الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمييز الديني والسياسي عند الأستاذ محمد عبده – بقلم سعد الدين العثماني
نشر في التجديد يوم 20 - 02 - 2009


كنا تحدثنا في مقال سابق، تحت عنوان الدين والسياسة تمييز لا فصل1, عن أن التمييز بين الديني والسياسي وعدم الوصل التام بينهما إلى حد التماهي، هو الأصل في فكر المسلمين بمختلف مدارسهم الفقهية والأصولية ونظار الفكر السياسي في الحضارة الإسلامية. وقد قام العديد من المفكرين والمجددين في العصر الحاضر بإحياء المبادئ العامة للعلاقة بين الديني والسياسي، نأيا بها عن مخلفات عصور الانحطاط والجمود من جهة، وعن تأثيرات الفكر الكنسي الغربي المختلف جوهريا مع المنظور الإسلامي في الموضوع. ومن المجددين الذين بينوا هذه القضية بدقة ووضوح معرفي ومنهجي الأستاذ محمد عبده. لذلك نسلط هنا الضوء على أهم مفردات فكره في هذا المجال. التعريف والسياق يعتبر الأستاذ محمد عبده (1849 /1905) رائدا في تجديد الفكر الإسلامي الحديث، وصاحب مدرسة أحدثت ثورة فكرية ذات تأثيرات واسعة، وأستاذ جيل كامل من رواد الإصلاح في المشرق العربي، وفي مناطق متعددة من العالم الإسلامي. وقد ثبتت اتصالاته بالعديد من العلماء والشباب في المغرب الكبير من خلال المراسلات أو الزيارات أو المقالات في الصحف والمجلات2. وهكذا كان للأستاذ الإمام ـ كما يقول عباس محمود العقاد ـ تلاميذ في أرجاء العالم الإسلامي شرقا وغربا، أكثرهم من أصحاب الفكر المتدينين، الذين يقومون بواجبهم في كل بلد إسلامي كما قام به الإمام في وطنه. فيكافحون الجمود من جهة، ويكافحون التفرنج الذميم من جهة أخرى3. وعلى الرغم من أن جهود محمد عبده تركزت في مجال الإصلاح الديني بمختلف مستوياته حثا على الاجتهاد ومحاربة للتقليد والجمود وتثمينا للعلم وعطاءات الفكر الإنساني، وإصلاحا لطرق تدريس العلم الديني ومناهجه، إلا أنه ربما يكون الشخص الوحيد الذي استطاع أن يقدم إجابات متكاملة ضمن بناء فكري متناسق في موضوع الإصلاح والنهضة عموما، ولذلك فإن برهان غليون يصفه بأنه الوحيد الذي حاول أن يقدم جوابا عمليا وشاملا لكل المسائل المرتبطة بالنهضة، وأن يدرج في هذا الجواب العامل الديني، ليخرج منه برؤية توليفية، تجمع بين ضرورات تمثل عناصر الحضارة، وحاجات الحفاظ على الهوية والوحدة الاجتماعية4 . كما يعتبر محمد عبده كما يقول الدكتور محمد عمارة عقلاً من أكبر عقول الشرق والعروبة والإسلام في عصرنا الحديث5, لأنه الأكثر ثراء في الفكر والتنظير، والأكثر تأثيرا في عصره ومن بعد عصره. وقد كان محمد عبده ـ على غرار بعض من سبقه وخصوصا أستاذه جمال الدين الأفغاني ـ يعتبر الإصلاح الديني أساس كل إصلاح، ويضيف إلى ذلك اعتبار الاهتمام بالتربية والتعليم أداة الإصلاح الكبرى. وهو وإن لم ينجح في جعل تحقيق النهضة الشاملة التي كان يصبو إليها واقعا معيشا، فإن محاولات الذين كانوا يريدون بناء النهضة على تقليد النظم والمفاهيم الغربية كانت أكثر فشلا. ففي حين بقي فكر محمد عبده مصدرا لإصلاح ثقافي وفكري ومؤثرا تأثيرا كبيرا على الرأي العام إلى اليوم، انعزل الفكر الليبرالي العربي اللاديني تماما في العقود التي أعقبت وفاة محمد عبده، بل إن الفكر الليبرالي الحديث نفسه اضطر من أجل المحافظة على وجوده إلى التقرب من الإسلام والاحتماء به6. والذي جعل فكر محمد عبده يكون له هذا التأثير واسع المدى هو تجديديته، ونجاحه إلى حد كبير في صياغة منهج ينطلق من الانسجام بين مبادئ الإسلام ومقتضيات شريعته من جهة، ومعطيات الحضارة الإنسانية المعاصرة من جهة أخرى. وهو ما برزت تأثيراته على مختلف جوانب إنتاجات الرجل الفكرية واجتهاداته الدينية7. وعلى المستوى السياسي أسهم محمد عبده في النضال السياسي إلى جانب أستاذه جمال