كلاهما كان ضريرا ومشعا كمنارة.. وكلاهما وُضِعَ له تمثال في الميدان يشار إليه بالبنان بما هو رمز من رموز الثقافة العربية.. وكلاهما كان زاهدا أو يكاد.. وكلاهما تعرض تمثاله، مؤخرا، للتحطيم.. هما معا يتفقان في العبقرية ونفاذ البصيرة وإن فرقت بينهما الأزمنة والأمكنة. ومع ذلك فقد كانا يتواصلان عبر الرسائل (رسالة إلى أبي العلاء) شاعر فيلسوف وأديب ناقد. الأول عاش في معرة النعمان خلال القرن الحادي عشر الميلادي، والثاني عاش في قاهرة المعز خلال القرن العشرين: ذانك هما أبو العلاء المعري وطه حسين. من حُسْنِ حظ الاثنين أنهما رأيا النور(هما المكفوفان) وعاشا في زمن كان صدْر أبنائه لا يضيق بالاختلاف في الرأي والعقيدة إلا قليلا، وإلا كان سيتم خنق صوتيهما قبل أن يقولا ما قالاه، وسيؤدّيان، من لحمهما ودمهما، ثمَن جرأتهما في الإبداع والتفكير، ولتجَنّى عليهما- فضلا عن الأبِ- الإخوةُ الأعداءُ وأبناءُ العمومة والعروبة طُرَّا، وحَسنًا أنهما قالا ما قالاه، قبل فوات الأوان، ومضيا، حيث صار يتعذر على أي قوة في الأرض أن تمحو أثرهما، الآن، ب»سقط زند» أو «فتنة كبرى» . لقد فرّا، إذن، بجلديهما إلى لحْديهما سالميْن غانميْن وتركا تمثاليهما للعابثين. على ما في العبارة من تناقض لا يضاهيه سوى ما نحياه، اليوم، من عدمية في المسلك والتفكير أين منها «كلبية» المعري و»عقلانية» طه حسين. لكن لسوء حظ المعري وطه حسين أنهما راسخان بما يكفي لمقاومة العدم رغم أنف خصومهما وكارهيهما، وسيبقيان ما بقي الأدب وما بقيت الفلسفة، وإلا كانا قد استفادا من كذا حادث عارض واكتسبا شهرة جديدة ما أحوج غيرهما إليها. إن الاعتداء على تمثاليهما إشارة في غاية الخطورة، بل إلى الملهاة أقرب، حتى أن الدخول إزاءها في لعبة الشجب والإدانة من شأنه أن يورطنا في سجال عقيم، خاصة أننا سنتناسى، والحال هذه، أن المرحلة تقتضي منا، أولا وأخيرا، الوقوف ضد التقتيل اليومي،الجماعي والممنهج، لبني الإنسان، جراء العسف والاحتراب، قبل أن ننشغل بحجارة التماثيل. فضلا عن كون أيقونات العظماء تتأبى عن أي تجسيد، لينتهي النقاش هنا. لكَمْ تمنينا أن يكون الحدثان مجرد مصادفة. إلا أن الوقائع تؤكد إلى أي مدى صرنا نمجد الكراهية ضد أنفسنا وتاريخنا، بل مقومات وجودنا. ولئن كان للذين حطموا تماثيل بوذا حججهم في كون التماثيل «أوثانا» قد «تزعزع العقائد»(كذا)، وللذين حطموا تماثيل الرؤساء مبرراتهم في الانتقام من رموز الاستبداد، فليس للذين استهدفوا أبا العلاء وطه حسين من حجة أو دليل عدا أنهم منحوا أعداء العروبة والإسلام فرصة أخرى لتلطيخ صورتنا من جديد في وحل التاريخ. تلك إذن حكايتنا المرعبة: حكاية «الصاهلين والشاحجين»(الخيول والبغال) الأليمة التي نرويها للأجيال ونسطر ملاحمها، بدموية، قل نظيرها في التاريخ نحن السابحون في ظلمات العمى الفعلي للأسف.