سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
من الخلافة إلى الدولة.. الحركة الإسلامية نقلت الصراع الديني إلى قلب الإسلام الحديث تميزت بثلاث خاصيات أساسية هي : الدعوة الفردية والمراهنة على الحكام ثم الوزن العلمي لأصحابها
أثار وصول الإسلاميين إلى السلطة في عدة مناطق من العالم العربي، بعد ما سمي الربيع العربي، ويثير أسئلة عدة حول قضايا السلطة والحكم والمسألة الدينية والتعددية داخل الحقل الإسلامي نفسه. الكتاب الذي تنشره «المساء» على حلقات يفتح ملف الإسلاميين بين الدين والسلطة ويحاول تقديم إجابات عن العديد من الأسئلة التي طرحها الإسلاميون منذ ظهورهم إلى اليوم: كيف تعامل الإسلاميون مع قضية الخلافة؟ وكيف تم الانتقال من التنظير للخلافة إلى التنظير للدولة الوطنية؟ ولماذا تأخر الاعتراف بالديمقراطية كثيرا لصالح الشورى؟ وما علاقة ممارسة الحكم بالنص؟ وهل يشكل وصول الإسلاميين إلى السلطة نهاية الرحلة أم مجرد بداية لتفجير قضايا جديدة؟.٫ طرحت الموجة الأولى للحركة الإصلاحية الإسلامية التي بدأت من نهايات القرن التاسع عشر وامتدت إلى ثلاثينيات القرن العشرين، قضايا مفصلية في ما يتعلق بمحاولة تحقيق النهضة الإسلامية المنشودة. وقد لاحظنا في الفصل السابق أنّ هذه القضايا التي دافعت عنها هذه الحركة كانت تتعلق أساسا بالنظام الديمقراطي -الذي عبر عنه البعض بالشورى- والفصل بين المستوى السياسي والمستوى الديني في بنية السلطة والحكم وتحرير العقل الإسلامي، أي إعادة إصلاح نظام التربية والتعليم. بيد أنه يجب التأكيد على ثلاث خاصيات أساسية طبعت هذه المرحلة: تمثلت الخاصية الأولى في أن الدعوة إلى الإصلاح خلال هذه المرحلة كانت دعوة فردية ينهض بها شخص واحد. فقد كان المصلحون الأولون يعتمدون على جهودهم الفردية في رفع نداءات الإصلاح والتحرك في سبيله، سواء عبر الكتابة أو الاتصال المباشر بالحاكم أو العلماء لإقناعهم بجدوى ما يدعون إليه. ورغم التقارب الكبير الذي كان موجودا بين هؤلاء المصلحين الذين عاشوا في فترة زمنية واحدة مثلا، فإنهم لم يتمكنوا من نقل أفكارهم ودعواتهم إلى هيئات جماعية بمقدورها ممارسة الضغط لإنجاز الإصلاحات التي يطالبون بها. وإذا كان الأفغاني وعبده قد أصدرا جريدة «العروة الوثقى» وأرادا منها أن تكون نواة «تنظيم إسلامي عالمي» ومحورا يجتمع حوله دعاة الإصلاح (1) فإن المشروع سرعان ما توقف. كما أن اكتفاءه بالمراهنة على النخبة والبعد المكاني -حيث كانت الجريدة تصدر من باريس- ثم عمليات التضييق التي تعرضت لها لمنع دخولها إلى بعض الأقطار العربية، كانت من بين أسباب فشل التجربة. تمثلت الخاصية الثانية في أن تلك الدعوات كانت تراهن، بدرجة أساسية، على الحكام في بلاد المسلمين، أي على الأنظمة القائمة، وكان أصحابها يطلقون تلك الدعوات من داخل المؤسسات، مؤمنين بإمكانية الإصلاح من الداخل. فقد سعى جمال الدين الأفغاني، مثلا، إلى إقناع السلطان العثماني عبد العزيز الأول بمشروعه الإصلاحي، وعيّنه هذا الأخير عضوا في «مجلس المعارف»، لكنْ سرعان ما دبّ الخلاف بين الاثنين لكي