(س) يعرف نفسه، ويعرف أنه لم يغيّر مواقفه بهذا الشأن، ويعرف أن (ص) يعرف أنه لم يتغير شيء، وأن كل ما تغير هو أن موقفه من النظام السوري كنظام حكم أصبح علنيا ومتناسقا تماما مع مواقفه الأخرى ضد الظلم، وأن (ص) غير مبادئه. (س) يقول إنه يقف مع الشعب السوري، هذا كل شيء، هو لم يتغيّر بل الشعب السوري ثار، والنظام يقمع شعبه. يعرف (س) أن حملات تحريض كهذه كانت تدار في الماضي ضد آخرين من اليساريين والقوميين والإسلاميين ممن اتهموا بالخيانة لأنهم انتقدوا النظام في الماضي، ونظّمت ضدهم جوقات فاشية غوبلزية من هذا النوع. وبعضهم صمد وبعضهم الآخر فقد توازنه واضطر إلى أن يحمي نفسه بالتحالف مع المعسكر الآخر، فليس كل إنسان له شخصية قوية وثقة في النفس ووزن معنوي يسمح له بأن يبقى وحيدا خارج المعسكرات الإقليمية والدولية. قرّر (س) أن يصمد، فلديه الثقة في النفس والوزن المعنوي والمصداقية، ويعرف أن مثل هذه المعسكرات التحريضية ليست إلا زبدا، وقد اندثرت في حالات تاريخية أخرى، ولم تترك الدعاية أثرا سوى العار الملتصق بمن نظمها وشنها ضد الآخرين أيام ستالين وموسوليني وغيرهم. لكن الأمر الأهم أن (س) تأكد خلال النقاش أنه مخطئ، وأن (ص) لم يغيّر مبادئه؛ فقد كان مع «جماعتنا» وليس مع فلسطين. وموقفه لم يكن ضد الظلم بل كان موقفا عصبويّا. ثم اكتشف (س) أن فلسطين أصلا غير مهمة ل(ص)، لأنه يغير موقفه ممن يناضل من أجل فلسطين بموجب موقف هذا المناضل من النظام السوري أو من «جماعتنا». فقد يكون (أ) وطنيا ومناضلا من أجل فلسطين، ولكن (ص) يتهمه بالخيانة والعمالة لأنه عارض النظام السوري. وقد كان (ب) عميلا، تاريخا وحاضرا، ولكنه يقف مع النظام السوري في تقاطع مصالح، فيجعل (ص) منه وطنيا، بل ويُمنّح منبرا للتحريض على الوطنيين. وهذا يعني أن فلسطين ليست مهمة ل«هؤلاء»، وأن النظام الحاكم والمصالح الفئوية هي الأساس. يعتقد (س) أن هذا موقف خياني لفلسطين وللوطنيين الفلسطينيين لصالح نظام فاشي، ليس فيه جانب متنوّر واحد. وفجأة، يرى (س) الأشياء بشكل مختلف وتتضح له أمور كانت مشوّشة؛ فقد كان يعيش في حالة إنكار. هؤلاء يخونون فلسطين مثلما يخونون مبادئ العدل والإنصاف، ليس لأنهم كانوا معها، بل لأنهم كانوا دائما مع غايات أخرى. هم غاضبون لأنهم حسبوا (س) من «جماعتنا»، في حين كان (س) يقف معهم على قضايا عادلة دون حساب للجماعات على أنواعها. تزداد فاشية النظام السوري: شعارات: «الأسد أو لا أحد»، «الأسد أو نحرق البلد»، «الله سوريا بشار وبس»، «هي ويللا بشار هو الله»، تتقزّم أمامها تحيّة «هايل هتلر». قصف البلد بالطائرات، طائفية أقلياتية تدعمه بشعارات قومية ووطنية (وحتى يسارية أحيانا)، وتستخدم في ذلك فلسطين، وتهم العمالة والخيانة توزّع الجملة لمن يعارض النظام كما كانت النازية والستالينية تفعل في الماضي. وتبقى غصة في الحلق؛ فبعض اليساريين والقوميين المدافعين عن النظام يعتقدون، فعلا، أنهم يقومون بعمل ضد تحالف أمريكي سلفي، ولا يرون الشعب السوري خلال ذلك. ليس ذنب الشعب السوري وجود متعصبين يحملون السلاح ضد النظام ويتركبون هم أيضا جرائم في ظل جرائم النظام الكبرى؛ وليس ذنب الشعب السوري أن أنظمة ودولا تعادي سوريا لأسباب لا علاقة لها باستبداد النظام الحاكم، ولا يجوز أن يُؤخذ الشعب السوري رهينة هذه الملابسات، وأن يطلب منه أن يسكت على الظلم ويتحمل جحيم نظام بلا ضمير ولا أخلاق بسبب هذه الأمور. وفي روح (س) حسرة لأنهم ينفّرون الشعب السوري الثائر، والشعوب العربية المتضامنة معه، من مواضيع الشعارات التي يستخدمونها، ولأن القوى الخارجية المعادية للنظام لأسباب لا علاقة لها بالديمقراطية والعدالة تبدو وكأنها تقف مع الشعب السوري في حين يلاحظ (س) أنها غير مهتمة بتدمير البلد، وأصوات طائفية ضد النظام تهب من الجزيرة العربية ودول الخليج. ويقع الخطاب الطائفي على أرض خصبة رواها النظام بالدماء والدموع. والبلد تُدمّر. وسقط الحديث عن التدخل الأجنبي