برغم كل ما قاله الشاعر والفيلسوف العربي العظيم أبو العلاء المعري في حياته من آراء مثيرة للرفض والجدل، لم يتعرض للضرب بسكين في رقبته أثناء سيره في دروب معرة النعمان، بل على العكس تخبرنا كتب التاريخ أنه عندما مات وقف على قبره أكثر من ثمانين شاعرا لم يصاحبوه إلى قبره مُشيّعا باللعنات، بل صاحبوه بالتكريم والتبجيل، في حين احتفظ المخالفون له بحقهم في الإختلاف بكل ضراوة مع أفكاره التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء، ومع مرور السنين ظلت كتب المعري حاضرة في الثقافة العربية بقوة، تثير الجدل والإختلاف، يلعن سنسفيلها البعض، ويُؤولها البعض ملتمسا له مبررات ليأسه وسخطه، ويركز البعض الآخر على جماليات كتاباته وفنياتها دون مضامينها.
عندما حلت الذكرى الألف لميلاد أبي العلاء أقيم له في مسقط رأسه مزار سياحي كبير، حافظت الأنظمة القمعية المتعاقبة التي حكمت سوريا على الإحتفاء به، ليس إيمانا منها بأفكاره، بل رغبة في إكتساب وجه مدني تقدمي هي أبعد ما تكون عنه. وبالأمس عندما جاء بعض الجهاديين في سوريا ليحطموا رأس تمثال أبي العلاء، تصفية منهم لحسابات قديمة مع سيرته وأفكاره، انتهز نظام السفاح بشار الأسد الفرصة للتباكي على المعري الذي نعم تمثاله بالأمان في حمى حامي التسامح والعقلانية، مع أن شعر أبي العلاء ونثره لا يلعنان بشار فحسب، بل يلعنان كل طاغية سواءا كان متاجرا بالدين أو متاجرا بالعلمانية.
يتعذر على سطوري هذه أن تحيط بتراث المعري وتوفيه حقه من العرض، لذا أحيلك إلى أعظم أعماله قاطبة كتابه (رسالة الغفران) والذي أنصح من لم يسبق لهم قراءته بأن يقرأوا طبعته التي شرحها وأوجزها الأديب المصري العظيم كامل كيلاني وأصدرتها مكتبته الكائنة بشارع البستان بباب اللوق بالقاهرة، كما يمكن أن تقرأ للعديد من الكتاب الذين تحاوروا مع المعري وتأملوا في أفكاره وأشعاره، وعلى رأس هؤلاء عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه (مع أبي العلاء في سجنه) الصادر عن دار المعارف، والأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (رجعة أبي العلاء) الصادر عن دار المعارف أيضا، والمفكر العراقي هادي العلوي في كتابه (المنتخب من اللزوميات نقد الدولة والدين والناس) الصادر عن دار المدى العراقية.
