أخيرا اعترفوا في وزارة السياحة أنهم لن يستطيعوا تحقيق رؤية عشرة ملايين سائح في أفق 2010. ولأنهم دائما يبحثون عن مشجب يعلقون عليه فشلهم، فقد عثروا في الأزمة الاقتصادية العالمية على هذا المشجب. وغيروا فجأة توقعاتهم المتفائلة التي وضعوا فيها المغرب بين ست دول في العالم لن تتأثر بالأزمة العالمية، بتوقعات أكثر تشاؤما من العادة. لا أحد يجادل في أن السياحة في المغرب هي الصناعة الثقيلة رقم واحد. بعائداتها يتم تمويل صناديق الدولة وميزانيات القطاعات الحكومية. وإذا انهارت السياحة فإن أحد أهم وأكبر مورد للعملة الصعبة سيصاب بالنضوب. ولذلك فالاتفاقية التي وقعها كل من حجيرة، وزير الإسكان، وحرزني، رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والرامية إلى تحويل المعتقلات السرية لسنوات الرصاص إلى مراكز ثقافية ومتاحف فنية، تبقى المنقذ الوحيد لسياحتنا الوطنية من السكتة القلبية. كيف ؟ طيلة ثلاثين سنة جرب المغرب كل الأنواع السياحية، من السياحة النخبوية التي استهدفت أثرياء السويد والدانمارك والنرويج والألمان بأكادير خلال السبعينات والثمانينات، إلى السياحة الجبلية وسياحة الصحاري بالرشيدية وأرفود ومرزوكة، وصولا إلى السياحة الجنسية التي رفعت ضدها وزارة السياحة شعار «السياحة المسؤولة» دون طائل. واليوم ليس أمام وزارة السياحة سوى أن تجرب شعار «سياحة الرعب». وهذا المخطط بسيط وعملي، وهو الوحيد الذي من شأنه أن يساعد المغرب على تحقيق رهان عشرة ملايين سائح في أفق 2010. وعوض أن يحمل حجيرة معاوله لهدم مراكز الاعتقال السرية لكي يبني مكانها مراكز ثقافية حديثة يأتي حرزني إليها بالكتب واللوحات والحواسيب والكراسي والطاولات، فإن أحسن ما يمكن أن يقوم به حجيرة وحرزني هو أن يتركا مراكز الاعتقال تلك على حالها، وعوض أن يعرضا فيها لوحات «الفنون التشكيلية» سيكون أحسن لو عرضا فيها أدوات «فنون التعذيب» التي كان يستعملها الجلادون لانتزاع الاعترافات من المعتقلين السياسيين. إن أحد المآثر التاريخية الأكثر إثارة لفضول السياح في رومانيا هي قلعة «الكونت دراكولا»، مصاص الدماء الأكثر شهرة عبر التاريخ. والسياح معروفون بولعهم الكبير بزيارة الأماكن التي «وشمت» تاريخ الشعوب. ولذلك ففتح هذه المعتقلات السرية في المغرب أمام السياح لكي يتفرجوا على قلاع دراكولا مصاص الدماء المغربي، ستكون فكرة سياحية «جهنمية» ستجلب للمغرب ملايين السياح المتعطشين لرؤية أدوات «فنون التعذيب» التي كان يستعملها أحفاد دراكولا لانتزاع اعترافات المعتقلين، وأحيانا أرواحهم عندما «يبدع» الجلاد في «فنه» ويصل مرحلة النشوة القصوى. ويمكن للسيد حرزني، رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، بوصفه معتقلا سياسيا سابقا، تعرض للتعذيب في أحد هذه المعتقلات السرية، أن يبرم اتفاقية مع وزارة السياحة تعطيه الحق لكي يشتغل دليلا يرافق السياح ويشرح لهم طبيعة الأدوات الفنية التي كان يستعملها الجلادون لانتزاع الاعترافات. كما يمكن لوزارة