قبل حوالي 8 سنوات، وبالضبط في فبراير 2001، عبر المغرب رسميا عن قلقه من الخطر النووي الذي يسبح قرب أنفه، وقال دبلوماسي مغربي في السفارة المغربية في العاصمة الإسبانية مدريد إن «المغرب قلق ومتخوف من وجود غواصات نووية في مضيق جبل طارق»، ومناسبة القلق المغربي كانت هي وجود غواصة نووية معطوبة تدعى «تايرليس» كانت راسية في ميناء مستعمرة جبل طارق من أجل إصلاح الأعطاب، أي أن رؤوسا نووية كانت في غواصة معطوبة على بعد 14 كيلومترا فقط من البر المغربي. الغواصة «تايرليس» أثارت وقتها الكثير من المخاوف، ليس في المغرب فقط، بل أيضا في إسبانيا بدرجة أكبر، حيث تحركت المنظمات الحقوقية والهيئات المدنية لتحتج على خطر كبير ينام فوق رؤوس الإسبان لأن صخرة جبل طارق لا تبعد سوى بضع عشرات من الأمتار عن إسبانيا، والإسبان في كل الأحوال يعتبرون صخرة جبل طارق جزءا لا يتجزأ من التراب الإسباني، تماما كما يعتبر المغاربة مدينتي سبتة ومليلية جزءا من ترابهم. المغرب بدوره أبلغ وقتها السلطات البريطانية والإسبانية بضرورة إصلاح الغواصات النووية في مناطق بعيدة وفي أعالي البحار وليس في منطقة حساسة جدا وعلى مقربة من المياه الإقليمية المغربية. وعلى الرغم من أن الاحتجاج المغربي لم يكن قويا ولا صادرا عن جهة نافدة، فإنه حدث في كل الأحوال. قنابل تحت الماء مخاوف الإسبان من الغواصات النووية في مضيق جبل طارق تبدو أكبر بكثير من مخاوف المغاربة، ربما لأنهم أقرب إلى الخطر من غيرهم، مع أن حوادث نووية في مضيق جبل طارق ستكون عواقبها مدمرة إلى حد كبير، لهذا فإن جمعيات إسبانية طالبت بمحاكمة رئيس الوزراء الإسباني وقتها، خوسي ماريا أثنار، زعيم الحزب الشعبي، لأنها ترى أنه تساهل مع موضوع وجود غواصات نووية راسية في ميناء جبل طارق خلال فترة حكمه ما بين 1996 و2004. الاحتجاج الإسباني الأخير حدث قبل بضعة أسابيع فقط عندما وصلت الغواصة النووية الأمريكية «يو إس إس ألكسندريا»، وهي غواصة توصف بكونها من بين أكبر وأخطر الغواصات النووية الأمريكية. وصول هذه الغواصة إلى ميناء جبل طارق كشف عن جوانب مثيرة في مضيق جبل طارق، والذي تحول إلى معبر رئيسي للغواصات النووية، ليس الآن فقط، بل منذ الحرب العالمية الثانية، غير أنها اليوم أصبحت أكثر ظهورا. ووفق مصادر عسكرية إسبانية، فإن غواصات نووية أمريكية مثل «يو إس إس أنابوليس»، و«يو إس إس فلوريدا»، و«إتش سوبيرب»، ويو إس إس دالاس»، و»يو إس إس هارتفورد»، كلها عبرت مضيق جبل طارق في فترات متقاربة، وبالضبط في النصف الثاني من السنة الماضية. المدافعون عن البيئة في إسبانيا يصفون هذه الغواصات بكونها قنابل تسبح تحت الماء، خصوصا وأن انفجار قنبلة نووية واحدة في المضيق لا يشبه في شيء انفجارها في مياه مفتوحة، لأن مضيق جبل طارق ضيق ومليء بالسفن والغواصات وبواخر الصيد، وحوله بلدان بمئات الملايين من السكان، وهو ما يجعل المخاطر في هذه المنطقة مرتفعة بأزيد من عشر مرات بالمقارنة مع مناطق بحرية أخرى. السخط الذي يثيره رسو الغواصات النووية في