الاختباء في بيت الخطيب بعد اغتيال عمر بنجلون في دجنبر 1975، استطاع عبد الكريم مطيع مغادرة البلاد، عن طريق سبتةالمحتلة، في حين اعتُقِل أبراهيم كمال، نائب مطيع على رأس «الجناح الدعوي» ل«الشبيبة الإسلامية». بعد ذلك مباشرة، صدر بيان عن «تنظيم إسلاميّ» في مدريد تبنى عملية الاغتيال.. فمن يكون هذا التنظيم؟ «يرى البعض أن التنظيم الذي أصدر بيانا يتبنى فيه عملية اغتيال عمر بنجلون غيرُ موجود، وأن مطيع هو الذي كان وراء إصدار ذلك البيان، في محاولة منه لتضليل الرأي العامّ وإبعاد تهمة قتل ينجلون عنه»، يقول محمد ضريف ل«المساء»، ويضيف: «لقد أدى مقتل بنجلون إلى حدوث قطيعة بين السلطة السياسية القائمة والشبيبة الإسلامية». اغتيل عمر بنجلون في دجنبر 1975. فرّ عبد مطيع خارج المغرب في العام نفسه واعتُقِل نائبه إبراهيم كمال في يناير 1976. برّأته المحكمة من دم عمر بنجلون في شتنبر 1980. جرتْ مياه كثيرة تحت الجسر، وأشرقت شموس أضاءت غيرَ ما قليل من العتمات، لكنّ شخصا يأتي على ذكره الجميع، في محاضر الضابطة القضائية وأمام المحكمة، بقيّ لغزا: إنه عبد العزيز النعماني، الذي لم يُلقَ عليه القبض، أي لم تذكر شهادة سجين أو سجان أنه مر من أحد سجون المملكة، رغم أن الزعيم الاتحاديَّ الراحل عبد الرحيم بوعبيد كشف، خلال محاكمة منفذي جريمة اغتيال عمر بنجلون، أنّ الملك الحسن الثاني اتصل به وأخبره أن السلطات تمكنت من اعتقال مخطط اغتيال عمر بن جلون، المسمى عبد العزيز النعماني!.. أين كان عبد العزيز النعماني مختبئا، إذن، طيلة المدة الفاصلة بين اغتيال عمر بن جلون وهروبه من المغرب؟.. في منزل عبد الكريم الخطيب، تقول رواية أحد أبرز قدماء «الشبيبة الإسلامية» -التمس من «المساء» عدم ذكر اسمه- دون أن يقدم إجابات عن مصير النعماني ولا عن طريقة مغادرته المغرب. هل أصبحت للنعماني سلطة أقوى وأكبر من سلطة عبد الكريم مطيع؟ هل كان النعماني يتوفر على غطاء سياسيّ أنقذه من الاعتقال والمحاكمة وسهّل هروبه خارج المغرب؟ لماذا نفت البيانات الصادرة من السجن عن المتهمين باغتيال عمر بنجلون علاقة هؤلاء بعبد العزيز النعماني؟.. أسئلة حاول تقرير «داخليّ» لهيأة الإنصاف والمصالحة الإجابة عنها (هو تقرير حصلت عليه «المساء» بشكل خاص وتنفرد بنشر بعض المضامين والوثائق الواردة فيه) يشير التقرير إلى «موقف المتهمين المتغير.. في مراحل البحث والتحقيق والمحاكمة من الاعتراف أثناء البحث التمهيدي لدى الضابطة القضائية والاستنطاق التمهيدي لدى قاضي التحقيق، إلى نفي جريمة القتل العمد مع سبق الإصرار في التحقيق التفصيليّ وأثناء المحاكمة»، كما يتحدث عن «اختفاء محاضر الشرطة القضائية المتضمنة لتصريحات المتهم إبراهيم كمال، والتي تفيد تورّط شخصيات عليا في اغتيال الضحية، وقد سبق لدفاع الطرف المدنيّ أن تسلم صورة من التقرير التركيبي الذي يشير إلى المحاضر المذكورة». وأنكر إبراهيم كمال، حسب محاضر الاستماع إليه بمحكمة الاستئناف بالدارالبيضاء، التي تتوفر «المساء» على نسخة منها، التهم المنسوبة إليه في استنطاقه الابتدائي وصرح بأنه عنصر عامل في جمعية الشبيبة الإسلامية التي يرأسها عبد الكريم مطيع، وأضاف أنه كان يشاهد عبد العزيز