ينتقل الأفغاني إلى مصر وينزل في ضيافة الخديوي إسماعيل.. بيد أن هذا الأخير كان يريد توظيفه ضد السلطان العثماني لتأكيد استقلاله عن الخلافة والانفصال عنها، وهو ما أحدث القطيعة بين الرجلين لكي ينتقل إلى أوربا ثم إلى باريس، حيث أصدر «العروة الوثقى». ونفس الأمر بالنسبة إلى عبد الرحمان الكواكبي، الذي تقلد عدة مناصب في ولاية حلب وعُيِّن مديرا لمطبعتها ثم رئيسا لبلديتها، إلا أنه سرعان ما اختلف مع السلطة الحاكمة المستبدة فهاجر من سوريا. أما محمد عبده فمعروف عنه أنه عُيِّن مفتيا للديار المصرية، لكنه اختلف مع شيوخ الأزهر التقليديين الذين لم يقابلوا دعواته الإصلاحية بالترحيب، فآثر الهجرة إلى أقطار عربية، قبل أن يستقر في باريس ويشتغل إلى جانب الأفغاني. أما الخاصية الثالثة فقد تمثلت في الوزن العلمي لأصحاب هذه الدعوات الأولى. كان رواد الإصلاح في هذه المرحلة من خريجي المؤسسة العلمية في العالم الإسلامي واستمرارا لطبقة العلماء وأدوارهم في تاريخ الإسلام. فقد مارسوا التدريس والخطابة وأسهموا في إعادة قراءة الموروث الديني، كل من موقعه، وكانوا فوق ذلك على دراية كافية بالأصول الشرعية، بل إن بعضهم مارسوا مهمة الإفتاء وفهموا أن مهمتهم هي استمرار لمهام العلماء في الماضي، ولذلك فإن صدامهم مع الدولة القائمة لم يكن إلا بمقدار الصدام الذي وقع بين العلماء في تاريخ الإسلام وبين الحكام. وكان صراعهم ضد التخلف والاستبداد السياسي والديني في حدود ما تسمح به أدوارهم، دون أن يصدروا أي أحكام شرعية ضد الأنظمة الفاسدة أو ينفوا عنها الصفة الإسلامية أو يخرجوا إلى تكفير الحكام.. فقد كانوا يدركون أن تاريخ الإسلام مليء بأنظمة الفساد والجور والاستبداد السياسي وكانوا يعرفون، في نفس الوقت، أن هذا التاريخ لم يسجل أن هناك علماء عارضوا السلاطين تجرؤوا على الخروج عليهم واتّهموهم بالكفر أو بالخروج من الملة، وأن جماعة الخوارج هي جماعة، كما يدل على ذلك اسمها، عزلت نفسها عن الأمة وحادت عن حدود الدعوة إلى الإصلاح، وفق القواعد الشرعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما أعلنت محاربة السلطة القائمة. ولعل هذه الخاصية الثالثة مهمة جدا، من حيث أإنها تضيء لنا جانبا كبيرا من جوانب الاختلاف الذي وقع مع ميلاد الحركة الإسلامية في نهاية عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن العشرين، ذلك أن هذه الحركة قد نقلت -لأول مرة في تاريخ الإسلام بعد الخوارج والشيعة- الحرب الدينية إلى قلب الإسلام الحديث نفسه. فمنذ بدء نشأتها ميّزت نفسها عن الدولة، ثم سرعان ما ميّزت نفسها عن الأمة، ثم سرعان ما أصبح هذا التمايز السياسي تمايزا دينيا.. ويغفل الكثيرون، بسبب التركيز على المظهر السياسي للحركة الإسلامية، الجانب العقَديَّ منها. ومرجع هذا الإغفال أن هؤلاء يدرسون الحركة الإسلامية بإزاء الدولة في العصر الحديث، تأثرا بالتنظيمات السياسية في الغرب، لكنهم يهملون دراستها بإزاء تاريخ الإسلام نفسه، ومن تمة يبعدون الجانب العقدي من مناهج الدراسة. ويستبطن هذا المنهج، في نظرنا، قطيعة لا