«من سويسرا إلى ألينوي الأمريكية حطّ المهاجر السري رحاله قبل أن يطفو سريعا مع خشبة النجاة إلى ردهات البيت الأبيض الشاسعة حيث الشمس والظلال وحيث الجاه والسلطة والمال. قفز من مركب النجاة ونجا من أسنان قرش الحياة التي لا ترحم. ترجّل من جامعة برنستون الأمريكية، التي حصل منها على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية بدايات العام 1954ليضع قدمه سريعا في معترك الحياة السياسية الأمريكية حيث دخل مجلس الشيوخ الأمريكي في العام 1962 وولاياته الأربع المتتالية حتى العام 1966 قبل أن تسايره الأقدار بحنكته السياسة ليصبح الوزير الأصغر للدفاع في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية وهو في الثلاثينات من عمره بعد أن استطاع كسب احترام الجميع، ومن بينهم الرئيس الأمريكي جيرالد فورد قبل أن يعود ثانية إلى لمنصب ذاته خلال حكم الرئيس جورج بوش الابن 2001-2006 وبعد أن تفشى فيه مرض السياسة وألاعيبها جراء تقلده العديد من المناصب، منها سفير الولاياتالمتحدة لحلف شمال الأطلسي 1973، ورئيس أركان القوات الأمريكية سنة 1974. إنه دونالد رامسفيلد (ولد في 9 يوليوز 1932)، الذي يسرد لنا بأسلوب واقعي أحداث تلك الصورة الغاشمة، التي ترسخت في الأذهان حول ما جرى وما يجري في عراق صدام حسين وعراق الاحتلال الأمريكي. كما يكشف أحداثا سياسية بتسلسلها الزمني، وبصورة خاصة وحصرية، من خلال مذكراته التي حملت اسم «المعلوم والمجهول» لاستكشاف ما حملته السطور وما أخفته بينها لاستكمال الصورة المظلمة. كنت أشعر من خلال الحديث مع صدام حسين برغبته في التعاون مع الغرب ضمن إشارات واضحة لا تحتاج إلى تفسير. رغبة لا أحد يستطيع أن يتخذ القرار بشأنها سوى صدام حسين، الذي يختزل العراق في شخصه حيث لا وجود للآخرين حتى في موضوع فتح منفذ لضخ النفط إلى العقبة الأردنية التي أجاب بشأنها بأنه سينظر في الأمر في حالة وجود ضمانات أمريكية بعدم الاعتداء الإسرائيلي عليها. وربما (حسب وجهة نظري الشخصية فقط) أن صدام يريد أن يقول لي إنه لا شيء يحدث هنا إلا بقرار مباشر مني شخصيا وإذا كنتم تريدون أن أكون البديل الأمريكي للشاه في المنطقة العربية فأنا من يقرّر ذلك ولا أحد سواي.كانت الإشارات توحي بذلك قبل أن يبلغ الحديث بيننا نقطة معينة، حينها أخذ صدام حسين يشير عبر النافذة، داعيا إياي إلى النظر إلى بناية عالية تلوح في أفق المدينة. وبينما نحن ننظر إلى مشهد بغداد المترامية تحتنا سألني: هل ترى تلك البناية؟ فأومأت بالإيجاب قبل أن يستطرد بالقول: عندما يتعطل المصعد في تلك البناية بمن ترانا نستعين لكي يصلحه لنا، فانتظرت الجواب قبل أن يتابع بالقول: سأبقى حينها أتطلع إلى مساعدة الغرب لنا في ذلك. حينها فهمت جيدا (من خلال هذا التصريح) بأن صدام حسين يريد مساعدة الغرب (أي الولاياتالمتحدة) له في حربه على إيران، وغدا المغزى واضحا لنا، فالعراق يحتاج إلى الغرب لكي يجعل من البلد جزءا من العالم الحديث الذي بقيت أتساءل معه (كلما عُدّت بالذاكرة إلى تلك الفترة) كم كان تاريخنا سيتغير لو أن بصيرة هذا الرجل حينها قد رجحت على مراميه الأخرى وأطماعه؟، فقد توهّمت حينها ببصيرة هذا الرجل الذي وقفت أمامه. إنها بصيرة عمياء لكونها لم تكن تنظر إلى العراق والعالم بقدر ما كانت تنظر إلى شخصه فقط وما يريد أن يحققه من طموحات فردية في زعامة الوطن العربي. إخفاء الابتسامة كانت إشارات صدام حسين ورغبته في المساعدات الغربية في شخص الولاياتالمتحدة واضحة بالنسبة إلي رغم كونها لم تأت على شكل طلبات مباشرة، فصدام حسين كان يعي جيدا بأن آثار الطلبات المباشرة ستكون وخيمة بالنسبة إليه، هو الذي طالما رفض الانصياع لأي أحد داخل العراق وخارجه. لكنه كان يريد ذلك بشدّة. كان كلامه أشبه بالتوسل في التضييق على إيران والضغط على الدول المتعاونة معها لإيقاف إمدادات الأسلحة إلى خصومه من أجل أن يحقق انتصارا وهميا يرهب به أعداءه وخصومه الآخرين في المنطقة. أحسست بأنه سيتمسّك جيدا بالمطالب والرغبات الأمريكية