن الاقتراح عليهم أو خطأهم سينقص من مكانتهم.. وألا ينظروا إلينا من برج عاجيّ، وعلى أن تسود بيننا علاقة إنسانية قبل كل شيء، لتكوين فريق عمل متماسك ومتضامن».. بعد ثلاثة أشهر من توليه العرش، ألقى الملك محمد السادس خطابه، الذي سيصبح معروفا بخطاب «المفهوم الجديد للسلطة»، أمام ممثلي السلطات المركزية والجهوية، ومن جملة ما قاله في ذلك الخطاب: «نريد، في هذه المناسبة، أن نعرض لمفهوم جديد للسلطة وما يرتبط بها، مبنيّ على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية وتدبير الشأن المحلي والمحافظة على السلم الاجتماعي.. وهي مسؤولية لا يمكن النهوض بها داخل المكاتب الإدارية، التي يجب أن تكون مفتوحة في وجه المواطنين، ولكنْ تتطلب احتكاكا مباشرا بهم وملامسة ميدانية لمشاكلهم في عين المكان وإشراكهم في إيجاد الحلول المناسبة والملائمة».. وعن رجال السلطة الذين سيضطلعون بأداء هذه المهام، قال الملك في رسالة وجّهها للمشاركين في الندوة الوطنية لدعم الأخلاقيات في المرفق العام، في 2006: «لقد عقدنا العزم على إصلاح إدارتنا وإعطائها وجهة جديدة وتشجيع العاملين المخلصين الذين يقدّرون رسالتها المُقدَّسة».. فهل استطاعت الدولة، فعلا، تشجيع هؤلاء العاملين، وعلى رأسهم رجال السلطة، أم إن وضع هؤلاء لا يزداد إلا تدهورا وتقييدا؟.. جوابا عن هذا السؤال، أضاف رجال السلطة في الرسالة- النداء الذي وجّهوه للعنصر قائلين: «إننا نعيش وضعا استثنائيا، مما خلق تذمرا في صفوفنا أدى إلى المغادرة الطوعية للعديد منا، وعدم موافقة البعض منا على الإدماج بعد صدور القانون الأساسي، ورغبة عدد منا في تغيير المهنة أو في اجتياز المباريات المفتوحة من طرف وزارات أخرى، بل وهناك أكثر من 20 مستقيلا من الفوج 47 بعد أن اصطدموا بواقع آخر لم يخطر على بالهم.. وإذا جمعنا الأرقام فسنكون أمام رقم مدهش، يمكنكم الاطلاع عليه -عبر مديرية شؤون الولاة- لتعرفوا مدى التدهور الذي وصلت إليه هذه المهنة الصّعبة والشاقة».. يرتبط العمل في السلطة في ذهن أغلب المغاربة بالانضباط التامّ، الذي قد يُنسي رجل السلطة أنّ له حياة خاصة وعائلة وأصدقاء وهواية يرتاح في ممارستها.. إلا أن ما يستغربه أغلب رجال السلطة الذين التقتهم «المساء» هو سيادة أعراف تتجاوز الضوابط القانونية، هي التي تتحكم في حياة رجل السلطة وتحولها إلى «جحيم، رغم أنّ القانون المنظم لرجال السلطة لا يمنعهم من مزاولة هواياتهم والتعبير عن ميولاتهم الذهنية وحتى نشرها وتداولها.. عن ذللك يجيب يونس فنيش، القائد السابق الذي تم الاستغناء عنه بعدما نشر عملا أدبيا عبارة عن رواية بعنوان «علي باب والأربعين كذابا»، بقوله: «رجل السلطة إنسان كباقي الناس، يمكن أن تكون لديه، ومن الطبيعي أن تكون لديه هواية ما.. قد تكون كرة القدم أو السباحة أو الكولف، كما قد تكون هي كتابة روايات أدبية، يتحدث فيها عن شجون مجتمع وما يعتمل فيه من ظواهر وآفات، لكنْ إذا حدث هذا فإنّه لن ينظر إلى رجل السلطة كاستثناء فقط، بل تتم محاربته من طرف رؤسائه وزملائه.. حتى ولو كان العمل أدبيا تخييليا فإنّ رجل السلطة هذا سيجد نفسه متهما ب«إفشاء السرّ المهني»، وبالتالي يتم إعفاؤه من مهامه، وقد يجد نفسه عرضة للشارع». معاقبة رجل السلطة الذي «يجرؤ» على الصدح بأفكاره ونشرها، هو أمر لا يخضع للقانون، بل يبقى مجرد تقدير يختلف من رئيس إلى آخر -فما قد يبدو لعامل إقليم أو والٍ «خطيرا» وإفشاء للسر المهني، قد لا يبدو لغيره كذلك.. يقول يونس فنيش «رغم أنّ روايتي تحدثت عن وجود الفساد في دواليب الإدارة، وهو أمر تقرّ به أعلى السلطات في البلد، فإنني لم أشر إلى هذا الشخص أو تلك الإدارة، بل لجأت إلى التعميم الذي يقتضيه عمل أدبي». وتسري المزاجية التي يتم بها التعامل مع رجلِ سلطةٍ يعبر عن أفكاره بنشرها، أيضا، على مساره المهني وترقيته، «في فرنسا، التي غالبا ما نتخذها نموذجا، فإن مسار رجل السلطة في الترقية يكون واضحا ومعروفا للجميع، أي أنه إذا لم يرتكب أيّ خطأ فستتم ترقيته من درجة كذا إلى درجة أعلى منها، في ظرف زمني محدد ومضبوط».. يقول باشا متقاعد ل«المساء»، ويضيف: «لكنّ هذه المعايير والمساطر لا تُحترَم في المغرب، فلطالما كنا نسمع «هذا طلع كَْراضْ» من دون أن يكون للأمر مسوغ إداري مهنيّ، اللهم ما يوشوش به رجال السلطة في مجالسهم الخاصة بأنّ الشخص المعني بالترقية «عندو مُّو فالعْرسْ»، أي هناك من يأخذ بيده ويدفع به للترقي». يستطرد الباشا المتقاعد، الذي أصرّ على الحديث دون الإشارة إلى اسمه: «في بداية عهدي بالعمل في السلطة كان هناك، في الرباط، عامل مشهور، وكان عندما يريد مكافأة «قايْد» ما يعينه في مقاطعة توجد فيها مصانع، أما القايد «المغضوب عليه» فإنه «يرمى به إلى مقاطعة لا توجد فيها غير المحلبات»، يضيف الباشا المتقاعد ويعلّق: «كأنّ المقاطعات «إقطاعيات» في مِلك العمال والولاة والمسؤولين في وزارة الداخلية!».. نترك الباشا المخضرم، الذي اشتغل في عهد إدريس البصري واستمر إلى عهد الراحل مصطفى الساهل، ونلتقي قائدا شابا تخرّجَ قبل خمس سنوات من مدرسة استكمال أطر وزارة الداخية، ويشتغل في إحدى مقاطعات الدارالبيضاء، وهو من جيل ينشد الحرية بالقدْر الذي ينشد العدالة الاجتماعية، لذلك يقول: «في بداية عهدي بالعمل، كنت أقتني الجرائد وأقصد المقهى، كغيري من الناس، لأجد زملائي يحذرونني، كما لو كنت أرتكب محظورا خطيرا، قائلين: «كيف تقرأ جريدة معارضة أو جريئة في فضاء عامّ؟!».. كان القائد الشاب، في البداية، يفاجَأ بمثل هذه التحذيرات التي لم توجَّه عندما كان طالبا في مدرسة استكمال الأطر: «كنت أفاجأ من ذلك لأنه ليس هناك أيّ نص قانونيّ ينص على هذا الأمر.. ثم أتساءل: كيف تكون الرّشوة، وهي مرفوضة قانونا وشرعا، أمرا «طبيعيا»، ويكون من يرفضها استثناء ونشازا؟ وفي المقابل تصبح قراءة الجرائد في فضاء عامّ أمرا مرفضا وخطيرا، من دون أن يكون هناك في القانون ما يمنع ذلك؟».. هذه أعراف كرّسها رجال السلطة بالتراكم، فأصبحتْ تتجاوز القانون، انظر كيف تم تسجيل قاضٍ في الجديدة وهو يقول: لا يوجد قاض غير مُرتشٍ في المغرب!.. هذا الرأي ينعكس داخل أوساط رجال السلطة، رغم من عدم صحته». أما في ما يتعلق بالتحريات التي تجرى على المُرشَّحين لشغل مناصب أمنية أو عسكرية، فيتكلف بها القياد والباشوات الذين يكونون مطالبين بتقديم تقرير مفصّل عن الشخص المرشح وعائلته ومحيطه واهتماماته.. لكنّ الملاحظ هو أن هذا الإجراء لا يشمل الناجحين في مباراة «مدرسة استكمال أطر وزارة الداخية»، والذين ربما يتكلف جهاز أو جهة أخرى بإجراء البحث عنهم.. ويسري الأمر نفسه على البحث الذي يتم إجراؤه قبل الموافقة على الزواج، إذ نجد تساهلا مع رجالِ السلطة مقارنة مع غيرهم من العاملين في باقي المهن الحسّاسة، الذين تكون العائلة المُرشَّحة لمصاهرتهم محطة بحث مفصّل ودقيق..