الدين الأفغاني فانضم إلى الحزب الوطني الحر الذي أسسه الأفغاني، وهو حزب ناضل من أجل صد التدخل الأجنبي الزاحف آنذاك على مصر، واستخلاص مصر للمصريين من أيدي الشراكسة والأتراك، ومن أجل إقامة الحياة الدستورية النيابية. وانصبت العديد من كتابات محمد عبده الصحفية على مواضيع في السياسة والاجتماع والشؤون العامة نقدا للواقع ومناداة بالإصلاح واقتراحا للبدائل. ولما نفي الأفغاني من مصر سنة 1879م أبعد محمد عبده عن التدريس ونفي إلى قريته محلة نصر. وصدر عفو عنه سنة 1880, وعين محررا في صحيفة الوقائع المصرية الرسمية، ثم رئيسا لتحريرها. وقد اشتغل في هذه المرحلة بالصحافة والسياسة وانضم إلى العرابيين مع أعضاء الحزب الوطني الحر، وساند الثورة العرابية بكل قواه بعد اندلاعها (1881) على الرغم من ملاحظاته عليها، فلما انهزمت سجن ثلاثة أشهر، ثم حكم عليه بالنفي خارج البلاد لثلاث سنوات، امتدت لتصل إلى ست سنوات. انتقل الإمام إلى بيروت ثم إلى باريس (1883)، حيث أسس وأصدر مع الأفغاني صحيفة العروة الوثقى التي كانت تتضمن مقالات تندد بالاستعمار وتدعو إلى التحرر من الاحتلال الأجنبي بجميع أشكاله، فتم إيقافها بعد سنة تقريبا. ثم عاد مرة أخرى إلى بيروت (1885) حيث اشتغل بالتدريس والتأليف والتوعية وبث فكره الإصلاحي. وتجول في العديد من الدول ودعا لجلاء الانجليز. وبعد عودته إلى مصر (1899) عين قاضيا أهليا ثم مستشاراً في محكمة الاستئناف، كما عين عضوا في مجلس إدارة الأزهر، قبل أن يصبح مفتياً للديار المصرية. وكان أول مفت مستقل في مصر، إذ كان منصب الإفتاء يشغله قبل ذلك شيخ الجامع الأزهر. مفردات الفكر السياسي لدى محمد عبده لقد أسهم محمد عبده فترة من حياته في العمل السياسي المباشر، وكان له فيه بلاء، لكن إسهامه الأكبر ـ كما قلنا ـ كان في بث فكر سياسي إسلامي تجديدي، مبني على الانسجام بين معطيات الشرع ومعطيات الحضارة المعاصرة. وبمراجعة كتابات الأستاذ الإمام في الموضوع نفاجأ ليس فقط بغزارتها، ولكن أكثر من ذلك بالوضوح الفكري والمنهجي في تناولها. وتعتبر من أهم مضامين الإصلاح الديني الذي بشر به. ونستعرض هنا أهم ما نراه مفردات هذا الفكر السياسي. 1 ـ نفي وجود السلطة الدينية في الإسلام فقد رفض محمد عبده رفضا قاطعا كون الإسلام يريد إنشاء سلطة دينية في المجتمع بأي شكل من الأشكال. فعند استعراض محمد عبده لأصول تعامل الإسلام مع العلم أورد منها أصل قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، ويمتدحه بقوله: وما أجله من أصل. فذهب إلى أن الإسلام قد هدم أي سلطة دينية ومحا أثرها، ولم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه. على أن رسول الله كان مبلغًا ومذكرًا، لا مهيمنًا ولا مسيطرًا، قال الله تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)، (...)، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه وبين الله سوى الله وحده، يرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده. وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام، على آخر، مهما انحطت منزلته فيه، إلا حق النصيحة والإرشاد8. ويستدل محمد عبده على ذلك بعدة مقتضيات شرعية منها أن المسلمين يتناصحون، والأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار. و لا يجوز لها ولا لأحد منها أن يتجسس على عقيدة أحد، فالإيمان أمر بين العبد وربه وليس عليه رقيب سوى الله وحده. كما لا يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه لا واسطة بين العبد وربه. وعلى كل مسلم أن يحصل من الوسائل ما يؤهله لهذا الفهم. ثم يختم قائلا: فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. ويستعرض محمد عبده رأي بعض الغربيين الذين يظنون بأن الحاكم في الإسلام