النعماني يتردد على مسجد الشافعي بدرب غلف، نافيا علاقته أو معرفته بباقي المتهمين. وكشف إبراهيم كمال بأنه رافق مطيع إلى غرناطة بتاريخ 21 دجنبر 1975 لحضور مؤتمر الجمعية الإسلامية ورجع عن طريق باب سبتة بتاريخ 23 دجنبر 1975 حيث ألقي عليه القبض في حين بقي مطيع بغرناطة قصد إنجاز المهمة التي كلفته بها الأمانة العامة للندوة العالمية للشباب التي يوجد مقرها بالرياض. ووفق إفادة شخص -فضّل عدم ذكر اسمه- في تقرير الهيأة، وكان في بداية السبعينيات من طلبة الشبيبة الإسلامية، المعارضين لتوجه عبد الكريم مطيع، بناء على معلومات حصل عليها من شخص قال إنه موثوق به، فإن «شخصية سياسية نقلت عبد الكريم مطيع وإبراهيم كمال إلى سبتة يومين أو ثلاثة أيام بعد اغتيال عمر بنجلون، قبل صدور الأمر باعتقالهما.. أما عبد العزيز النعماني فبقيّ في المغرب مدة طويلة، إلى أن غادره عبر مطار النواصر». كما خلص تقرير الهيأة إلى «اقتصار المحاكمة على مُنفّذي الجريمة»، وشدد على «أهمية الدور الذي لعبه عبد العزيز النعماني وعدم تقديمه للعدالة رغم إخبار الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد، من لدن السلطات العليا، باعتقاله ووجود قرائن بتواجده في المغرب مدة طويلة بعد الجريمة ووجود قرائن قوية على ارتباط النعماني بجهاز أمنيّ، وقرائن على عدم إجراء تحقيق حياديّ حول خلفيات الجريمة وتحديد الجهات التي كانت وراء تنفيذها.. وتتمثل هذه القرائن في «رفض فتح تحقيق في موضوع اختفاء وثائق من الملف القضائيّ واعتقال عبد العزيز النعماني، إضافة إلى رفض استدعاء الشهود المطلوب الاستماع إليهم من لدن الطرف المدنيّ أمام المحكمة». الغامض في نسخة تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، التي لم يسبق تعميمها، وتتوفر عليها «المساء» حصريا، هو وجود فقرتين متناقضتين تم التشطيب على الفقرة الأولى التي تقول: «ارتأت (الهيئة) ثبوت تورّط جهاز أمنيّ سري في اغتيال عمر بنجلون وقيام مسؤولية الدولة عن ذلك».أما الفقرة الثانية، التي لم يتمَّ التشطيب عليها، فتتحدث عن «تدخل الدولة في سير القضاء، وبالتالي مسؤوليتها عن الاختلالات، التي شابت إجراء التحقيق والحكم على المتهمين». كما صرح عبد النبي الصمدي السريفي، أحد قدماء «الشبيبة الإسلامية»، أمام الهيأة، بأنه «بعد الاغتيال سجل النعماني نفسه في مدرسة الأساتذة في مكناس، ولما فطن رجال البوليس إلى ذلك اختفى عن الأنظار، ثم سافر إلى الخارج، وكان النعماني قد اتصل بي في طنجة قبيل اعتقالي سنة 1982، فاستفسرني رجال الأمن عنه وعن ملابسات مقابلته». النعماني.. حقل الألغاز اختفى النعماني عن الأنظار مباشرة بعد أن صدر الأمر بإلقاء القبض عليه ووزّعت السلطات الأمنية صوره على كل مراكزها الداخلية وفي الحدود، لكن النعماني نفسَه اجتاز مباراة الالتحاق بمركز تكوين الأساتذة سنة 1976 (حوالي سنة بعد اغتيال عمر بنجلون) وهذا يعني أن النعماني حصل على كل الوثائق الإدارية المطلوبة من السلطات المعنية.. وبما أن ملف المباراة يستوجب تسليم شهادة السوابق العدلية، فإنه كان مُطالَباً باللجوء إلى كوميسارية المعاريف في الدارالبيضاء، المخولة ترابيا بتسليمه الوثيقة المطلوبة، والحال أنها