السيدات والسادة أعضاء غرفتي البرلمان المغربي: بعد تقديم واجب التحية والاحترام اللازمين لكم باعتباركم تمثلون الأمة، أوجه إليكم هاته الرسالة المفتوحة عبر وسائل الإعلام، حتى يتمكن كل الرأي العام الوطني من الاطلاع على مضامينها ما دامت تتعلق بأمور وقضايا هامة في صياغة حاضر ومستقبل هاته الأمة ذات التاريخ العريق، وذات الحاضر المجيد الهادف إلى سيادة القانون وإلى أن تلعب المؤسسات الدستورية دورها التشريعي والتزامها التنفيذي على أحسن وجه. السادة والسيدات ممثلو الأمة المحترمون: نفهم جيدا أن الإكراهات السياسية تفرض نفسها عليكم، خصوصا في شقيها الاقتصادي والاجتماعي، وندرك أيضا أن طريقة عمل المجلس والقانون الداخلي قد تفرض عليكم نوعا من الاشتغال الذي قد يجعل الشأن الثقافي في مؤخرة اهتماماتكم التي تتحول إلى أسئلة كتابية أو شفوية قد تغرق أحيانا في المحلية بحكم أن كل واحد منكم يمثل منطقة من مناطق الوطن العزيز، رغم أن الدستور الجديد يخولكم حق وواجب التشريع لكل الوطن ولكل الشرائح الاجتماعية، وبالتالي فباعتبارنا مثقفين وفنانين محترفين، أفنينا كل العمر في فروعها وفي ممارسة الإبداع والفنون بكل أشكالها، وباعتبارنا نشكل فئة من فئات هذا الشعب الذي صوت بالإجماع أو بنسبة عالية على بنود الدستور في العهد الجديد عامة، وبعد الحراك الذي عم بعض الأقطار العربية، ومنها المغرب الذي أنجز استثناء رائعا بفضل حرص وتوجه جلالة الملك؛ من حقنا أن نرى انعكاسا لمشاغلنا الثقافية، ومن حقنا الوطني عليكم أن نلمس اهتماما منكم بقضايانا الثقافية والفنية وبواقع وعمل ومعيش المثقفين والفنانين في أسئلتكم وفي اقتراحاتكم وفي تشريعاتكم. غير أن تتبعنا، مثل كل المواطنين، لأعمالكم ولتدخلاتكم المختصة أو في أسئلة الجلسات العامة ومتابعتنا للجلسات الأخيرة التي خصصت للتصويت على ميزانية 2013 جعلتنا نخرج باستنتاج مفاده أن الاهتمام بالشأن الثقافي والفني عندكم لم يلق بعد ما تستحقه الثقافة والفنون، وما يستحقه المثقفون والفنانون من رعاية واهتمام وحرص على أن تكون الثقافة والفنون قاطرة التنمية المنشودة، في المغرب الحديث؛ فأنتم تدركون، دون شك، أنه لا تنمية ولا تطور ولا تقدم بدون فكر وثقافة وإبداع، خصوصا وأن الاستثمار الثقافي والفني هو استثمار في العنصر البشري الذي يعتبر المركز الأساسي في كل تطور وتقدم منشودين، وهو ما تعمل التنمية البشرية التي يرعاها جلالة الملك على ترسيخه وتحويله إلى واقع ملموس في مغرب اليوم. وحتى نكون عمليين أكثر، اسمحوا لي، السادة نواب الأمة المحترمون، بأن أرصد أمامكم واقع الثقافة والفنون نتيجة السياسات السابقة، وما حصل من تراكم سلبي خلفته الوزارات السابقة. إلى حد الآن، تنعدم لدينا السياسة الثقافية بمفهومها الوطني الشامل؛ إذ ليست لدينا ثقافة وفنون بقدر ما نكرس التنشيط الثقافي والفني من خلال التدبير اليومي والآني الذي يفتقر إلى التطور على المدى المتوسط أو البعيد من خلال انعدام البنيات التحتية اللازمة، من قاعات ومعاهد ومسارح، رغم مرور أزيد من خمسة عقود على استقلال الوطن. وحتى ما هو متوفر حاليا من بنايات تابعة لبعض المجالس المنتخبة أو لوزارة الثقافة لا يرقى إلى ما هو مطلوب وما هو ضروري لتحقيق طفرة فنية وثقافية بحكم الخصاص الشديد الحاصل في الأطر