واعية لدى الحركة الإسلامية مع تاريخ الإسلام نفسه، حيث يتم الافتراض -ضمنا- أنها إذا كانت وليدة العصر الحديث فهي مبتورة الصلة بمخاضات الإسلام التاريخي، عقديا وفقهيا وسياسيا، وتوجد خارج الجدل الديني الذي شهده التاريخ الإسلامي. لقد أدى التمايز الذي وضعته الحركة الإسلامية الحديثة بينها وبين الدولة إلى السقوط -من دون إدراك ذلك- في الأدبيات التي كان الخوارج أنفسهم يؤمنون ببعضها. فمن دون شعور من لدن هذه الحركة أخذت معارضتها للأنظمة القائمة تتحوّل من معارضة سياسية تستند على اختلاف في الموقف السياسي أو في الموقف الديني، إلى معارضة دينية -لا معارضة للموقف الديني- تستند إلى المشروعية الدينية من الأصل، بمعنى أن المشروعية الدينية نفسَها أصبحت محل صراع سياسي، إما أن تكون في جانب الدولة أو تكون في جانب الحركة. فقد تم وضع ثنائية حدية بين الحركة والدولة العربية المعاصرة، ستكون مسؤولة في مرحلة لاحقة عن إنجاب أكثر المواقف الراديكالية لدى الحركة من الدولة والمجتمع والواقع. ولم يعد الخلاف خلافا سياسيا حول تصور بناء الدولة ومؤسساتها، بل أصبح خلافا دينيا وعقديا، وهو ما شكّل نوعا من استعادة الجدل الديني في القرون الأولى للإسلام حول مرتكب الكبيرة وموقعه من الإسلام أو الكفر وحول المخالف في الرأي وعلاقته بالإيمان الصافي والمجتهد المخطئ في الدين.. لقد كانت هذه الأدبيات والمواقف حاضرة في اللا وعي لدى الحركة الإسلامية منذ نشأتها، بمجرد ما وضعت نفسها خارج الأمة وأعطت لنفسها مكان «الطليعة» منها وجعلت الدين والعقيدة أداة في الصراع مع السلطة، ومن تمة سحبت الشرعية باسم الدين عن الدولة وأضفتها عليها هي، الأمر الذي جرّها إلى فتح باب المواجهة بينها وبين الدولة مباشرة في الأعوام الأولى، ثم في ما بعد بينها وبين المجتمع. وقد تمثلت هذه الثنائية الحدية، التي أشرنا إليها أعلاه، بشكل أخص في اصطناع خصومة ذات طابع ديني عقائدي بين الحركة الإسلامية وباقي المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية الموجودة. فقد أعطت الحركة لنفسها، منذ البداية، الحق في تمثيل الإسلام، أو قل إنها احتكرت هذا الحق لنفسها فحسب، دون سائر مكونات المجتمع الأخرى، وحوّلت الإسلام، في سابقة من نوعها في التاريخ، إلى «سلعة» سياسية للتداول باسم معارضة الدولة القائمة ومؤسساتها. ولكي تزيد في تعميق الفجوة بينها وبين باقي المؤسسات القائمة، عملت على وضع مسافة بينها وبين العلماء أو المؤسسات التي تجمعهم، فأسهمت من هذه الناحية في استكمال ما سبق الشروع فيه من قبل بنجاح غير كامل من طرف الاستعمار والدولة الوطنية الناشئة، وهو تهميش هؤلاء العلماء بمبرر أنهم تقليديون. وفي الوقت الذي كان من الممكن أن يلعب هؤلاء العلماء، من موقعهم الديني والسياسي داخل أو خارج المؤسسات، دور الوسيط بين الحركة الإسلامية والدولة، على سبيل المثال، تم تحييدهم بشكل نهائي، لتبقى المواجهة بين الحركة الإسلامية والدولة، وكان من الطبيعي أن يلجأ هؤلاء العلماء إلى التحصن بالدولة دفاعا عن مشروعيتهم، ما جعل الحركة تخسر حليفا طبيعيا لها.