هي نفسها المكلفة -ترابيا وأمنيا وسياسيا- بالقبض عليه!.. كما أن النعماني هذا دخل «سرا» إلى المغرب في بداية الثمانينيات من أجل حضور جنازة والده، وغادر البلاد بعد ذلك.. لهذه الأسباب تحوّلت قضية النعماني إلى واحدة من الألغاز الكبرى في تاريخ الاغتيال السياسيّ في المغرب المعاصر، مثلها مثل قضية اختطاف واغتيال المهدي بن بركة وغيرها من الجرائم السياسية التي حدثت في سنوات الجمر والرصاص. لذلك، ففي غياب عبد العزيز النعماني، الذي تؤكد العديد من الشهادات، الصادرة عن أشخاص مختلفين، تحريضه باستمرار على قتل عمر بنجلون، يبقى الوصول إلى الحقيقة بيد ثلاثة أطراف، هي: الطرف الأول: هم شهود تلك المرحلة وأغلب هؤلاء لم يتكلموا عن جميع التفاصيل، وعلى رأسهم مصطفى خزار، الذي أدين على خلفية تنفيذ عملية الاغتيال، الذي يُصرّ على أنه «ليست للشبيبة الإسلامية أي علاقة باغتيال بن جلون»، مع أنه «حتى إنْ نفى مسؤولية الشبيبة عن مقتل بنجلون فهو لا يستطيع أن ينفيّ صلة النعماني بالشبيبة وانتسابه إليها، وإن لم تكن الشبيبة مسؤولة مباشِرة فهي مسؤولة معنويا، على أقل تقدير، من خلال طبيعة الإيدولوجيا التي كانت تشحن عناصرها بها.. على كل، فهذا النفي لا يصمد أمام سيل الاتهامات المُتبادَلة، والتي تحمل اعترافات بمسؤولية الحركة عن مقتل المناضل الاتحادي»، يقول عبد الله الرامي، الباحث في شؤون الحركات الإسلامية. الطرف الثاني: الدولة المغربية، التي لا بد أنها تتوفر على معطيات لم تكشف عنها. الطرف الثالث: حركة الشبيبة الإسلامية، وهي الطرف الوحيد الذي تكلم في الموضوع، من خلال وثيقة صادرة عن «الشبيبة الإسلامية» في الخارج، تتوفر «المساء» على نسخة منها، تقول إن «الأجهزة الأمنية حرصت، طيلة أكثر من ثلث قرن، على أن تفبرك كل حين خبرا كاذبا يربطنا بالمدعوّ النعماني، لأنه في رأيها كلما ارتبط اسمه بنا إلا وازداد اختفاء دورها في الجريمة، بل إنّ الأجهزة المغربية استمرت تزوّده بالتوجيه والمال منذ استقر في فرنسا، ويزوره مبعوثها المدعو بلحسن الدادسي، أحد المقربين من عبد الكريم الخطيب، ورشيد بنعيسى، أحد الجزائريين المتحالفين مع النظام المغربي ضد الجزائر.. واستمر بنبلة -بتنسيق مع النظام المغربي- يقدم المساعدات اللوجيستيكية والمادية للنعماني»، لكنها رواية تغفل، عن عمد، توضيح طبيعة علاقة النعماني بالشبيبة الإسلامية، التي لا يرقى إليها الشك، بعدما أكدها أكثر من طرف، وفي طليعتهم قدماء «الشبيبة». النعماني والأجهزة الأمنية أعادت الشبيبة الإسلامية، التي أصبحت ترى أن إثارة ملف النعماني هو «إحياء» لقضيتها، التأكيد مباشرة بعد إعلان الأجهزة الأمنية تفكيك «حركة المجاهدين المغاربة»، في ماي 2012، على موقفها، إذ تبرّأت من «حركة المجاهدين بالمغرب» التي أسسه النعماني في 1978، كما نفت وجود أي علاقة للتنظيم المذكور ب«الشبيبة الإسلامية» ولا بأحد من قياداتها أو أعضائها. وأن «عبد العزيز النعماني مؤسس «حركة المجاهدين» وجميع أتباعه لم يكونوا أعضاء في الشبيبة الإسلامية في يوم من الأيام».. بل إن الشبيبة الإسلامية لجأت، في وقت سابق، إلى بعضِ خلاصات هيأة الإنصاف والمصالحة، التي تخدم أطروحتها، إذ تقول وثيقة صادرة عن