عاشوا بيننا ذات يوم. أثروا حياتنا بعصارة إبداعهم وخلاصة فكرهم. آثروا على أنفسهم إضاءة الطريق نحو مستقبل أفضل ليمسحوا عن جبين الإنسانية دموعها ويرسموا البسمة على شفاهها. دفعوا الثمن عن طيب خاطر ودون تردد، بعد أن لاقوا الهوان وقاسَوا الويلات وتكبّدوا المشاق حتى قدّموا للإنسانية المعذبة ما تستحق.. وُلدوا في بيئات فقيرة ونشؤوا في ظروف حياتية صعبة وعاشوا شتّى صور البؤس والشقاء، لكنهم وقفوا صامدين ليصنعوا التاريخ ويُعيدوا كتابته لنا في ملاحمَ بطولية رائعة... إنهم عظماء التاريخ، الذين انهارت عليهم الأحجار وخرجوا من تحتها شامخين.. إنهم عظماء من تحت الصفر. كاد ينتهي مصير الغلام كما آل إليه مصير بقية أشقائه حيث فِلاحة الأرض وزراعها، وكاد يفقد الفكر العربي أحد زعماء الإصلاح وقائدا من قادة التنوير العظام الذين لا يزالون يمثلون نبعاً لا ينبض معينه، وكدنا نفقد معه ثروة بشرية هائلة لولا أن شهد الأب الذي هزمه الفقر بأن لديه ما يبعث على الاعتقاد بأن حرمان صغيره من العلم سيكون جريمة في حق هذا العالِم الصغير، الذي ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدّة قرون، وشارك في الحفاظ على وعي الأمة وقيادتها نحو التحرّر وبعث الوطنية واحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. عصر الفقر والضعفاء كان والد محمد عبده حسن خير الله، الذي كان يقاسي من ويلات العوز والحاجة، بدأ يشعر بأن لديه ما يبعث على الاعتقاد بأن حرمان صغيره من العلم جريمة لا تغتفر في حقه وحق نفسه بعد أن أصبح غير قادر على تجاهل ذكاء هذا الغلام الذي يشهد كل من يراه بأنه سيكون نابغة عصره وهو لم يتجاوز بعد الخامسة ربيعا (ولد الامام محمد بن عبده بن حسين خير الله سنة 1849 بقرية محلّة نصر بمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة المصرية). يصف محمد عمارة في كتابه «الإمام محمد عبده: مجدد الدنيا بتجديد الدين» تلك المرحلة بأنها كانت البداية الحقيقية للإمام محمد عبده الذي عدّ من أكبر المفكرين والمصلحين في التاريخ العربي والإسلامي. بداية يملأها البؤس والشقاء حيث والده الفلاح الذي بالكاد يجد ما يسدّ رمق جوعه اليومي بعد أن دفع بأولاده إلى الأرض لحرثها وزراعتها دون أن يفكر حتى في تعليمهم حيث إمكانياته التي لا تذكر، يجد نفسه مضطرا في أحيان كثيرة للاستدانة لكي يسدّ به جوع أولاده، لكن وبعد تفكير عميق اهتدى الأب إلى قرار لم يتخذه من قبل، بل لم يحاول التفكير به قط، قرار يقضي بأن يضحي بكل شيء ويتحمل الصعاب حتى ينتزع الصغير محمد (بعد أن بدأت تظهر رجاحة عقله للجميع ) من براثن الجهل ويضيء له جنبات حياته بنور العلم. في أحضان الأزهر حاول الغلام محمد عبده أن يستوعب دروس شيخه الفقيه المتواضعة بعد أن أضحى يشكل له دور القائد الملهم والعالم البصير والمثقف المستنير، ولم يجد الأب بدّا (نظرا لما يبلغه به بعض المشايخ) أمام قدرات صغيره إلا أن يسارع بإرساله إلى الجامع الأحمدي بطنطا، الذي أمضى فيه ثلاث سنوات قبل أن يتم نقله بداية عام 1866 إلى الجامع الأزهر حيث تفتحت مداركه وبدأ العلم يهزّ وجدانه ويزلزل كل كيانه قبل أن يتخرج من الأزهر حاملا الشهادة العالمية في علوم الدين أواسط العام 1877. فيلسوف الإسلام كانت طريقة التعليم في الجامع الأزهر لا تصبّ في خانة إعجاب الشاب محمد عبده، الذي وصل إليه للتو، رغم إدراكه قيمة العلم والتعليم بعد أن أخذ يبحث عن مخرج لهذا المأزق والتفكير مليّا في حلّ مشكلته بنفسه، واهتدى إلى أنه ليس هناك مفرّ من تلقي التعليم