إن الإضراب حق من حقوق التعبير عن الذات وشكل من أشكال ممارسة الاحتجاج للمطالبة بالحقوق. والإضراب بهذا المعنى هو الامتناع عن القيام بعمل قانوني، للمطالبة بتغيير الأوضاع المرتبطة بالشغل والحقوق الاجتماعية أو إثارة الانتباه إلى ظروف العمل وغيرها. وتتفق كل القوانين والدساتير والاتفاقيات الدولية على ضمان هذا الحق أو الشكل الاحتجاجي وتنظيمه بالقانون لكي لا يتحول الحق إلى تعسف في استعمال الحق. وهكذا، فإن الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تطرقت، في المادة الثامنة منها، للإضراب واعتبرته حقا أصيلا، شريطة ممارسته وفقا لقوانين البلد المعنى. واعتبرت الاتفاقية أن هذه المادة لا تحول دون إخضاع أفراد القوات المسلحة أو رجال الشرطة أو موظفي الإدارات الحكومية إلى قيود قانونية على ممارستهم لهذا الحق. ونفس النهج سارت عليه الدساتير المغربية المتعاقبة، من دستور 1962 إلى دستور 1996 مرورا بدستور 1970 ودستور 1972 ودستور 1992، والتي نصت، في مقتضيات المادة 15 منها، على أن حق الإضراب مضمون. وهو نفس المقتضى الذي نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 29 من الدستور الأخير لسنة 2011، والتي جاء فيها أن حق الإضراب مضمون. وسيحدد قانون تنظيمي شروط ممارسة هذا الحق. والملاحظ أن الدساتير السابقة على الرغم من أنها تطرقت للقانون التنظيمي، فإن هذا القانون لم يوضع ولم يدخل حيز التنفيذ على مدار 50 سنة من الحياة الدستورية المغربية. وإذا كان المبدأ القانوني والدستوري يذهب في اتجاه حماية حق الإضراب واعتباره من الحقوق المضمونة، فإن المقتضيات الدستورية كذلك نصت على ضرورة ممارسة هذا الحق بحسن نية وتجنب التعسف في استعماله، ذلك أن مقتضيات المادة 37 من نفس الدستور المغربي لسنة 2011 ذهبت إلى أنه يجب على جميع المواطنات والمواطنين احترام الدستور والتقيد بالقانون، وتتعين عليهم ممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق والنهوض بأداء الواجبات. وإذا كان الإضراب بالنسبة إلى الموظف حقا دستوريا، فإن هذا الحق يجب أن يمارس في تناغم مع الحفاظ على استمرارية المرفق العام المتمثل في مرفق العدالة. وفي هذا الإطار، فإن الحفاظ على استمرارية المرفق العام يعتبر بدوره مبدأ دستوريا، لما له من حيوية في خدمة مصالح المواطنين والأجانب المقيمين بالمغرب، على حد سواء وبدون تمييز. إن العامل بالمرفق العام وقبل أن يمارس حقوقه بحسن نية، ينبغي أن يستحضر أن تنظيم المرافق العمومية يتم على أساس المساواة بين المواطنات والمواطنين في الولوج إليها، والإنصاف في تغطية التراب الوطني، والاستمرارية في أداء الخدمات؛ وأن المرافق العمومية يجب أن تخضع لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور. مناسبة هذا الكلام مرتبطة بمقاربة الإضرابات والوقفات الاحتجاجية التي يعرفها قطاع العدل في الآونة الأخيرة. إن مقاربة هذا التحرك أو السلوك ومحاولة فهمه لن تتم بدون استحضار المبادئ والقيم الإنسانية التي ينبغي أن تتحكم في سلوك جميع الفرقاء بالقطاع، بدءا بنخبة الدولة، ومرورا بالمحاماة التي تعتبر الضامن والمدافع عن الحقوق، وانتهاء بالموظف البسيط في مرفق العدالة. إن المراحل التي مرت منها هذه الإضرابات وطبيعة التركيبة النقابية للقطاع وعلاقتها بالفرقاء السياسيين، من جهة، ونخبة الدولة، من جهة أخرى، تطرح أكثر من علامة استفهام بخصوص مدى مشروعية وشرعية الفعل ورد الفعل المرتبط بممارسة هذا الحق. إن ممارسة الإضراب وما يترتب عنها من تعطل الجلسات، مثلا، بالمحاكم العادية، من اجتماعية ومدنية وجنائية، من طرف مضربين ينتمون إلى نفس الإطار النقابي في نفس الوقت الذي تستأنف فيه الجلسات بالمحاكم التجارية، ابتدائية كانت أو استئنافية، يدفع إلى القول بأن مصالح النخبة وكبار رجال المال والإعمال في منأى عن الآثار السلبية المرتبطة بممارسة هذا الحق. وهو سلوك عرفه إضراب القطاع في مراحله المختلفة، سواء لما دعت إليه الآن نقابة محسوبة على اليسار أو لما دعت إليه نقابة محسوبة على الحزب الموجود على رأس الحكومة في مغرب هنا والآن. فهل الأمر يتعلق بممارسة لحق الإضراب وفق ملف مطلبي معقول أم بممارسة للمزايدات السياسية على حساب المواطن البسيط؟ وهل الأمر يتعلق، من جهة أخرى، بالخضوع لتوازنات الجهات المتحكمة في دواليب الدولة الاقتصادية والسياسية؟ إن المزايدات المتمثلة في البلاغات والبلاغات المضادة على شاكلة الوقوف على التجلي الميداني للنقابة الأكثر تمثيلية بالقطاع ولمدى إيمان وتشبث هيئة كتابة الضبط بخطها الكفاحي كلام لا يستقيم مع الإيمان بمبادئ الديمقراطية وخدمة مصالح القطاع التي ينبغي أن تكون جزءا من المصلحة العامة بشكلها المجرد. إن العمل على تمكين المواطنين من حريتهم مبدأ إنساني مرتبط بمفهوم استمرارية المرفق العام وليس فقط بمناسبة عيد الأضحى المبارك، لأن تعطل الجلسات جراء التعسف في استعمال الحق يؤدي بالضرورة إلى ضرب مبدأ استمرارية المرفق العام. إن هذا ينبغي أن يدفع المحاماة، التي تعد في الوقت الراهن دعامة من دعائم العدالة ووسيلة من وسائل حماية حقوق الإنسان، إلى أن تقوم بوظيفتها الحقيقية التي تستهدف الدفاع عن الحقوق الطبيعية والموضوعية للأفراد والجماعات والوطن والأمة والإنسانية؛ والمحامي، الذي يتحمل هذا العبء، عبء الدفاع عن الحقوق والحريات، يتعين عليه أن ينتصر للقانون ويحميه، ليتأتى له القيام بالخدمة العامة المنوطة به على الوجه الأكمل، لأن المحامي لن يكون محاميا إلا إذا كرس نفسه للآخرين من خلال القيام بدوره المجتمعي المتمثل في الدفاع عن حقوق الإنسان التي هي حقوق الآخر، ولا يمكن لأي ظروف أن تحول دون تمكين المحامي من الدفاع عن المحاكمة العادلة التي ينبغي أن تتحقق في الوقت المعقول والمقبول، ولا ينبغي للمحامي مسايرة العبث السائد الآن إلى ما لا نهاية. إن الفاعل السياسي ملزم بتطبيق القانون في ظل المشروعية؛ واحترام القوانين يقتضي، من الجهة الأخرى، حماية مصالح الفئات الشعبية وما تبقى من الطبقة الوسطى التي انتخبت الفرقاء السياسيين الموجودين على رأس الحكومة الحالية لكي تمثلها في ممارسة السلطة، أو على الأقل في محاولة ممارسة السلطة. وليس من المعقول أن تتم إعادة إنتاج سلوكيات الفاعل السياسي الذي ادعى البعض أنه جاء لكي يقوم بتغييره؛ وهذا ما يدفعنا، في ظل الأوضاع الحالية، إلى التساؤل عن مدى قدرة الفاعل الحكومي على أن يجسد على أرض الواقع التطبيق السليم للمبادئ، التي حملها كشعارات، أم إن القول بأن «الإكراهات أقوى من الإرادة الحسنة» يعفيه من الوفاء بالعهود؟ الخوف كل الخوف من أن تتم إعادة إنتاج الماضي، وفق صيرورة قارة قائمة على إعادة إنتاج سلوكيات نخبة الدولة من خلال الحفاظ على مصالحها الضيقة، عوض فتح الباب على مصراعيه للتدافع في إطار حراك اجتماعي حقيقي، يدفع بالكفاءات إلى القيادة؛ وهو المدخل الحقيقي لتنزيل الدستور ووضع الأرضية الحقيقية لدولة الحق والقانون. إن العاملين في قطاع العدل لا يمكن أن يخدموا أنفسهم، ويخدموا المجتمع، ويدفعوا به إلى الأمام إذا لم يكن هدفهم الحقيقي قائما على إعادة الاعتبار إلى جسم العدالة كمدخل للمواطنة الحقة، لذلك فإن الإصلاح الحقيقي رهين بالقطع مع سياسة المزايدات العقيمة، لأن العدالة الحقيقية هي النزاهة، والنزاهة، ثم النزاهة؛ وجهاز العدالة بمعناه العام لن يكون نزيها إلا إذا انتصر بداخله المصلحون الذين يتبنون الإصلاح قولا وفعلا. أستاذ القانون الدستوري/جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء