ليست الطيور والأسماك والمهاجرون السريون والشرعيون وحدهم الذين يتنقلون ما بين ضفتي مضيق جبل طارق، بل هناك أيضا الكثير من الأموال التي تطير فوق هذا المضيق باستمرار. وحسب المعلومات التي تكشف عنها السلطات الإسبانية، فإن العبور السري لمضيق جبل طارق لا يقتصر على المهاجرين السريين والمخدرات فحسب، بل هناك كميات هائلة من الأموال الملوثة تعبر المنطقة أيضا في اتجاه الضفتين. وعلى الرغم من عدم وجود أرقام محددة في المغرب حول الأموال التي يتم تهريبها نحو الجنوب الإسباني، فإن السلطات الإسبانية تقدرها بمئات الملايين من الدولارات سنويا، وهي خليط من أموال الاتجار في المخدرات والأموال المختلسة من الميزانيات العامة في المغرب والتي تجد لها مأوى في فردوس الجنوب الإسباني. ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي، أصبحت الأموال المغربية تجد في جنوبإسبانيا ملاذا آمنا، واستثمر هناك العشرات من المسؤولين السياسيين والجماعيين والبرلمانيين ورجال الأعمال، الذين كانوا يعتبرون تلك المنطقة بديلا لمشاريعهم في حال تغير الأوضاع السياسية في المغرب، والذي كان يضطرب باستمرار سياسيا واجتماعيا. ويتوفر المئات من المسؤولين المغاربة من مختلف المناطق، على عقارات وأرصدة وأملاك في الجنوب الإسباني، وهي المنطقة التي تضم أيضا أرصدة سياسيين من مختلف بلدان العالم، بما فيها بلدان شرق أوروبا والبلدان العربية والإفريقية وأمريكا اللاتينية. وعرفت عملية تهريب الأموال المغربية نحو الجنوب الإسباني ارتفاعا كبيرا خلال الحملة الشهيرة ضد التهريب وتجارة المخدرات التي قادها وزير الداخلية الراحل إدريس البصري سنة 1996، بأوامر مباشرة من الملك الراحل الحسن الثاني، والتي أدت إلى تهريب أموال ضخمة نحو جنوبإسبانيا. وخلال تلك الحملة فر العشرات من المغاربة، بينهم رجال أعمال ومسؤولون أمنيون وموظفون نحو الجنوب الإسباني وحملوا معهم أموالهم هربا من مصادرتها من طرف السلطات المغربية. وبدا لافتا خلال تلك المرحلة مشاهدة وجوه مختلفة التوجهات والمناصب في منطقة ماربيا والمناطق المجاورة لها، وهم الذين فرقتهم الحملة التي سميت بالتطهيرية وجمعهم هدف واحد وهو وضع أموالهم في حسابات آمنة والهروب من الملاحقات القضائية التي تميزت وقتها بالانتقائية والعشوائية. ولا يقتصر تهريب الأموال المغربية نحو الجنوب الإسباني على المسؤولين السياسيين والمهربين وتجار المخدرات، بل هناك أيضا الكثير من الموظفين الفاسدين الذين يتجنبون الشبهات عبر تهريب أموال حصلوا عليها بطرق غير مشروعة. وفي مدينة ماربيا، وهي أغلى مدينة في جنوبإسبانيا في منطقة الكوستا ديل سول، يبدو ملفتا كيف أن موظفين متوسطي المدخول في المغرب استطاعوا شراء عقارات في المدينة، وأحيانا فيلات بمسابح وحدائق، والتي عادة ما يتوجهون إليها كل صيف لقضاء عطلهم. وخلال فصل الصيف يبدو هؤلاء الموظفون نشازا في شوارع ماربيا وهك يتجولون بأبهة ملفتة، بينما ترافقهم خادمات مغربيات بئيسات يرتدين ثيابا متقشفة، وفي أغلب الأحيان لا يتجاوزن الخامسة عشرة من العمر، مع أن القانون الإسباني يجرم عمل الأطفال. وفي المدن والبلدات القريبة من ماربيا، مثل مالقة وإيستيبونا وبلدات أخرى، هناك المئات من الشقق يملكها مسؤولون ومستشارون جماعيون، إضافة إلى برلمانيين مغاربة كثيرين سجلوا شققا وفيلات بأسماء زوجاتهم أو أبنائهم. وقبل بضعة أيام كشفت «حادثة اختطاف» غريبة عن ظاهرة عصية على الفهم، حين ذكرت وسائل الإعلام الإسبانية أن زوجة وحفيد سياسي مغربي ينحدر من طنجة، تم اختطافهما في بلدة إيستيبونا جنوب مالقة، وأن الهدف من هذا الاختطاف كان هو الحصول على فدية تزيد عن مائة ألف أورو، أي حوالي 120 مليون سنتيم. غير أن هذا الحادث تسبب في وضع طريف بالنسبة إلى كثير من سكان طنجة، والذين حاولوا البحث عن اسم «المسؤول السياسي»، ليتم اكتشاف أن أغلب المسؤولين في المدينة يتوفرون على شقق وإقامات في الجنوب الإسباني، ومنهم من يتوفرون على علاقات مشبوهة مع شبكات خارج القانون في المنطقة. كما أن خبر الاختطاف تحدث أيضا عن مطالبة المختطفين لعائلة المسؤول المغربي بأداء الفدية نقدا أو بتسليم سيارة بورش فاخرة يزيد سعرها عن مائة ألف أورو، وتبين فيما بعد أن عددا من المسؤولين في المدينة يملكون إقامات في الجنوب الإسباني، وأن عددا منهم يملكون سيارات بورش الفاخرة أيضا.