الحديث الأخير في موضوع الجامعة الإسلامية التي تناولنا الحديث عنها بمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي وذكرى وفاة المرحوم مالك بن نبي، تناولنا فيه دور جامعة القرويين وعلمائها في بناء الوحدة الإسلامية، والسعي في هذا السياق لإعادة اللحمة بين الشعوب الإسلامية، والحكومات في أفق مقاومة الاحتلال الأوروبي للمغرب والعالم الإسلامي، وكان الالتزام في آخر حديث أننا سنتناول في حديث مقبل أحد هؤلاء العلماء والذي كتب كتابات متعددة في موضوع الدعوة للوحدة ومقاومة الأجنبي. وإذا كان الإنسان مستهدفا وعرضة للقيل والقال، فإن الإنسان الذي يمارس التعبير عن أفكار أو اتخاذ مواقف معينة بواسطة القلم والكتابة معرض أكثر من غيره لهذا الاستهداف حتى قال القائل من (ألف فقد استُهدف) وأنا هنا أولف بين الحروف والكلمات واجعلها يستأنس بعضها ببعض في تآلف يدعو في بعض الأحيان إلى نوع من التنافر وتجاوز الإلتلاف، من ذلك ان بعض الناس قال وهو يعتبني ولا أقول يحاورني ما بالك تقحم القرويين وعلماءها في كل شيء وما علاقاتهم بهذه الجامعة الإسلامية، أليس داعية هذه الجامعة الإسلامية ثائر ضد الطرقية والتصوف وعلماء الجامعة في أغلبهم من أرباب الطرق أو الداعمين لذويها باسم التصوف، ثم أن الجامعة الإسلامية فكرة سياسية متسربلة بسرابيل الدين والدعوة الدينية وإلا فإن أولئك الأتراك والأفغان والمصريين والشاميين وغيرهم لكل منهم وجهة هو موليها فلم الربط بين الجامعة الجامدة وهؤلاء المتحررون ومن بينهم حتى المتطرفون؟. انه اعتراض أو عتاب أو حوار لك ان تختار له ما تشاء من الأسماء والعناوين غير انه مما لا شك فيه أن هؤلاء العلماء كانت لهم بالفعل صلات بطريقة أو بأخرى بما يجري في الشرق، وان هناك من حاول تقليد ما يجري هنا وهناك من كان له موقف من دعوات الإصلاح وبالأخص السلفية التي لم يكن السادة العلماء جميعا في مستوى واحد وموقف واحد منها، وذلك لأن المرحلة نفسها كانت مرحلة سيادة الطرقية التي كان بعض قادتها ممن كانوا يرون في الأمر الحاصل أو بصدد الحصول من هيمنة الدول الأوروبية أمر لا يمكن مواجهته بمواجهة مفهوم الولاية أو المشيخة الطرقية، وهذا دفع بعضهم عن شعور أو غير شعور إلى الصف الآخر، وان كان مما ينبغي تسجيله كذلك للطرقية هوائها كان من بينها وهو الأغلب في هذه المرحلة من تصدي للاستعمار ومقاومته، وليس هدفنا في هذه الأحاديث التاريخ للمواقف أو استعراضها فهذا له موضوعه وليس على أي حال هو هذه الأحاديث التي تسجل انطباعات أكثر مما تلجأ للبحث الذي يفضي إلى تحبيذ موقف أو إدانة موقف آخر. والذي لاشك فيه ان التراث الفكري للمرحلة التي نتحدث عنها زاخر بمعطيات علمية وفكرية وثقافية وقد اشتغل الباحثون والدارسون على هذا التراث، وكان مجالا لأطروحات جامعية كما كان ميدانا للكتابات التاريخية التي تتوخى الغاية العلمية الصرفة والتي لا تخلو من التعاطف مع هذه المواقف التي تشكل رد فعل قوي ضد الأطماع والأهداف الاستعمارية ويأتي في مقدمة هؤلاء الباحثين الذين همهم البحث والإفادة العلمية وليس نيل شهادات معينة أو إجازة من هذه اللجنة أو تلك واعني بذلك الفقيه البحاثة المرحوم محمد المنوني في كثير مما كتب وبالأخص كتابه مظاهر يقظة المغرب الحديث وقد كتب عن الشخصيات التي أثرت وتأثرت كلاما جيدا ومهما هو أكثر دقة واستيعابا من بعض الناس الذين يريدون ان يوظفوا المرحلة ومواقفها لأطروحة فكرية إيديولوجية هي اقرب إلى المدرسة الاستعمارية منها إلى الحقيقة التاريخية وإنصاف العاملين في ظروف كان المتحكم فيها هو جو اليقظة والحذر ومقاومة التآمر الأجنبي. وفي موضوع علاقات النخبة المغربية بالشرق الإسلامي بصفة عامة ودور العلماء كتب المنوني رحمه الله فصولا مهمة في روافد الوطنية