لمساعدته على اجتياز هذه الأزمة الراهنة، خاصة عندما أخذ يقول لي: اسمع يا رامسفيلد ما أريد قوله لك الآن دون أن تعمد إلى تفسيره كما تشاء: لا يبدو من الطبيعي بالنسبة إلي أن ينشأ جيل كامل من العراقيين وهم لا يعرفون إلا القليل عن الولاياتالمتحدةالأمريكية ولا أريد أيضا أن ينشأ جيل جديد وكامل من الأمريكيين وهم لا يعرفون إلا القليل عن جمهورية العراق!!! حينها غالبت ابتسامتي، فتلك بالطبع كانت كلماتي بالحرف الواحد التي نطقت بها في وقت متأخر من الليلة الماضية، ومن المؤكد أن ترديد صدام لها لم يأت بوحي الصدفة. لم أعرف كيف التقط صدام عباراتي؟ هل أخبره بها عزيز بشكل شخصي أم أن الغرفة التي اجتمعت فيها بعزيز كانت مزروعة بأجهزة التنصت وهو أمر وارد غير بعيد الاحتمال، ولكن كيفما يكون الأمر فقد شجعني وأشعرني بالسرور أن يعيد صدام تلك الكلمات على مسمعي على هذا النحو، وبدأت أقتنع بأننا من خلال زيادة التواصل مع العراقيين قد نتمكن من إقناعهم بالاعتماد على الولاياتالمتحدة إلى أن يعدّلوا سلوكهم في نهاية المطاف. الهدية العراقية بعد أن ردّد صدام كلماته تلك هزّزت رأسي مؤيداً وردّدت عليه وكأنني أسمع تلك الكلمات لأول مرة: إنني متفق معك تمام الاتفاق يا سيادة الرئيس. يجب علينا العمل جميعا لبلوغ تلك الغاية العظيمة!! وقبل أن أكمل حديثي استدار صدام حسين وتقدّم قليلا إلى خزانة صغيرة داخل ذلك المكتب وتناول قطعة صغيرة لم أع ماهيتها إلا حين قام بوضعها في جهاز الفيديو أسفل التلفاز وقال لي: ستكون هذه هديتك الخاصة مني يا رامسفيلد. تستطيع أن تحتفظ بها بعد مشاهدتها الآن!!، فتلك الهدية أتذكرها جيدا من بين هدايا الزعماء في العالم حتى بعد مرور سنوات طويلة من الخدمة العامة لكونها تفوق جميع الهدايا في غرابتها وطبيعتها، فهي لم تكن رسما تذكاريا أو تحفة فنية بقدر ما كانت شريط فيديو قد تكون مشاهده جمعت خصيصا لي بمناسبة زيارتي تلك ولو أن مستوى إخراجه ما كان ليرشحه لنيل جائزة الأوسكار، فالشريط لا يحتوي سوى على دقيقتين أو ثلاث دقائق تحتوي في مجملها لقطات مصوّرة لا ترقى فوق مستوى الهواة وقد أخِذْت لديكتاتور سوريا آنذاك حافظ الأسد وهو يستعرض القوات السورية ويصفق لها كلما عرض الشريط صورا لعساكر سورية وهم يخنقون كلابا صغيرة حتى تموت وتعقب ذلك مشاهد لصف من النساء الشابات وهن يقطعّن رؤوس الأفاعي بأسنانهم حتى بدت معالجة لقطات الشريط وإعداده، بحيث يبدو الأسد وكأنه حاضر لمشاهدة تلك الوقائع الشنيعة ويصفق لها على الدوام. حينها اعتقدت بأن غاية صدام حسين من ذلك كله هو جعلي أنظر إلى السوريين والأسد بشكل خاص بشيء من الهمجية المتوحشة، وهي فكرة لم يكن من الصعب تسويقها في ظل تاريخ نظام حافظ الأسد الكارثي. تسعون دقيقة أراد صدام حسين من خلال هديته المثيرة تلك أن يُسوّق لي وللإدارة الأمريكية فكرة وحشية وهمجية النظام البعثي في سوريا، ونسي أن العالم كله يعرف مدى وحشيته وهمجيته في التعامل مع الشعب العراقي، خاصة أن منظمات حقوق الإنسان في العالم كانت قد أعدّت الآلاف من الملفات عن تلك المجازر الوحشية والمقابر الجماعية والتصفيات السياسية لخصومه بشتّى الوسائل والطرق، حتى أنه راح يبتكر لهم طرقا جديدة في القتل. لكن رغم ذلك ربما أراد أن يقول لي من خلال هذه الهدية إنه قادر أن يكون عونا للولايات المتحدة في إضعاف سوريا إذا ما ساعدته الولاياتالمتحدة في إضعاف إيران (كانت سوريا في ذلك الوقت داعمة لإيران في مواجهة أطماع صدام حسين) حتى يكتب له النصر بأي طريقة كانت وبأي ثمن، وبقيت تلك الرغبات تُردّد باستمرار طوال مدة لقائي به الذي امتد تسعين دقيقة كاملة بعد أن شعر بفرصته العظيمة بنقل طلباته من خلالي إلى الإدارة الأمريكية وإخبارها باستعداده ليكون الشرطي البديل في المنطقة بعد القضاء على شاه ايران محمد بهلوي. ورغم عدم تمكن الولاياتالمتحدةالأمريكية من إعادة تنسيق علاقاتها مع العراق فإن باب القطيعة الذي دام سبعة عشر عاما قد أعيد فتحه من جديد بعد هذا اللقاء بوقت قليل وتحديدا في عام 1984.