بنفسه ولنفسه مبتدعا أسلوب المطالعة والتحصيل. في تلك الأثناء (دراسته في الأزهر) كان محمد عبده يشارك ويعمل في عدة أعمال كالتدريس والترجمة حتى وفد إلى مصر المفكر العظيم وفيلسوف الإسلام جمال الدين الأفغاني، فتولّى هذا الوافد العملاق تدريس المنطق والفلسفة، فانخرط محمد عبده في سلك تلامذته الذين كانوا يضمون نوابغ المصريين، وأصبح من أقرب تلامذته وأكثرهم قدرة على مباراته، حتى قال فيه الأفغاني يوم رحيله إلى الأستانة: «لقد تركت فيكم الشيخ محمد عبده وكفى به لمصر عالما». ثورة عرابي بعد خروج جمال الدين الأفغاني من مصر باتجاه الأستانة بدأ محمد عبده رحلة الجهاد والكفاح ضد الاستبداد والفساد في البلاد في شخص الخديوي توفيق، وأخذ يكتب مقالاته الصحفية بجرأة وصراحة عظيمة بعد أن تقلّد منصب رئاسة التحرير بجريدة «الوقائع المصرية» حتى قامت ثورة الزعيم أحمد عرابي يوم التاسع من سبتمبر سنة1881، فسارع عبده للانضمام إليها والانخراط في صفوفها لتحقيق المطالب الشرعية للشعب المصري وعزل المتآمرين على قضايا الأمة الوطنية، وعلى رأسهم رياض باشا رئيس مجلس النظّار حينذاك. مرحلة التمرّد والنفي بدأ محمد عبده يشترك اشتراكا فعليا في الثورة العرابية بآرائه ودعواته الصريحة (عبر مقالات نشرها على صفحات الجرائد الوطنية) إلى إصلاح التعليم ومنح الفرصة لجموع الشعب، مطالبا عرابي نفسه بالتركيز على التربية والتعليم قبل التركيز على الثورة التي تم توجيه أفكار محمد عبده فيها نحو تحديد الفكر الإسلامي والعربي من القيود والتقاليد، وعلى رأسها الدين الذي اعتبره من موازين العقل البشري، إضافة إلى إقامة العدالة الاجتماعية، جاهرا بدعواته، لا يخشى بطش الاستبداد وجبروته، مهاجما في ذلك مشايخ الأزهر ومحمّلا إياهم مسؤولية تراجع الدين الحنيف وانتشار الأفكار الهدّامة والمتطرفة التي تبتعد عن روح الدين، حاملا إلى جانب لواء الإصلاح السياسي لواء الإصلاح الديني، ذلك اللواء الذي سقط سريعا من يده بعد احتلال الإنجليز لمصر في 11 يوليوز 1982 وتعاونهم مع الخديوي توفيق في القضاء عليه بعد أن تحوّل (حسب وجهة نظرهم) إلى قائد ثوري وابتعد عن دوره كمصلح ديني وسياسي، خاصة بعد أن أفتى بعزل الخديوي وطرد المحتل الإنجليزي من مصر ليتم القبض عليه ونفيه خارج البلاد باتجاه العاصمة اللبنانية بيروت، التي مكث فيها سنتين تقريبا قبل أن يتجه إلى باريس للقاء معلّمه جمال الدين الأفغاني، الذي أسس رفقته جريدة «العروة الوثقى»، التي أضحت لسان حال المصلحين والثوريين والمدافعين عن الوطن العربي المحتل بعد أن اطلع هناك على الحداثة والمدنية وتعلم اللغة الفرنسية وقرأ المزيد من كتب الفلسفة والقانون ليعود إلى مصر مجدّدا مع بدايات العام 1889. نهاية مفتي الديار المصرية ما أن عاد محمد عبده إلى مصر بعد صدور العفو عنه من طرف الخديوي توفيق، بوساطة تلميذه النجيب سعد زغلول، حتى عاد إلى مزاولة قلمه الجارح للسلطة في مصر (رغم اشتراط الخديوي التوقف عن العمل السياسي) ليتوقف عندها سريعا بعد أن تم تعيينه قاضيا بمحكمة بنها ثم عابدين ثم مستشارا بمحكمة الاستئناف بالقاهرة وعضوا بمجلس إدارة الأزهر حتى وصل إلى تقلّد منصب المفتي العام للديار المصرية في العام 1899 وظلّ بالمنصب حتى لقاء ربه في الحادي عشر من يوليوز عام 1905 بمدينة الإسكندرية عن عمره يناهز سبعة وخمسين عاما (أصيب بمرض السرطان)، متأثرا بخيبة أمله في إصلاح الأزهر والمقاومة العنيفة التي واجهها من جانب الإنجليز والخديوي والمشايخ غير الشرفاء المناوئين لدعواته الإسلامية.