الحركة إن تحريات الهيأة كشفت حقائق حول حادثة اغتيال عمر بنجلون سنة 1975، وأنه «لدى هيئة الإنصاف والمصالحة قرائن قوية على ارتباط عبد العزيز النعماني بأجهزة الأمن المغربي». وتجد رواية ارتباط النعماني بجهاز أمني معين سندَها في مجموعة من الوقائع التاريخية، أولها أن جريدة «المحرر» (لسان حال حزب الاتحاد الاشتراكي في السبعينيات) كانت قد أخبرت بإلقاء القبض على المسمى عبد العزيز النعماني في عددها الصادر يوم 16 يناير 1977، دون أن يصدر أي تكذيب لهذا الخبر من طرف السلطات المختصة، إضافة إلى المُلتمَس الكتابيّ الذي تقدَّمَ به عبد الرحيم بوعبيد، محامي عمر بنجلون، والذي أكد فيه على «حقيقة اعتقال عبد العزيز النعماني سنة 1977، وهو على أهبة مغادرة المغرب نحو إسبانيا»، واستغرب بوعبيد «كيف لم يتم تقديم المتهم لا لقاضي التحقيق ولا للمحكمة، رغم كونه موضوعَ أمر قضائيّ بإلقاء القبض منذ بداية التحقيق». وحول هذا الموضوع، وجّه عبد الرحيم بوعبيد، بصفته هذه المرة كاتبا أول للاتحاد الاشتراكي، رسالة لرئيس غرفة الجنايات في محكمة الاستئناف بالدارالبيضاء يؤكد فيها «اعتقال عبد العزيز النعماني من طرف الشرطة»، وتضيف الرسالة: «وقد أخبِرتُ بهذا الحادث من طرف السلطات العليا». واعتبر بوعبيد أنه «كان من شأن إلقاء القبض على النعماني أن يوضح ما كان وما ظل غامضا ومتّسماً باللبس وبعدة احتمالات». واختتم بوعبيد رسالته إلى المحكمة بالإشارة إلى أن «عدم مثول المسمى عبد العزيز النعماني أمام محكمتكم يجعل من هذه المحاكمة محاكمة تدعو إلى السخرية والهزل، ذلك أن الأشخاص الذين أمروا بارتكاب هذه الجريمة الشنعاء لم يقدّموا للمحكمة حتى تتوفر للقضاء كل العناصر الضرورية للكشف عن الحقيقة وإصدار حكم عادل في هذه القضية». النعماني وبليرج ظل النعماني ينتقل بين بروكسيلوفرنسا، متجولا بكل حرية خلال فراره خارج أرض الوطن. ربط علاقات متشعبة بالعديد من المحاور الإقليمية، من أبرزها إيران والفصائل الفلسطينية والنظام الجزائري ومجموعات مسلحة لبنانية.. وشق عصا الطاعة عن مطيع وأسّس تنظيما مسلحا يهدف إلى «قلب النظام في المغرب وإنشاء الدولة الإسلامية».. كما أصدر مجلة هاجم فيها شيخه السابق مطيع، أطلق عليها «السرايا»، صدر منها عددان. خلال هذه الفترة، تقول الرواية الأمنية الرسمية (محاضر الأمن اطلعت عليها «المساء») تعرَّف النعماني على عبد القادر بليرج عن طريق علي البوصغيري، اليد اليمنى للنعماني، الذي أخبره، بعد أن توطدت العلاقة بينهما، أنه عضو في منظمة معارضة للنظام المغربي، ويتعلق الأمر، طبعا، ب»حركة المجاهدين المغاربة»، التي أسسها النعماني بعد انشقاقه عن مطيع. وفق محاضر الشرطة، دائما، فإن البوصغيري دعا بليرج إلى زيارته في فرنسا للقاء أحد المسؤولين الكبار في هذا التنظيم، «وبعد مرور أيام، اتصل بليرج بصديقه البوصغيري، ليلتقي به في باريس، وهناك أخذه البوصغيري إلى منزل عبد العزيز النعماني، زعيم حركة المجاهدين بالمغرب، حيث تعرف بليرج في المنزل نفسه على محمد النكاوي وأحمد ملوك وعبد الرزاق سوماح، الذي تم اعتقاله في شهر مارس 2012». وفق الرواية الأمنية دائما، فإنه «خلال سنة 1982، أسَرّ أحمد ملوك لعبد القادر