أو السلطان هو مقرر الدين، وهو واضع أحكامه، وهو منفذها، والإيمان آلة في يده يتصرف فيها بالإخضاع، وفي العقول بالإقناع ... ويبنون على ذلك أن المسلم مستعبد لسلطانه بدينه. كما يعتقدون أن لا تسامح مع العلم في الإسلام ما دام أن من أصوله أن إقامة السلطان واجب بمقتضى الدين. وهذا كله خطأ محض يناقض الأصل الذي رأيناه من أنه لا سلطة دينية في الإسلام سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خوَّلها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خوَّلها لأعلاهم يتناول بها أدناهم9. ومن الأسس التي يبني عليها الإمام رؤيته رفض الإسلام لأي إكراه في الدين. وقد ميز بوضوح في ذلك بين ما هو ديني، وهو الإقناع بالبيان والبرهان، وبين إلزام الناس باعتناق عقيدة معينة وهو ما تكون دوافعه سياسية. يقول في تفسيره لقوله تعالى: لا إكراه في الدين (البقرة/256): كان معهودا عند بعض الملل لا سيما النصارى حمل الناس على الدخول في دينهم بالإكراه. وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين، لأن الإيمان وهو أصل الدين وجوهره، عبارة عن إذعان النفس، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالبيان والبرهان10. وهكذا يتأسس نفي محمد عبده لأي ثنائية في السلطة من منظور إسلامي ما بين سلطة دنيوية أو سياسية وأخرى دينية أو روحية، من خلال إنكار وجود هذه الأخيرة بالمرة حسب ما تقتضيه الأصول الإسلامية. كما أن محمد عبده يرد بهذا من جهة على أي مطابقة بين الرؤية الإسلامية والرؤية المسيحية التي كانت تقوم على مفهوم الدولة الدينية، ويرد من جهة أخرى على استبعاد الدين نهائيا من أسس الدولة المدنية ومقوماتها. ولذلك يؤكد أن الحاكم مطالب بالعدل والالتزام بالكتاب والسنة يقول: لكن الإسلام دين وشرع فقد وضع حدودا ورسم حقوقا (...) فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة11. ويؤكد في نفس السياق أن الحاكم مطاع ما دام على المحجة ونهج الكتاب والسنة، لكن إذا خالف الكتاب والسنة فالمسلمون له بالمرصاد ولذلك وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره، ما لم يكن في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه. وفي مقارنة بالمسيحية يؤكد أنه لم يكن من أصول الإسلام أن يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ما له ويأخذ على يده في عمله. ثم عدد تأثيرات الإسلام الإيجابية على الفرد وعلى الجماعة وأكد أنه مكن للأمم التي دخلت فيه نظاما امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه، فكان الدين بذلك عند أهله كمالا للشخص، وألفة في البيت، ونظاما للملك12. 2 - الحاكم في الإسلام حاكم مدني انطلاقا من أصل انتفاء وجود سلطة دينية في الإسلام يصوغ محمد عبده أصلا ثانيا بكون السلطة في الإسلام سلطة مدنية، والحاكم فيها مدني. ويستدل على هذا الأصل بأن الحاكم عند المسلمين ليس معصوما، ولا يتلقى الوحي، وليس من حقِّه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة، ولا يخصه الدين في فهم القرآن الكريم والعلم بالأحكام الدينية بأي امتياز، ولا يرتفع به إلى منزلة خاصة. وللناس تقويمه إذا اعوج، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وإذا فارق الكتاب والسنة في عمله، وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره، ما لم يكن في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه. فالأمة، أو من يمثلها، هي من ينصبه، وهي صاحب الحق في السيطرة عليه، أي هي مصدر السلطات، وهي التي تخلعه متى رأت المصلحة في ذلك. ثم ينتهي إلى الخلاصة الواضحة: فهو حاكم مدني من جميع الوجوه13. وبذلك نزعت أي قداسة أو صفة دينية عن أى حاكم بشرى. ويظهر بوضوح من نصوص واستدلالات الأستاذ الإمام أن هذا التنظير لمدنية الحاكم ينطلق من أصل إخضاعه لسلطة الأمة وسد كل أبواب الاستبداد والاستفراد بالسلطة. وفي المقابل يرفض محمد عبده خلط الحكم من منظور الإسلام بالحكم التيوقراطي، أو السلطان الإلهي، حيث نجد أن الطاعة للحاكم، ليست بمقتضى مدني (البيعة وما تقتضيه من عدل وحماية للأوطان)، بل بمقتضى الإيمان وبمقتضى الانفراد بتلقي الشريعة عن الله، لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله في أي مظهر ظهرا: هما دين وشرع. هكذا كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى، ولا تزال تدعي الحق في هذه السلطة إلى اليوم14. 3 - الوظائف الدينية ليست سلطات تمارس على الناس إذا كان الإسلام قد هدم أي سلطة دينية ورفض الاعتراف بها للسلطة السياسية العليا، فإنه قد نزعها عن أي مؤسسة تمارس سلطة من السلطات في مجتمع المسلمين. فقد تساءل محمد عبده نفسه ـ في ظل التصور الذي عرضه ـ عن مهام القاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام؟ فيجيب بأن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام. وكل سلطة كلف بها أحد منهم فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه أو ينازعه في طريقة نظره (...)51. وعندما يسمي محمد عبده هذه المهام بالوظائف الدينية فلكي ينزع عنها طابع السلطة المتسلطة على الناس باسم الدين، وهو ما قرر من قبل أن الإسلام أتى بهدمه، ثم لكي يقرر بعد ذلك مدنية تلك الوظائف. ويصل في ذلك قمة الوضوح عندما يمنع السلطة السياسية من التدخل في مضامين مهام تلك الوظائف، ويجعل لها حق تنظيمها وتدبيرها فحسب. يقول: وقد قررت الشريعة الإسلامية حقوقا للحاكم الأعلى، وهو الخليفة أو السلطان، ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية، وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية، والمدافع عنها بالحرب وبالسياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم، وليس له عليهم إلا التولية والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم ورفع المظالم إن أمكن16. وهكذا يبين ما معنى مدنية السلطة السياسية التي على الرغم من إشرافها على الوظائف الدينية، إلا أنها إنما تقوم بتدبير تلك الوظائف حتى تؤدي مهامها بنجاعة وانتظام، وهي لا تؤدي عملا دينيا، ولا يحق لها التدخل في مضامين عمل الوظائف الدينية17. ـــــــــــــــــــ 1 - ـ نشر في جريدة >التجديد< على حلقتين بالعددين 1796 و1797 بتاريخ 31 دجنبر 2007 و 1 يناير 2008. 2 ـ انظر نماذج من ذلك لدى: علال الفاسي: الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، دار الطباعة المغربية، تطوان، ص 133, محمد الفلاح العلوي: جامع القرويين والفكر السلفي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1994, ص 59 ـ 61. 3 ـ عبقري الإصلاح، محمد عبده، ص 175. 4 ـ الوعي الذاتي، منشورات عيون، الدار البيضاء، ط 1, 1987, ص 39. 5 ـ دكتور محمد عمارة، مقدمة للأعمال الكاملة للأستاذ الإمام محمد عبده، دار الشروق 1993 ص 36. 6 ـ الوعي الذاتي، ص 56 ـ 57. 7 ـ خصصت كتابات كاملة لحياة وعطاءات وفكر محمد عبده، منها: تاريخ الأستاذ الإمام لتلميذه محمد رشيد رضا، وعبقري الإصلاح لعباس محمود العقاد، وغيرهما. 8 ـ الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، تحقيق وتقديم د، محمد عمارة، ط 1, 1441هـ 1993م، دار الشروق، 3/304 وما بعدها. 9 ـ نفسه، 3/308 ـ 309. 10 ـ نفسه، 4/704. 11 ـ نفسه، 3/307. 12 ـ نفسه، 3/242 13 ـ نفسه، 3/307 ـ 308. 14 ـ نفسه، نفس الصفحة. 15 ـ نفسه، 3/309. 16 ـ نفسه، 3/250. 17 ـ انظر توضيحا أكثر لهذه الفكرة في الفصل السابق: الدين والسياسة، تمييز لا فصل.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.