ميناء صخرة جبل طارق، وخصوصا الغواصات المعطوبة، كان يقابل بوعود كثيرة من حكومة الصخرة، والتي كانت تعد باستمرار بأن ذلك لن يتكرر مجددا، لكن هذه الوعود كانت تشبه الوعود الانتخابية، لأنه بمجرد أن تغادر غواصة معطوبة ميناء الصخرة، ترسو فيه من جديد غواصة أخرى، وكأن هذا الميناء تحول إلى كاراج نووي مفتوح. وخلال فترة حكم توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، رسا أكبر عدد من الغواصات النووية في ميناء الصخرة، واحتجت الحكومة الاشتراكية كثيرا، ودائما كان بلير يقدم وعودا إلى نظرائه الإسبان، لكن الوعود تذهب أدراج الرياح. غواصات حرب الخليج خلال حرب الخليج الأولى، أي عندما شن الأمريكيون حربهم الأولى على العراق بعد الغزو العراقي للكويت، كان بإمكان أي مغربي يجلس قرب شواطئ طنجة أن يلاحظ تلك الحركة غير المعهودة للبوارج الحربية وحاملات الطائرات وكل أشكال العتاد البحري الحربي والجوي. ومقابل ذلك العتاد الظاهر فوق سطح الماء، لم يكن من الممكن رؤية عشرات الغواصات التي تمر متخفية تحت مياه المضيق، وغالبيتها غواصات نووية كانت في طريقها إلى منطقة الشرق الأوسط. بعد ذلك، وبعد غزو الأمريكيين للعراق بسبب «أسلحة الدمار الشامل» سنة 2003، ووفق تقارير أنجزتها منظمة «غرين بيس» (السلام الأخضر)، فإن الغواصات النووية في مضيق جبل طارق استعادت مجدها السابق، ورست في ميناء المستعمرة البريطانية أعداد قياسية من الغواصات الحاملة لرؤوس نووية. واستطاع نشطاء «غرين بيس» التقاط صور لعدد من الغواصات النووية راسية في الميناء، وأكثرها خطورة كانت غواصات بريطانية وأمريكية مثل «إتش إم إس توربولانت»، و«يو إس إس هامبتون»، و«إتش إم إس ترينشانت»، و«إتش إم إس سوفيرينغ»، و«يو إس إس ألباني». غير أن هذه اللائحة تظل غير مكتملة بالنظر إلى أن عدد الغواصات النووية العابرة في صمت هو أكبر بكثير. وتحذر «غرين بيس» من مغبة هذا النشاط النووي المحموم في مضيق جبل طارق في تقرير يقول إن «المضيق يعرف حركة بحرية كبيرة جدا، والغواصات النووية أصبحت خطرا حقيقيا سواء عبر إمكانية وقوع حوادث، لأنها تمر في كل الاتجاهات المعاكسة، وهو ما يرجح حدوث حالات اصطدام، أو عبر تسرب الوقود النووي إلى مياه البحر». ويضيف التقرير أن الغواصات النووية لا تشكل فقط خطرا على مضيق جبل طارق، بل على البحر الأبيض المتوسط بكامله، ولذلك وجب سن قانون دولي يحرم على الغواصات النووية ولوج هذا البحر، ومنع رسوها في الموانئ القريبة من المدن». ميناء بلا شخصية ميناء جبل طارق ليس نقطة للأخطار النووية فقط، بل هو أيضا ميناء يغذي التلوث في مضيق جبل طارق، هذا المضيق الذي كان جنة بحرية، وتعبره كل عام أصناف كثيرة من الحيتان والأسماك ما بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، وتحول اليوم إلى مضيق الأخطار والنفايات. وخلال السنوات الأخيرة، فإن أخطار حوادث التلوث كان سببها مضيق جبل طارق الذي يستقبل بواخر وسفنا مهترئة تلجأ إليه لإصلاح أعطابها. وخلال عمليات الإصلاح تتخلص هذه البواخر