بليرج أن حركة المجاهدين ترغب في إدخال أسلحة إلى المغرب لتنفيذ عمليات جهادية، وأن الأسلحة المطلوب إدخالها هي بنادق ورشاشات وقنابل ومتفجرات». كان إرسال أعضاء حركة «المجاهدين المغاربة» إلى لبنان للتمرّن على القتال الحدثَ الذي عجّل برحيل عبد العزيز النعماني، وفق الرواية الأمنية. سمحت العلاقات المتينة التي نسجها مع مجموعة من الحركات اللبنانية المسلحة للنعماني بإرسال صهريه إلى هناك، رفقة كل محمد الغزوي، ومحمد النكاوي، والوهراني، والبشير الماحي، وأحمد ملوك، والموريتاني ومحمد أوشن. وصرّح الموقوفون أثناء التحقيق معهم أنّ «المُجنَّدين المغاربة تعرّضوا للضرب والتعذيب كوسيلة لامتحان قدرتهم على التحمل وكتمان السر في حالة الوقوع في الأسر».. بعد أن توجه هؤلاء إلى معسكرات لبنان للتمرن على القتال، فوجئوا بمعاملة قاسية وحاطة بالكرامة لم يكونوا ينتظرونها، وحين عادوا إلى فرنسا قرّروا الانتقام من زعيمهم النعماني الذي أرسلهم إلى معسكرات التعذيب. هكذا اتفق كل من صهري النعماني حمزة وخالد الصاوي على نصب كمين له في مدينة أفينيون الفرنسية لاغتياله، حسب ما أدلى به أعضاء الخلية الموقوفون في شهر ماي الماضي من طرف السلطات المغربية، حيث أكدوا أن «القاتلَين، حمزة وخالد الصاوي، نفذا العملية بسبب المعاملة السيئة التي تعرّضوا لها من طرف قياديّي التنظيم اللبناني في إحدى المعسكرات التدريبية لمدينة طرابلس» التي يعتبرون أن صهرهم النعماني هو من تسبب لهما فيها. وهي الرواية التي مازال أتباع النعماني يكذبونها، ويؤكدون، بالمقابل، على تورط الأجهزة الأمنية المغربية في مقتل النعماني بتحالف «صليبي». اغتيال النعماني كانت هذه هي الرواية الأمنية الرسمية، التي تذهب في اتجاه أن النعماني اغتيل في صراع داخليّ يهم أعضاء حركة المجاهدين المغاربة.. بالنسبة إلى الباحث في الحركات الإسلامية، محمد ضريف، فإنه «في سنة 1984 اختفى النعماني، وهناك من يقولون إن المخابرات المغربية، بتنسيق مع نظيرتها الفرنسية، قامت بتصفية النعماني في فرنسا، وهناك رواية ثانية تقول إن الفرنسيين لا يمكن أن يسمحوا باغتيال النعماني على أراضيهم، وبالتالي كان اغتيال النعماني أشبهَ باغتيال المهدي بنبركة.. لكنّ الأهم أنه مع نهاية سنة 1984 لم يعد للنعماني أيّ أثر، واختفى عن الأنظار، وانتهى الحديث عما يسمى «حركة المجاهدين بالمغرب».. رواية تتقاطع إلى حد كبير مع وثيقة (تتوفر عليها «المساء») صادرة عن محمد النكاوي، الذي خلَف النعماني على رأس التنظيم المسلح، يقول، فيها بأن «النعماني قُتل غدرا بتواطؤ استخباراتيّ محلي ودعم إقليميّ صليبي وبالاعتماد على أدوات داخلية من بني جلدتنا».. وكان النكاوي، المعتقل داخل السجن المركزي في طنجة، يتحرك بهوية مزورة وهي «عبد الله الريفي».. وكانت له علاقة مع روبير ريتشارد، المعتقل على خلفية اتهامه بالضلوع في أحداث 16 ماي، لأنه كان ينوي تكليفه بالجناح المسلح لحركة المجاهدين المغاربة.. وأشار النكاوي، في رسالته السابقة، إلى شخص آخر خلفه على رأس الحركة، وهو في السجن، ويتعلق الأمر بعلي البوصغيري، الذي كان يتحرك بهوية مزورة أيضا، حتى أعلِن، في شهر ماي الماضي، عن اعتقال أعضاء خلية المجاهدين