المختصة وفي ميزانيات التسيير والذي كرستموه في ميزانية السنة الجديدة من خلال تصويتكم على ميزانية وزارة الثقافة الهزيلة جدا، هاته الميزانية التي تراجعت بكثير عما كان يخصص لوزارة الثقافة في العقود السابقة رغم النمو الديمغرافي الحاصل في سكان المغرب وفي ارتفاع نسبة الشباب بين الساكنة. وإلى حد الآن، لا زال الهم الثقافي والفني يأتي في آخر اهتمامات المجالس المحلية المنتخبة رغم أن الجميع يعلم بأن ثقافة وفنون القرب هي صمام الأمان لشبابنا ضد آفات الإجرام والمخدرات والإرهاب، وحتى ما تنجزه هذه المجالس من إنجاز ثقافي وفني لا يخرج عن الطابع المناسباتي الذي ينتهي مفعوله بزوال المناسبة ويطغى عليه جانب البهرجة والصراع السياسي الانتخابي، وهو ما يُفقد الفعل الثقافي والفني ذلكم التأثير الفاعل في الوجدان وفي النفوس، ناهيكم عن الخلط الفظيع الحاصل عند بعض المنتخبين المحليين بين الثقافة والفنون كواجب وطني وكحق من حقوق المواطنة والانتماء، واعتبارها مجرد نشاط ترفيهي يروم قتل وتزجية الوقت والزمن. وإلى حد هذا الزمن الذي نخاطبكم فيه من خلال هاته الرسالة المفتوحة، لازلنا نعيش غزوا ثقافيا وفنيا فرانكوفونيا من خلال الهجوم الكاسح للنموذج الفرانكوفوني الذي لا يراعي لنا خصوصية ولا لغة ولا دينا ولا تاريخا عريقا، إذ يكفيكم أن تفتحوا أعينكم على وسائل الإعلام العمومية والخصوصية وعلى بعض القاعات السينمائية رغم قلتها وانقراضها، هذا الغزو الذي يتدثر باسم الانفتاح الذي يعني الاستيلاب الحضاري الذي نعيشه اليوم بفعل التهميش الممنهج لثقافتنا وفنوننا الوطنية. وبحكم احترافنا في المجال الفني والثقافي، وفي إطار التزاماتنا المهنية، نجد أنفسنا مضطرين أحيانا إلى العمل خارج الوطن، وقد لاحظنا من خلال زياراتنا للعديد من الأقطار الغربية والعربية أننا كأمة ذات علاقات وطيدة مع المنتظم الدولي لازالنا نفتقر إلى الثقافة الدبلوماسية التي تجعل حضور المغرب فاعلا ومؤثرا خارج حدوده الوطنية. صحيح أن لدينا سفراء وسفارات وقناصل وقنصليات في كل أرجاء الأرض، لكن تأكدوا من أنه ليست لدينا ثقافة دبلوماسية تترجم تنوعنا وثراءنا الفكري، وتمكن المواطن من الدفاع عن كل القضايا الكبرى، خصوصا وأن الوطن يخوض صراعا مريرا لتحصين وحدته الترابية، علما بأن الملحقين الثقافيين في السفارات المغربية يستنزفون قسطا هاما من المال العام دون أن يترجم ذلك على المستوى الفعلي والواقع من خلال إنجازات دبلوماسية تعبر عن الإجماع الوطني الحاصل على المستوى الشعبي وراء جلالة الملك. وقد لمست شخصيا هذا النقص، وهذا الغياب القاتل في الثقافة الدبلوماسية التي يختصرها قصر النظر الرسمي في مهرجانات أو أسابيع تسمى ثقافية أو فنية، لكنها عديمة الجدوى والمردودية على القضية الوطنية الأولى، والتي يوظف بعض أعدائها -أعداء الوحدة الترابية- كل إمكاناتهم الثقافية والفنية للتأثير على الرأي العام الدولي. وإذا كان الدستور المغربي ينص، باعتباره أسمى قانون في المملكة، على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وينص على الحكامة الراشدة والرشيدة في كل المجالات، فإننا لن نكون مجانبين للحقيقة ولا للصواب إذا جزمنا بانعدام هاته الحكامة وهاته المحاسبة في المجال الثقافي والفني، بل هناك جهات تحرص على أن يبقى المجال الثقافي والفني خارج الزمن وخارج التاريخ الوطني الراهن، ودليلنا في ذلك أن كل لجان تقصي الحقائق التي تكونت على مدار كل البرلمانات التي عرفها المغرب لم تكن ولو واحدة منها موجهة إلى مؤسسة ثقافية أو فنية، رغم ارتفاع الكثير من الأصوات المطالبة بذلك. فلماذا هذا الاحتقار، إذن، للحكامة وللمحاسبة في الشأن الثقافي والفني؟ ولعل أحسن ما يجسد حالة الهشاشة الفنية والثقافية هو واقع المثقفين والفنانين، وهنا لا بد من الفصل بين الموظف الفنان الذي يحظى بضمانات وحقوق الوظيفة العمومية والفنان المثقف المحترف للثقافة والفن؛ وأركز على هذا الصنف الثاني الذي لا يحظى بأي ضمانات، هناك مثقفون وفنانون يشكون من الفقر والعوز وقلة ذات اليد في غياب نقابة شرعية تدافع عن حقوقهم، هناك من ماتوا من الإهمال ومن التنكر والجحود لأن حقوقهم تكدست في رصيد من يجيدون أكل الكتف، ومن يلبسون لكل مرحلة ولكل حكومة لبوسها المرغوب، ألا يفزعكم وأنتم ممثلو الأمة أن يكون هذا المصير المؤلم هو جزاء المبدعين الحقيقيين، ولولا الرعاية الملكية السامية التي نثمنها لجلالة الملك لكانت الفواجع أكثر مرارة وأشد قسوة. السادة ممثلو الأمة المحترمون: هذا مجرد غيض من فيض من حال الثقافة والفن في الزمن الراهن، فهل يجوز، وطنيا وسياسيا وأخلاقيا، أن تختصروا كل هذه القضايا وغيرها في مجرد أسئلة عن انهيارات في المآثر التاريخية؟ من الأجدر بالأولوية وبالرعاية، هل سقوط جدار هنا أو سور هناك أو بناية هنا أو بناية هناك، أم سقوط القيم والأفكار والإبداع ورجال الثقافة والفن؟ نعم لحماية المآثر التاريخية لأنها جزء من حضارتنا ومن ماضينا ومن تاريخنا المشرق، ولكن رعاية الماضي وتقديسه أحيانا على حساب الحاضر والواقع، وعلى حساب القيم الثقافية والمثل الكونية، هي إهدار للحاضر وقتل للمستقبل. وحتى لا نكون عدميين، وحتى لا نتهم بما لا نقصده، فالمرجو منكم جميعا، أغلبية ومعارضة، وفي المجلسين معا، أن ننتبه جميعا إلى دور الفاعل الثقافي والفني في بناء مغرب المؤسسات، ومغرب الحق والقانون، ومغرب التنوع الثقافي والعرقي والديني، فالدستور الحالي ينص بصريح المادة على الحق الثقافي، خصوصا بعد التحولات الاجتماعية الأخيرة، نريد جميعا ثقافة وفنونا تكرس القيم الوطنية والإنسانية المشتركة، نريد من نواب الأمة أن يعملوا انطلاقا من دورهم التشريعي على بلورة إرادة سياسية لتأهيل الفعل الثقافي والفني، والعمل على الاهتمام بالشأن الثقافي والفني وحماية حقوق المثقفين والفنانين الوطنيين لأنهم طليعة الأمة وأمل التغيير فيها في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل أيضا؛ إنها تساهم في تشكيل مجتمع ديمقراطي وتكوين المواطن المغربي القادر على ربح رهان التنمية والتقدم، والمؤهل لربح كل الرهانات المطروحة بقوة على الإنسان في القرن المقبل وما أكثرها. وحتى لا نطيل عليكم السادة نواب الأمة، أرجو أن تؤمنوا جميعا بأن الهدف من هاته الرسالة المفتوحة نبيل وسام، فنحن لا نروم هبة أو منحة أو مصلحة شخصية أو امتيازا لنا أو لمسرحنا، بل يشهد الله أن الهم الوطني والرغبة في تقدم الثقافة ورقي الفنون وحماية هويتنا هو هدفنا الأول والأخير، راجين منكم أن تهتموا جيدا بالموضوع، سواء في الجلسات العامة أو في إطار اللجان المختصة.