انتهزت الجبهة الوطنية، بزعامة مارين لوبين، فرصة تدشين المسجد الكبير لمدينة ستراسبورغ لإرخاء العنان، كما هي عادتها، لسمومها الإسلاموفوبية؛ ففي بيان أصدرته يوم الخميس، أي يوم تدشين المسجد، ندد الفصيل اليميني المتطرف بما أسماه ب»التمويل الأجنبي للمسجد»، كما استنكر استغلال مسلمي المنطقة للامتيازات التي تحظى بها الألزاس موزيل والتي لا ينطبق عليها قانون 1905 الخاص بالعلمانية. وأضاف البيان أنه لا يمكن للجمهورية أن تقبل بالتمويل الأجنبي على أرضها، سواء في ستراسبورغ أو في أي مدينة أخرى، إذ من شأن هذا التمويل أن يسخر لأغراض قد تخدم مصالح هذه الدولة أو تلك. وأطروحة الجبهة في هذا الباب معروفة ومكرورة. وفي كل الأحوال، لا ترغب الجبهة في وجود المساجد على أرض فرنسا؛ كما أنها، لما يصلي المسلمون في الأزقة بسبب عدم توفر أماكن لائقة، تصرخ للفضيحة ولما يشيدون مساجد كبيرة تتسع لآلاف المصلين تندد بالتمويل الخارجي! وقد عودتنا الجبهة الوطنية على مواقف استئصالية تجاه كل ما هو أجنبي، ومسلم على وجه التحديد، إذ يبقى الإسلام والمسلمون إحدى الهلوسات الباثولوجية التي تنشط إيديولوجيتها المتطرفة؛ فقبل إصدار الجبهة لهذا البيان، سبق لمارين لوبين أن خرجت، في عز الاحتجاجات التي رافقت الفيلم المسيء إلى الإسلام والرسومات الكارتونية الساخرة من النبي محمد (ص)، لتطالب بحظر ارتداء الحجاب والجلباب في الأماكن العمومية؛ كما شنت قبل سنة ونصف حملة على المصلين بالشوارع والأزقة يوم الجمعة والذين تضيق بهم جنبات المساجد. واليوم، بعد أن خرج المسلمون من الأقبية إلى أماكن لائقة لأداء شعائرهم، تركب رئيسة الحزب المتطرف على هذا الحدث للنبش في القاذورات، بل الأكثر من ذلك أن عنصريي الجبهة اعتادوا الخروج محملين بسطول من الصباغة وبالمعاول لتلطيخ جدران المساجد بالشعارات المسيئة إلى المسلمين أو انتهاك حرمة مقابرهم، فقبل تدشين المسجد الكبير لستراسبورغ بيومين تم تدنيس حوالي 20 قبرا بالمقبرة الشمالية للمدينة قبل تخريب شواهدها وألواحها. ويذكر أنه يوجد في فرنسا اليوم 2200 مسجد (مع العلم بأن الجالية الإسلامية تقارب 6 ملايين مسلم) وأن 152 مسجدا هي قيد البناء. ويقدر المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية احتياجات المسلمين من أماكن العبادة ب1000 مسجد إضافي. وتتراوح أحجام المساجد المتوفرة بين المتوسطة والصغيرة، ويبقى مسجد إيفري كركورون، الواقع في المقاطعة التي كان مانوييل فالس إلى وقت قريب عمدة لها، أكبر مسجد في فرنسا. ويسيِّر أئمة ورعاة ومحسنون مغاربة أغلبية هذه المساجد، مثل مسجد محمد الخامس في مدينة كولومب، ومسجد إيفري كوركورون ومسجد الفاتح بمدينة بوردو، ويعتبر المسجد الكبير لستراسبورغ آخر المساجد التي تقع تحت نفوذهم... والمغرب أول المساهمين في ميزانية هذا المسجد بنسبة 40 في المائة، فيما ساهمت كل من الكويت والعربية السعودية ب14 في المائة؛ أما الجماعات المحلية فبلغت نسبة مساهمتها 22 في المائة، والمحسنون من الخواص ساهموا بنسبة 25 في المائة. إن كان المسجد الكبير لستراسبورغ يقع تحت نفوذ المغاربة، فإن مدينة ميلوز، القريبة من ستراسبورغ، ستشهد بناء مسجد أكبر حجما منه، وسيقع هذا الفضاء تحت نفوذ اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا، التابع للإخوان المسلمين. ويحظى الاتحاد بنفوذ قوي في فرنسا، وقد دخل في المدة الأخيرة في تحالف مع المجلس الكبير لباريس التابع للجزائر. ومن شأن هذا التحالف أن يطيح بالنفوذ المغربي داخل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي يتزعمه محمد الموساوي. لذا، قد يعرف المشهد الإسلامي في فرنسا خلال الأشهر القادمة، مع انطلاقة أشغال المسجد الكبير لمدينة مارسيليا الذي ترغب الجزائر في فرض وصايتها عليه، صراعا مريرا ربما كشف عن انقساماته وتصدعاته العتيقة، مما قد يضعف من موقعه في المشهد السياسي والديني ويقوي أسلحة خصومه، وبالأخص الجبهة الوطنية العنصرية.