سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بشارة خضر: ممارسة السياسة في الدين هي نتيجة لاستحالة ممارسة السياسة في مجالها الخاص بعد أن فرغ الدين من محتواه الروحي والأخلاقي تم استغلاله في تبرير تجاوزات الحكام
أصدر الباحث بشارة خضر، خلال شهر فبراير الماضي، كتابا جديدا بعنوان « Le Monde arabe expliqué à l’Europe»، وهو عصارة بحث وتحليل استغرق سنوات كثيرة أراد الباحث من خلالها تبليغ العديد من الرسائل وتوضيح العديد من الأمور الملتبسة عن العالم العربي والإسلامي؛ ولعل أبرزها ما جاء على لسانه عندما يقول إن «المجتمعات العربية، كما جميع المجتمعات في العالم، تتحرك وتتغير وتتساءل وتبحث عن نفسها، وأن الشعوب العربية، كما هي شعوب الأرض كلها، تريد تكسير الأغلال التي تعطل حركتها». بشارة خضر هو باحث وأستاذ محاضر بالجامعة الكاثوليكية لوفان في بروكسيل البلجيكية، حيث يشرف على مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي المعاصر، كما أنه عضو «مجموعة الحكماء من أجل الحوار الثقافي في منطقة المتوسط». ألف لحد الآن 24 كتابا حول العالم العربي والبحر المتوسط والاتحاد الأوربي، ويعتبر أحد أبرز محللي العلاقات بين أوربا والعالم العربي. «المساء» تنشر، باتفاق مع الباحث، أجزاء من هذا الكتاب تتعلق بمواضيع تهم تاريخ ومستقبل العالم العربي والإسلامي في إطار التعريف بالسياقات التي تحكمت وما تزال في تكوين الإنسان والمجال. الخلافات التي نشأت بين المسلمين حول الخلافة مباشرة بعد وفاة الرسول كانت بداية لمسار تحولات كثيرة سرعان ما ستعلن عن نفسها. فإذا كانت التصورات اختلفت بين الخوارج والشيعة وغيرهم، فإن ذلك الخلاف تطور ليطال قضايا أخرى لها علاقة بالدين نفسه وبالسياسة وبأمور أخرى كثيرة، وكان لابد من أن يكون للدولة الإسلامية الناشئة تدخلا فيها. في هذا الصدد يقول بشارة: «هذه التصورات المختلفة هي التي تفسر ظهور مجالات تفكير جديدة من قبيل التفسير وأصول الفقه والفقه... وجاء ظهور هذه المجالات ليعلن نهاية الوحي، حسب عبدو الفيلالي الأنصاري، وبداية عهد جديد تميز بتأويل النص المقدس والتعليق عليه... وهو ما أدى إلى بروز أربع مدارس فقهية هي: السلفية والحنبلية والمالكية والحنفية، وبدأت كل واحدة منها تحاول تفسير أو تبرير علاقة السياسي بالديني. وأمام تعدد الجدال والنقاش، حاولت الدولة الإسلامية أن تفرض إسلاما رسميا، مستعملة في ذلك الرأسمال الرمزي للقرآن والسنة. وبداية من القرن السابع، فرغ الدين من محتواه الروحي والأخلاقي وتحول إلى أحكام صارمة، ثم إلى مذاهب جدالية بعد أن صار الدين عاملا مساعدا في الحكم والسلطة، أي أنه بات يستغل في تبرير تجاوزات الحكم. وأصبحت السياسة مكانا لتأكيد الوفاء لنموذج المدينة النبوية المثلى، التي قامت في المدينة (المنورة)». صادف القرن الخامس عشر بداية تراجع إشعاع الإمبراطورية العربية الإسلامية، بعد أن تعددت الخلافات وتضاربت المصالح وتراخت أواصر الحكم بين المركز والهامش. ولم تستطع الإمبراطورية العثمانية استعادة المجد العربي الإسلامي الآخذ في الأفول. وكان طبيعيا أن يبرز طرف ما ليملأ الفراغ. إذ إنه: «(...) ابتداء من القرن الخامس عشر،يكتب الباحث، حلت الإمبراطورية العثمانية محل الإمبراطورية العربية الإسلامية الآفلة، إلا أنها لم تستطع مقاومة الغرب عسكريا واقتصاديا. وابتداء من القرن السابع عشر، وجد المسلمون أنفسهم أمام أوربا غازية، بل ومسيحية أيضا. هاتان الخاصيتان الأوربيتان ستطبعان، بشكل كبير، الاتجاهات الأولى للفكر العربي خلال النهضة». وفي حديثه عن النهضة العربية التي جاءت لتنفض الغبار عن أمة طال رقادها، يعطي بشارة تصنيفا للمجالات الجغرافية التي تبلورت فيها بوادر النهضة والتيارات الفكرية التي طبعتها والتباينات المذهبية التي ميزت هذا التيار عن الآخر.» بعد قرون من الجمود والخضوع للسيطرة العثمانية، ثم الأوربية، يكتب خضر، تبلورت النهضة العربية في مجالين جغرافيين مختلفين اثنين: شبه الجزيرة العربية، حيث نهضت الوهابية على فكر إسلامي مجدد، لكنه صارم ومتشدد؛ وهو الفكر الذي مازال يلهم عددا من الحركات الإسلامية إلى اليوم. الشرق الأوسط، حيث بنيت النهضة على تجديد اللغة والأدب، وعلى فكر عقلاني حديث. شخصيات كثيرة برزت في هذا الباب منها رفعت الطهطاوي وخير الدين التونسي وناصيف اليازجي. وقد استطاع هذا التيار الليبرالي أن يفرض كلمة «العربي» إلى جانب الإسلام، بينما ظل الإسلام «يشكل المرجع الجماعي الأساس»(برهان غليون). ويدافع هذا التيار عن أطروحة مزدوجة، وهي أن ليس هنالك تنافر بين أن يكون الفرد عربيا أو مسلما، بل ليس هنالك تنافر بين الإسلام والحداثة. لكن، عندما طرح هؤلاء المفكرون القضية الجوهرية للحداثة، كان المجال العربي الإسلامي يوجد تحت الهيمنة الأجنبية. وهو الوضع الذي سيزيد من تعميق الهوة بين المسلمين والحداثة من حيث إن الأخيرة لم تكن نتيجة لتحول النظام الرمزي تحت تأثير مسلسل تحولي داخلي بطيء، كما لم تكن نتاجا للعبة القوى الداخلية، بل كانت حداثة مقلدة ودفاعية في الوقت ذاته. إذ كان الغرض هو تقليد الغرب من أجل مقاومته بشكل أفضل، بحيث بدل الخوض في النقد الداخلي، اتخذ الفكر الإسلامي في القرن التاسع من القرآن سلاحا للصراع السياسي، متجاهلا ذلك المطلب المزدوج المتمثل في إعادة تبني الإرث الفكري الإسلامي الكلاسيكي و«إدماج الإضافات الإيجابية العالمية في الفكر الفلسفي والعلمي الحديث» في هذا الإرث. فالهم الأول للإصلاحيين المسلمين الأوائل تمثل في تبني التغيير في إطار استمرارية الحقيقة المُؤسِّسة والأبدية الموحى بها من عند الله. وهنا تكمن نقطة القطيعة مع المقاربة الأسطورية، والحال أن هذه الأخيرة تشكل شرطا أساسيا لقيام الحداثة الحقيقية. هكذا، انتهى الدفاع عن الهوية المهددة من قبل الاستعمار بحبس حركة النهضة وانغلاقها على ذاتها. فالعودة إلى المنابع، إذن، أجلت إلى الأبد، مطلب اللائكية الذي يعتبر من صميم الحداثة الفكرية(...)» وينتقل الباحث بعد هذا التصنيف والتحليل إلى رصد مآلات الوضع السياسي في عهد استقلال الدول العربية الإسلامية وكيف تحول الإسلام إلى أداة تبريرية للدول وللجماعات على خلفية