المغاربة وعثر على جثة علي البوصغيري في منزل بأحد دواوير نواحي مولاي بوسلهام.. في هذا السياق، يقول محمد ضريف: «منذ وفاة النعماني في 1984 لم يعد أحد يتحدث عن حركة المجاهدين بالمغرب، إلى أن جاءت سنة 1994، حيث طفت على السطح، من جديد، بعدما أثير اسم «الحركة الإسلامية المجاهدة» على إثر اعتقال عبد الإله زياد(المتوزرط في أحداث إسني بمراكش) وطرح السؤال حينها: هل يتعلق الأمر بالتنظيم نفسه الذي كان يحمل اسم حركة المجاهدين بالمغرب، أم إنه تنظيم ثانٍ؟ لتعود إلى الواجهة، مرة أخرى، مع اعتقال محمد النكاوي في خضمّ الاعتقالات التي تلت أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية، ليتضح حينها أن هذا التنظيم ما زال موجودا»، مضيفا: «تفيد المعلومات المتوفرة إلى حدود الساعة أن كلا من علي البوصغيري والنكاوي غادرا المغرب سنة 1984 وعادا إليه بهويتين مزورتين في بداية التسعينيات». كان لا بد للنعماني، إذن، أن يعيش طويلا حتى بعد وفاته البيولوجية.. كان هذا الشاب، الذي تلقى التداريب القتالية على يد بعض الفصائل الفلسطينية، ومنها مجموعة «أبو نضال» خلال مذبحة صبرا وشاتيلا التي تعرض لها الفلسطينيون اللاجؤون في 1982، متواجدا فوق الأراضي اللبنانية، حسب إفادات مجموعة من المصادر القيادية في صفوف الشبيبة الإسلامية، وبعدها عاد إلى فرنسا، حيث تعرَّض للاغتيال. هنا تتناسل الأسئلة التي ليست لها أجوبة واضحة: كيف تمكّن النعماني من مغادرة المغرب واللجوء إلى فرنسا؟ وهل لعب عبد الكريم الخطيب بالفعل دورا في هذه العملية؟ وإذا كان الخطيب قد لعب دورا فمن هي الجهة التي طلبت تعاونه معها ومن أعطاه الضوء الأخضر؟ ولماذا لم يطالب المغرب فرنسا بتسليمه إذا كان مطلوبا في ملف اغتيال بنجلون؟ وهل تم توظيف النعماني من طرف فرنسا ضد المغرب في بداية الثمانينيات مع وصول الاشتراكيين الفرنسيين إلى السلطة؟.. يتعلق اللغز الثاني في قضية عبد العزيز النعماني بتأسيسه التنظيم السري في بداية السبعينات، أي قبل اغتيال بنجلون، إذ يطرح هذا الأمر عدة تساؤلات، من بينها: هل لم يكن للنعماني فعلا، كما تقول الشبيبة الإسلامية، أي علاقة بها ولم ينضمَّ إليها أبدا؟ أم أن الأمر يتعلق بانشقاق عن الشبيبة في بداية السبعينيات؟.. تطرح هذه الإشكاليات واحدة من فرضيتين: إما أن حركة المجاهدين المغاربة كانت بمثابة الجناح المُسلَّح لحركة الشبيبة، وهي التي نفذت عملية اغتيال بنجلون، وهنا تكون مسؤولية الشبيبة عن العملية تابثة، وإما أن تكون الحركة قد انشقّتْ عن جماعة مطيع وقامت بتنفيذ العملية التي ألصِقت بالشبيبة».. لكن ما هو مؤكد هو أن مجلة «السرايا»، التي أسّسها النعماني في فرنسا، كانت تنشر مقالات تهاجم مطيع، وهذا يعني أن الأمر كان يتعلق بانشقاق وليس بتنظيم موازٍ، لأنه لا يمكن للنعماني أن يصدر مجلة يهاجم فيها «شيخه» إذا لم يكن قد انفصل عنه أو وضع نفسه بديلا عنه، وبالتالي فإن جزءا كبيرا من الحقيقة لا يملكه إلا الشيخ عبد الكريم مطيع، مؤسس حركة «الشبيبة الإسلامية»، الذي ما زال مُصرّا على نفي أي ارتباط له ولمنظمته بعبد العزيز النعماني، رغم الشهادات التي تؤكد وجودها، وأبرزها تلك الواردة في تقرير هيأة الإنصاف والمصالحة.