السياحة أن تستعين بالجنرال العنيكري وخبرته في مجال الفنون. فالرجل أصبحت تشاهده في المعارض الفنية أكثر مما تشاهده في «القشلة». وبالأمس زار العنيكري معرض الفنان التشكيلي بنبين، الذي قضى أخوه سبع عشرة سنة في معتقل تازمامارت الرهيب في الوقت الذي كان والده يحكي «الحجايات» للحسن الثاني لكي ينام. واليوم يزور معرض مصطفى بوجمعاوي بالدارالبيضاء لكي يتأمل لوحات الفنان المستوحاة من الكؤوس. كؤوس الشاي طبعا. فمتاحف سياحة الرعب ستكون بحاجة إلى من يشرح «كيفية استعمال» كل تلك الأدوات الغريبة التي كان النظام السياسي المغربي يلجأ إليها لإخراج مارد المعارضة من عقول شباب متمرد ومشاغب نسي وهو يلعب مع «الغولة» أن «الغولة» لا تميز بين اللعب مع أبنائها وبين أكلهم. وهكذا سيقف السياح مبهورين وهم يرون «القرعة» بأحجامها المختلفة موضوعة فوق رافعة مضاءة، ومكتوب عليها «أداة للتعذيب كان يستعملها النظام السياسي لإجلاس المعتقلين السياسيين فوقها لإجبارهم على الاعتراف بما لديهم من معلومات». ثم يمرون إلى التحفة الفنية الموالية فيشاهدون قطعة من القماش معلقة بخيط رفيع إلى السقف، مكتوب تحتها «الشيفون، خرقة نتنة ومبللة بكل أنواع القاذورات، توضع في فم المعتقل ويصب الجلادون فوقها المزيد من المياه النتنة وأحيانا يعوضون المياه بالتبول فوقها لإهانة المعتقلين وتحطيم معنوياتهم». وهكذا سنحصل في النهاية على متاحف «الرعب» في كل من «أكدز» و«قلعة مكونة» و»الكومبليكس» بالرباط و«درب مولاي الشريف» بالدارالبيضاء و«دار المقري» و«تازمامارت»، وحتى «دار بريشة»، إذا سمح حزب الاستقلال بإدراج هذه الدار ضمن «السيركوي» السياحي وذلك بالحديث عن الأدوات التي استعملت في جلسات التعذيب التي مارسها الحزب ضد معارضيه. وستعطي كل هذه المتاحف نبذة مختصرة عن «فنون التعذيب» في مغرب سنوات الرصاص، عبر عرض أدوات هذه الفنون، كالطيارة والفلقة والكرباج وآلات الكهرباء وملاقط قلع الأظافر وأحواض الأسيد وغيرها من الأدوات «الفنية» التي «أبدعتها» يد الجلاد المغربي والتي يندر وجود مثيل لها في العالم. فهذه الأدوات «الفنية» هي إحدى مفاخر صناعتنا التقليدية التي يجهل عنها السياح كل شيء. وحتى بالنسبة إلى المناطق الجبلية التي تعرف فيها السياحة انخفاضا ملحوظا، فيمكن ضمها إلى هذا المخطط السياحي «الأسود»، وذلك عبر إدراج مناطق ككلميمة ومولاي بوعزة وإملشيل وخنيفرة حيث لازال يوجد بعض ضحايا أحداث 1973، ضمن رحلات «سياحة الرعب» هذه. وهناك لن ينسى السياح أبدا وجه محمد قاسمي الذي كان كاتبا إقليميا للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وهو يحكي أمامهم كيف اقتلع الجلادون عينه وخصيتيه في معتقل «بوزمو» الرهيب الذي كان جلادوه متخصصين في قلع العيون. ربما حتى لا يرى أحد ما جرى هناك من فظاعة ووحشية وأن يكتفوا فقط برؤية موسم الخطوبة الذي يجري على بعد خطوات من المعتقل. لكن بمستطاعهم استدعاء الدكتور عبد الهادي مسواك، طبيب الملك سابقا، وعوض المكتب السياسي