تطور الاتجاهات الفكرية والسياسية وما شهده العالم العربي من وضع اجتماعي جديد جاء بمطالب ورهانات وتطلعات حديثة. » خلال فترة الاستقلالات، لمسنا تعزيز الدول سيطرتها على المجتمعات، يلاحظ الباحث؛ وصارت القومية العربية نوعا من المرجعية العامة. إلا أن علاقتها بالدين ظلت قائمة. إذ استمر استعمال الإسلام «كمرجعية أخلاقية، بل إيديولوجية كذلك»(برهان غليون). كما لجأت الأنظمة العربية، تحت ضغط افتقادها للمشروعية، إلى اعتماد الخطاب الشعبوي، ولم تكن لتتردد من أجل ذلك في استعمال الدين للحفاظ على التحكم في تلك المجتمعات. هنالك، إذن، رابط واضح بين إغلاق المجال السياسي العربي والعودة إلى رموز ما قبل العهد الحديث؛ وهو ما يفسر قوة المطلب الإسلاموي «حين عملت الأنظمة طويلا في اتجاه إغلاق النظام السياسي عندما منعت الأحزاب السياسية الوحيدة، طويلا، من أي ممارسة سياسية حرة (الجزائر، مصر، إيران).(عبدو الفيلالي الأنصاري).» بعبارات أخرى، إذا كان العالم العربي المعاصر ما يزال «يمارس السياسة في الدين»، فذلك بسبب «استحالة ممارسة السياسة في مجالها الخاص» (الفلالي الأنصاري)، نتيجة لغياب مؤسسات وسيطة ديمقراطية فعلا. ولعله، من دون شك، السبب الرئيسي الذي يفسر لماذا لم يستطع العالم العربي إفراز مجتمعات لائكية ولماذا فُصلت الدنيوة واللائكية عن التجربة التاريخية للبلدان العربية، «قبل أن ينتقل بشارة خضر إلى إضافة أسباب أخرى يسردها كالتالي: «السبب الأول هو أن الحركات الاستقلالية كانت تحتاج إلى ستعمال الإسلام كمورد سياسي ومحور هوياتي، وأداة تطلعية إلى الحرية؛ أي أنه كان هو الرأسمال الرمزي الوحيد القادر على تعبئة القدرة على المقاومة. السبب الثاني هو أن الدعوة إلى التحديث جاءت، أولا، من «العلماء المتنورين» الذين اجتهدوا طيلة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لتأكيد تطابق الإسلام مع الحداثة. ولم يكن هذا الإصلاح الإسلامي المتنور، الذي برز فيه الأفغاني والطهطاوي ومحمد عبدو ورشيد رضا والكواكبي وعلي عبد الرازق لتعارضه الأنظمة السياسية لأنه كان صمام أمان ضد التيارات المحافظة، ولأنه كان يشرعن سلطتها. بعد ذلك، وفي ظل فشل السياسات التحديثية للدول المستقلة، أصبح الإسلام هو الشعار الذي يستعمله المجتمع لإرغام الدولة على تحقيق المطالب الاجتماعية على مستوى المشاركة وتحسين شروط الحياة. لكن موازاة مع ذلك، وأمام احتجاجات الإسلاميين، حاولت الدول العربية أن تعبئ الشرعية الدينية لمصلحتها من خلال استقطاب بعض الرموز بين الإسلاميين سواء عن طريق اقتحام مجالهم الخاص أو عن طريق التراجع وإحداث تغييرات على مستوى المعايير الدينية التقليدية من قبيل تغيير مدونة الأسرة في اتجاه محافظ. ينضاف إلى هذه الأسباب الثلاثة آثار الظرفية الدولية. فالمجتمعات العربية تعرضت، منذ أكثر من 20 سنة، لصور العنف والقمع التي مورست على «مسلمين» آخرين في فلسطين والشيشان والبوسنة وكوسوفو وأفغانستان وفي مناطق أخرى. لذلك لا عجب في أن يتحول الإسلام إلى «رمز لهوية جماعية مقموعة» (عبدو الفيلالي الأنصاري)».