كشفت لوائح المستفيدين من مقالع الرمال والأحجار، التي عممتها وزارة عبد العزيز رباح، عن جانب مهم من جبهة اقتصاد الريع، وعن استفادة العديد من الأسماء المعروفة في عالم المال والأعمال وفي الإدارة وفي السياسة من هذه الدجاجة التي تبيض ذهبا والتي تذهب عائداتها مباشرة إلى أرصدة هذه الأسماء التي أصبحت، اليوم، من أصحاب الثروات وصار لها في كل مجلس صوت وفي كل حزب صيت. ورغم الملاحظات الكثيرة التي يمكن تسجيلها على الصيغة التي أخرجت بها اللوائح، والتي جرى فيها تفادي ذكر أسماء المالكين المباشرين لهذه المقالع واستبدل الأمر بذكر أسماء الشركات، علما بأن أغلب هذه الشركات هي شركات عائلية بامتياز، والمواطنون في جهات المغرب وقراه يعرفون لمن تعود كل واحدة.. رغم كل ذلك، يمكن القول إنها خطوة، لكنها خطوة صغيرة، تحتاج إلى جراءة أكبر في مجابهة اقتصاد الريع واللوبي الذي يتشكل منه أو يلف حوله، لسبب واحد وهو أن هذه البطانة المالية، التي تشكلت سواء من المستفيدين من كريمات النقل أو من رخص الصيد في أعالي البحار أو من مقالع الرمال والأحجار وغيرها من الرخص الأخرى، تسير في اتجاه تسييد منطق احتكار الثروة، وهذا أكبر خطر على مستقبل الحياة السياسية في البلاد. فمن يمتلك الثروة، يمتلك مفاتيح الدخول إلى المشهد السياسي من بابه الواسع والتحكم فيه؛ وقد بينت الوقائع كيف أن عددا من الأحزاب سقطت رهينة في أيدي هؤلاء المنتفعين، وكيف أن هؤلاء، وبفضل «شطارتهم» بضرورة حماية الثروات التي راكموها، سارعوا إلى التسلل إلى عدد من التنظيمات السياسية، وتحولوا إلى لاعبين مباشرين في مواسم الانتخابات، وإلى حالة استعصاء كبيرة تقف في وجه التنمية المحلية، بعد أن صعدوا إلى سدة تسيير الشأن العام المحلي والجهوي وأحكموا الطوق على جميع المنافذ. ولا نعدم شواهد في هذا الباب، فاستمرار اقتصاد الريع يشكل تهديدا كبيرا للاستقرار الاجتماعي ويضع خيرات البلاد بين أيدي فئة قليلة، ويضرب في الصميم مبدأ التوزيع العادل للثروة. اليوم، يعتبر هؤلاء المستفيدون رقما صعبا في معادلة الديمقراطية، ويقفون، من حيث يدرون أو لا يدرون، أمام انخراط حقيقي للبلاد في صلب التنمية الشاملة المستدامة، فلا يكفي رفع الشعارات الكبيرة والرنانة كي تتحقق الأماني، ولا ينفع أبدا استهلاك الخطابات دون المرور إلى المحطة التالية، والتي تتمثل في القطع نهائيا مع ماضي اقتصاد الريع، ولمَ لا الوصول إلى نوع من المكاشفة خدمة للوطن، والإعلان عن قوائم تضم أسماء هؤلاء الذين ظلوا يستفيدون من خيرات ومقدرات البلاد طيلة أكثر من خمسين سنة، والكفّ -في الحال والاستقبال- عن منحهم تراخيص جديدة لسنوات مقبلة، إذ يكفي أنهم انتهزوا «زمن الغفلة»، ومصوا ضرع البلاد وشفطوا رماله وأسماكه. ليس الوقت لنصب أعواد المشانق ولا لتصفية الحسابات ولا للتشهير أيضا، ولكن عدم تكرار تركة الماضي هو الحل الأنسب، والاحتكام إلى الشفافية والمنافسة الشريفة وتحويل مقدرات البلاد إلى فرص للاستثمار هو خارطة طريق نحو إصلاح الحياة السياسية والاقتصادية حتى لا نذهب في ظل تأرجحات الربيع العربي نحو إنتاج مزيد من الاحتقان الاجتماعي وتوسيع الفوارق ضدا على متطلبات المرحلة التي تقتضي تدشين قطيعة، ليس مع اقتصاد الريع بل مع الأطر الزائفة التي ينتجها هذا الاقتصاد، حين يستأسد على الحياة السياسية، ليخلف في النهاية هذا الأثر المدمر الذي يترجم اليوم في موت السياسة وضمور الأحزاب وتحول العمل السياسي إلى خدمة وقتية ومقاولة للمناولة تخدم أهداف ريع أصبح سياسيا مع مرور الوقت. فطريق حكومة بنكيران ليست سهلة ولا سلسة، وما نشرُ اللوائح إلا جزء بسيط من مسلسل عريض اسمه إسعاف اللحظات الأخيرة قبل حلول الكارثة، فجبهات «الردة» مفتوحة ولوبيات المصالح تضغط في كل موقع، ولذلك فإن العمل على تفادي مصير مفتوح على كل الاحتمالات لن يتغذى على «استهلاك زمن الإصلاح»، كما أن أخطر شيء على الاستقرار هو المضي قدما في تعزيز مواقع طبقة الريع وحمايتها. وقد أبانت التجارب أن الاقتصاد الانتهازي «مقلاع» وعلى استعداد دائم للتضحية بالوطن من أجل الثروة في اللحظات الحاسمة؛ وهو حين تشتد عليه الدائرة، يهرب أرصدته إلى الخارج أو يفر من أقرب مطار أو منفذ حدودي.