للتقدم والاشتراكية، لكي يشرح لهم كيف عالج محمد قاسمي عندما جاءه مكسر الفكين، وكيف استعاد حركة فمه بفضل وضعه «قراصات النشير» بين أسنانه لمدة ساعة كل يوم . كما سيفتحون أفواههم مرعوبين وهم يسمعون قصة «فاضمة أمزيان» وهي تحكي لهم كيف وضعت ابنها حفيظ وهي تحت التعذيب، بينما كانوا يعذبون أمامها ابنتيها الأخريين. وطبعا سيعتذر «الدليل» السياحي لهؤلاء السياح بسبب عدم قدرة امرأة ك«فاضمة أوحرفو» على تقديم شهادتها التي كانت ستحكي فيها كيف ظل الجلادون يتناوبون على اغتصابها طيلة ثلاث سنوات من سجنها وسط الرجال. لأنها ماتت من كثرة ما اغتصبوها، والأموات للأسف لا يتحدثون. ولمرافقة زيارات السياح لرؤية كل هذه «اللوحات الفنية» والأدوات المستعملة في صناعتها، والتي ستؤثث بها وزارة السياحة بشراكة مع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان المعتقلات السرية بعد تحويلها إلى «متاحف رعب»، نقترح مصاحبة هذه الزيارات بموسيقى نادرة ألفها فنان «مجهول»، من الجهلة طبعا. وهي عبارة عن صوت مخيف كان يسمعه مختطفو «مجموعة بنو هاشم» عندما تم اقتيادهم إلى أكدز ووقفوا معصوبي العينين بانتظار إدخالهم إلى زنازينهم. وطيلة وقفتهم تلك كانوا يسمعون صوتا شبيها بالصوت الذي تطلقه الأضحية عند الذبح. فكان كل واحد من المعتقلين ينتظر مرتجفا أن يأتي دوره لكي يمر إلى المجزرة. قبل أن يفهموا أن ذلك الصوت لم يكن سوى «موسيقى تصويرية» لإخافتهم وزعزعة ثقتهم بأنفسهم قبل الشروع في الاستنطاق وجلسات التعذيب. هذا إذن هو التاريخ الحقيقي الأليم الذي يريد وزير الإسكان ورئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان تدميره ومحوه، عبر تحويل مراكز الاعتقال السرية تلك إلى مراكز ثقافية. إن هذا المشروع هو أكبر إهانة لذاكرة المغاربة بشكل عام، ولذاكرة المعتقلين السياسيين الذين مروا من هذه المراكز بشكل خاص. وعوض محو هذه المعتقلات من الوجود على الدولة أن تحافظ على وجودها حتى تبقى شاهدة على أخطاء الماضي الجسيمة، وحتى لا تتكرر هذه الأخطاء الآن وفي المستقبل. على الدولة أن تتساءل لماذا لم يتجرأ أحد في بولونيا على محو معتقل «أوشويتز» الذي كان مركزا لاعتقال اليهود من طرف ألمانيا النازية. ولا على محو كل المعتقلات التي مر منها اليهود خلال رحلتهم الأليمة نحو أفران النازية. ببساطة لأن اليهود فهموا أكثر من غيرهم أن الذاكرة هي السلاح الأكثر فتكا للدفاع عن البقاء. في إسبانيا ينبشون اليوم مقابر أجدادهم لكي ينصفوا ضحايا الفاشية. وفي المغرب يريدون ردم المعتقلات التي كتب فيها أبناء المغاربة تاريخهم المعاصر بالدم، لكي يحولوها إلى مراكز ثقافية. هذا في الوقت الذي يبيعون فيه قلعة «القبيبات» التاريخية في العرائش لمستثمر أجنبي لكي يبني فيها فندقا، بينما تنهار قلعة «الفتح» التي قاومت الغزاة الإسبان والبرتغال بجانبها دون أن يثير ذلك غيرة «ممثلها» البرلماني، الذي بالمناسبة ليس شخصا آخر غير الوزير الأول عباس الفاسي. يا سلام على الثقافة...