ستكتشف عندما تقرأ للمعري أنك لا تقرأ لكاتب يكتب عن ماضٍ سحيق، بل أنك تقرأ لكاتب معاصر يكتب عن واقع أمة رفضت أن تتعلم شيئا من ماضيها المليئ بالأخطاء، فظلت تعيد ماضيها دون أن تَمَلّ، وتكرر أخطاءه دون أن تَكِلّ، سترى ذلك وأنت تقرأ له وهو يلعن تجبر حكام زمانه برغم جهلهم، «يسوسون الأنامَ بغير عقلٍ.. فينفُذُ أمرهم ويُقال سَاسَه.. فأُفّ من الحياة وأُفّ منهم.. ومن زمنٍ رئاسته خساسه»، «مَلّ المقام فكم أعاشر أمةً.. أمرت بغير صلاحِها أمراؤُها.. ظلموا الرعية واستجازوا كيدها.. فعَدَوا مصالحها وهُم أجراؤُها»، «بكل أرضٍ أميرُ سوءٍ.. يضربُ للناس شرّ سِكّة.. قد كثُرُ الغش واستعانت.. به الأشِدّاءُ والأرِّكّة»، متسائلا عن حق الحاكم في جباية أموال الناس إذا فشل في حمايتهم «وأرى ملوكا لا تحوطُ رعيةً.. فعلام تؤخذُ جزيةٌ ومكوسُ»، وساخرا من شموخ قضاة عصره العدول «يقولون في مِصرَ العُدولُ وإنما.. حقيقةُ ما قالوا العدولُ عن الحقِ»، وناصحا الحاكم الذي يظن أن القمع يمكن أن يكون له بديلا عن الإنجاز «يا مُشرِعَ الرُّمحِ في تثبيتِ مملكةٍ.. خيرٌ من المارنِ الخَطيّ سبّاحُ أي خير من ضرب الرمح سرعة العمل .. يزيدُ ليلك إظلاما إلى ظُلمٍ.. فما له آخر الأيام إصباحُ»، ثم لما ييأس من الإستجابة لنصائحه يصرخ «ساسَ الأنامَ شياطينٌ مسلطةٌ.. في كل مِصرٍ من الوالين شيطانُ.. متى يقومُ إمام يستقيدُ لنا.. فتعرفَ العدلَ أجبالٌ وغيطانُ».
ستجد أبا العلاء المعري في لزومياته يُعَرّي لزومنا للتخلف والجهل والتدين الشكلي، حين يقول في مواضع متفرقة «كم أُمّةٍ لعبت بها جُهّالُها.. فتنطّست أي تفننت من قبلُ في تعذيبها.. الخوفُ يُلجئها إلى تصديقها..والعقلُ يحملها على تكذيبها»،»كم قائمٍ بعظاتهم مُتَفقّهٍ.. في الدين يُوجدُ حين يُكشفُ عاهرا»، «نادت على الدين في الآفاق طائفةٌ.. يا قومُ من يشتري ديناً بدينارِ.. جَنَوا كبائرَ آثامٍ وقد زعموا.. إن الصغائرَ تجني الخُلدَ في النارِ»، واصفا لك أناسا تراهم الآن بين ظهرانينا بقوله «وليس عندهم دينٌ ولا نُسُكٌ.. فلا تَغُركَ أيادٍ تحمل السِّبَحا.. وكم شيوخٍ غَدَت بيضاً مفارقُهُم.. يُسَبِّحون وباتوا في الخَنا سُبُحا».
وحين يبلغ اليأس بأبي العلاء مداه من إستجابة أمته له يصرخ فيها بعزم ما فيه «ويا بلاداً مشى عليها.. أولو افتقارٍ وأغنياءُ.. إذا قضى الله بالمخازي.. فكل أهليكِ أشقياءُ.. كم وعظ الواعظون منا.. وقام في الأرض أنبياءُ.. فانصرَفوا والبلاء باقٍ.. ولم يزل داؤك العياءُ.. حُكمٌ جرى للمليك فينا.. ونحنُ في الأصل أغبياء»، لكنه برغم مرارة يأسه يترك وصيته الأخيرة بألا سبيل إلى نهضة أمته سوى العقل فيقول «يرتجي الناسُ أن يقوم إمامٌ.. ناطقٌ في الكتيبة الخرساءِ.. كَذِبَ الظنُّ لا إمامَ سوى العقلِ.. مُشيراً في صُبحِه والمساءِ.. فإذا ما أطعتَهُ جَلبَ الرحمة.. عند المسيرِ والإرساءِ.. إنما هذه المذاهبُ أسبابٌ لجذب الدنيا إلى الرؤساءِ».
ولعلك الآن وإلى أن تقرأ المزيد لأبي العلاء وعن أبي العلاء، أصبحت تدرك لماذا تاجر الطغاة بضريح أبي العلاء دون نشر كامل أفكاره بين الناس، ولماذا بدأ أعداء العقل تصفية حساباتهم مع أفكار أبي العلاء بقطع رأس تمثاله لعلهم يعوضون تقصير سابقيهم في قطع رأسه؟.