والمؤامرة. لم يتدخل أحد لحماية الشعب السوري من جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية ترتكب ضده بالجملة. وتدخل محور كامل ليس معروفا بحساسيته لحقوق الإنسان لحماية النظام. وكلما طالت المعركة لجأ الناس إلى السلاح، ومن بين من يحملون السلاح دفاعا عن كرامتهم برزت قوى سلفية تقاتل لأسباب لا علاقة لها بمطالب الثورة الديمقراطية. ورأى (س) أن النظام يتحمل مسؤولية ردود الفعل على دمويته، وأنه كان يمكنه أن يختصر هذا كله لو تجاوب مع جزء من مطالب الثورة في البداية. مرة أخرى، يشعر (س) بأن المتمسك بقيم الحرية والعدالة وبفلسطين والعروبة في الوقت ذاته لا بد أن يمضي في طريقه، وأنه ليس وحيدا يدفعه الأمر الأخلاقي، وعزاؤه أن ثمة سوريون يقفون مع شعبهم من المنطلقات المبدئية ذاتها، وغير سوريين متعاطفين معهم للأسباب عينها، وأن وجود هؤلاء ضمانة لعروبة ووطنية وسيادة سوريا المستقبل ضد الفاشية الرثة الحاكمة وحلفائها من الدول السلطوية والشمولية، وأيضا ضد خصومها الطائفيين، وضد إسرائيل وضد الهيمنة الأمريكية على المنطقة. اللحظة كثيفة والفرز صعب ودموي، وعنف النظام وهمجيّته لا تترك مجالا للمراجعة. النظام يتعامل مع البلد من دون مبادئ ولا أخلاق، بل فقط في صراع مستميت على الحكم. إنه مستعد لأن يضحي بالبلد ذاته، فإما أن تكون مزرعته أو يحرقها. أمر سقوط النظام محتوم أمام شعب كهذا، صمد وحيدا من دون دعم جدي ( ولا حتى من أموال النفط) أمام نظام مدعوم بكثافة بالسلاح وبأموال النفط (نفط إيران، وفي الماضي لم يكن لديه مانع من تلقي أموال نفط إمارات الخليج والجزيرة العربية). الشعب السوري لم يتلق دعما لائقا من أي مكان إلى درجة أن ثورته وتضحياته أصبحت مصدر حرج للعالم. أصبح الهدف إنقاذ البلد. وتذكر (س) أن هذه ليست أول مرة يجد فيها نفسه وسط صراع معسكرات في السياسة العربية التي خلفتها مرحلة الاستبداد؛ فحين يرفض (س) أن يستخدمه أحدها لأهدافه يعاديه هذا المعسكر. حين وقف مع المقاومة، قدّر البعض مواقفه واحترمها للأسباب الصحيحة، وعادته إسرائيل للأسباب الصحيحة. ولكن بعض الطائفيين وأنصار الأنظمة حسبوا أنه من جماعتهم؛ وحين اتخذ موقفا ضد الأصولية المتطرفة وجد البعض يمتدحونه ويدعمون موقفه لأسبابهم الطائفية؛ وحين وقف ضد حصار غزة، ومع الاعتراف الدولي بنتائج انتخاباتٍ فلسطينية لم يتحمس لها منذ البداية، اعتقد البعض أنه أصبح محسوبا على الإسلاميين. وحين كان كتب ضد الصهيونية، وجد في بعض من أيّدوه أشخاصا ليسوا ضد الصهيونية بل ضد اليهود؛ وحين وقف مع الإسلاميين وحقهم في الانتخاب والترشح حسبه البعض عليهم، وحين ناقش الإسلاميين حول مواقفهم تذكّر بعض الإسلاميين أنه ليس منهم، وبدأ بالتخوين والتكفير. ثنائيات عصبوية لا تترك مجالا للتفكير العقلاني ولا للموقف الأخلاقي. دفعته هذه الالتباسات في السياسة العربية دائما إلى شق دربه الفكري والقيمي، وتأسيس طريقه بنفسه. وتذكّر (س) بعد أن أنسته الثورات أنه كان قد أعلن تعبه قبل الثورة السورية، وأنه يريد أن يتفرغ للكتابة وأن يزرع حديقته بعيدا عن معارك المعسكرات. قد قال ما عنده بهذا الشأن وكفى. ولكن سوريا غصة في الحلق ويجب أن تتحقق العدالة لشعبها. والطريق إلى العدالة طويل حتى بعد التخلص من النظام، لأن النظام خلف وراءه ركاما. سوف تتحرر سوريا قريبا، ولا مفر من الإعداد لديمقراطيتها ضد الفوضى والثأر والاقتتال، ويجب فعل كل شيء للحفاظ عليها من أجل شعبها أولا، ومن أجل العرب وفلسطين. ولا بد من التأسيس لجيل جديد متحرر من المعسكرات مناهض للطائفية، سنية كانت أو شيعية أو مسيحية أو غيرها، جيل مدفوع بالحرية والكرامة والعقلانية، ومتمسّك بالثقافة والهوية العربية. لا بد من تسهيل المهمة على جيل يسعى إلى بناء العدالة في ظل السيادة الوطنية، ويؤمن بإمكانية توحيد الأقطار العربية الديمقراطية في اتحاد شعوب عربية ديمقراطية تجسر بين المغرب والمشرق، وبين مصر وبلاد الشام، وفلسطين في قلبه.