من الكثير من حمولتها الملوثة أو وقودها المخزّن. الإسبان يتهمون مسؤولي ميناء الصخرة بأنه أرخص من اللازم، لذلك تلجأ إليه السفن الرديئة، أي أنه «ميناء بلا شخصية»، وسفن العالم تقذف فيه أوساخها، لكن المشكلة أن هذه الأوساخ تتسرب لمياه المضيق، ويكون المتضرر الأساسي إسبانيا ثم المغرب، الذي تحمل إليه التيارات البحرية القوية مخلفات البواخر المعطوبة. آخر حوادث التلوث في مضيق جبل طارق تم بواسطة باخرة «نيو فلام»، وهي باخرة كانت تحمل عشرة آلاف طن من الخردة، وأصيبت بعطب في عرض البحر، فتوجهت نحو مضيق جبل طارق من أجل الإصلاح، لكن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر، وغرقت الباخرة وتسرب منها كل الوقود الذي كان في أحشائها، واختلطت الخردة مع الفيول، وانتشر كل ذلك في عرض البحر، وحملت الرياح جزءا منه إلى الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق، واشتكى المسؤولون الإسبان في مدينة سبتة، أي المدينة التي تجاور تطوان وطنجة، وهو ما يعني أن المياه المغربية أيضا تلوثت، لكن المسؤولين المغاربة لم ينبسوا ببنت شفه. الصمت المغربي له عدة تفسيرات، أولها أن المسؤولين المغاربة يعتبرون مضيق جبل طارق منطقة بحرية دولية لا علاقة لهم بها رغم أنهم يقتسمون ملكيتها جغرافيا مع الإسبان. والسبب الثاني هو أن المغرب لا يتوفر على نظام جهوي قوي مثل النظام الجهوي في إسبانيا. وإذا كانت الحكومة الجهوية في إقليم الأندلس (جنوبإسبانيا) تتوفر على صلاحيات قوية ولها صوت مسموع، سواء أمام الحكومة المركزية الإسبانية أو في المنتديات الدولية، فإن المغرب لا يتوفر على مثل هذا الامتياز، لذلك عندما تتلوث شواطئ المغرب الشمالية أو تمر غواصات نووية قرب أنفه، فإن المسؤولين المغاربة البعيدين في الرباط لا يهتمون مطلقا لهذا الأمر ويعتبرونه بعيدا جدا عنهم. غواصات الحرب الباردة عبور الغواصات النووية لمضيق جبل طارق ليس وليد اليوم، بل يعود إلى عقود خلت عندما كانت الحرب الباردة في أوج اشتعالها. ووفق التقارير العسكرية الغربية، فإن الاتحاد السوفياتي كان يمارس حربه الباردة قلبا وقالبا، أي أنه كان يعتمد بشكل كبير على البحر، وخصوصا على غواصاته النووية التي تجوب أصقاع العالم، وكانت دائمة العبور لمضيق جبل طارق، الذي كان يعتبره السوفيات الممر الضروري الذي لا غنى عنه. وتشير هذه التقارير العسكرية إلى أن الردع النووي تحت الماء كان على درجة كبيرة من الإثارة بالنظر إلى أن الغواصات السوفياتية والأمريكية كانت دائمة المناوشات في ما بينها، ليس فقط من أجل كسب مناطق نفوذ أكبر تحت الماء، بل أيضا بسبب محاولة كل طرف معرفة درجة التطور العلمي والتكنولوجي الذي وصلت إليه الغواصات المنافسة، خصوصا مع دخول الغواصات عهد الطاقة النووية منذ سنة 1954، ودخول الاتحاد السوفياتي منافسة محمومة مع الأمريكيين لصنع غواصات أكثر تطورا، وهكذا شهدت أعماق البحار حربا لم يرها أحد كانت تشبه مطاردة الحيتان لبعضها البعض، وشهد مضيق جبل طارق جزءا كبيرا ومثيرا من هذه المناوشات.