المغربية وعلاقة تلك الروافد بالجامعة الإسلامية ومهد لذلك بالكلام عن هذه الجامعة وأهدافها وأرخ لبعض الشخصيات في الموضوع ومما كتب نقتطف بعض الفقرات مع شيء من التصرف. إن الاقتراح الصادر في كتاب »أم القرى« كان يتجاوب مع تفكير يشغل بال بعض المصلحين الآخرين، حتى تمكن الاستفادة من هذا الفريق في بناء المجتمع الإسلامي الحديث، وهكذا يقول السيد محمد رشيد رضا: » طالما فكر محبو الإصلاح من عقلاء المسلمين، في إصلاح شأن المنتمين إلى طرق الصوفية... ولما هاجرت إلى مصر سنة 1315، كان أول إصلاح سعيت ليه، أن حاولت إقناع شيخ مشايخ طرق الصوفية الشيخ محمد توفيق البكري بالقيام بهذا الإصلاح، كلمته بذلك قبل إصداري المنار، ثم ما زلت ألح عليه في ذلك وهو يسوف مع الاستحسان، حتى عمد إلى ذلك بوضع لائحة رسمية، ولائحة داخلية، ثم وضع كتابا في الأخلاق والآداب«. ومن هذه الفقرة التي اقتبسها الفقيه المنوني من كلام رشيد رضا نلحظ أن التصوف أو الطرقية لم تكن الغاية هو محاربتهما أو القضاء عليهما بقدر ما كان الهدف هو إصلاح ما ينبغي إصلاحه ليتسق مع الحركة التحريرية والوطنية. ويواصل الفقيه المنوني الكلام قائلا: ومن الجدير بالذكر أن الشرق الإسلامي، عرف في هذه الفترة تجمعات تتسم بالطابع الوطني، ومنها بمصر » الحزب الوطني « وزعيمه مصطفى كامل، علي يوسف، وجريدته »المؤيد«. غير أن الوطنية كان مفهومها آنذاك يتسع لاعتبارات دينية، ولا أدل على هذا من كون الحزبين المصريين يؤيدان الجامعة الإسلامية بكل حرارة. وفي تركيا ظهرت بعض التجمعات الجنسية، مثل جمعيات »الوطن التركي. والجنسية الطورانية التي تألفت في الأستانة، على أن بعض زعماء الأتراك كانوا يفضلون الرابطة الإسلامية بغض الطرف عن الجنس والقومية، ومن هؤلاء أنور باشا أحد أقطاب جمعية الاتحاد والترقي. وبعد ان تحدث رحمه الله عن هذه الحركات الأبرز من حيث الوطنية أو الاهتمام بالجامعة الإسلامية ومساندتها ينتقل للحديث عن أصداء كل ذلك في المغرب قائلا: وإلى هنا فقد قدم هذا المدخل الملامح العامة لحرة النهضة الحديثة بالشرق الإسلامي، وبعد ما كانت أصداؤها تنتقل متقطعة إلى المغرب، بدأت من أوائل القرن العشرين تصل بانتظام، حيث تتأدى إلى المغاربة بواسطة الصحافة والكتب المشرقية، وعن طريق بعض الجرائد التونسية، وعلى لسان الرحالين من الحجاج والتجار، فضلا عن الصحافة المحلية التي أخذ صدورها ينتظم في مدينة طنجة. فكان لهذا المصادر على تنوعها أثر في تزايد الشعور بواقع البلاد، وحاجتها إلى في تفكيرها وسياستها وسلوكها، ولمعت هذه اليقظة أكثر في أربع مدن: فاس العاصمة العلمية والاقتصادية والسياسية آنذاك، ثم طنجة: القاعدة الدبلوماسية، ثم سلا والرباط. وإذا كان كلامه عن النهضة والعمل الجاد من أجلها فإنه لاينسى تأثير أوروبا في بعض نخب تلك المرحلة قائلا: ولا نغفل هنا عن الإشارة إلى مصدر آخر لهذا الشعور، ويتمثل في النخبة الواعية من الذين درسوا في أوربا. وتبوأ بعضهم مناصب سامية، ومنهم الزبير سكيرج، وأحمد الجبلي، والطاهر بن الحاج الأودي، والطيب المصطفى بن عيد السلام الزاودي الطنجي، وأسماء أخرى متعددة. هذا إلى تأثير بعض الوافدين على البلاد من الشرق الإسلامي، وسنأتي على أسمائهم آخر هذا الفصل، مع العلم بأن بينهم من كان يرتبط بالجامعة الإسلامية وصحافتها، أو حزب الاتحاد والترقي. 1/ فنذكر أولا العالم التونسي محمد خير الدين، مبعوث جمعية الاتحاد والترقي بتركيا، حيث أقام بمدينة مراكش، وكان له اتصال بالشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني. 2/ وإذا كنا لا نتوفر الآن على معلومات أكثر عن هذا الوافد المقيم بالمغرب: نشير بعده إلى زكي الصحفي، ومراسل جريدة » المؤيد« في مؤتمر الجزيرة الخضراء، وكان وصوله إلى فاس بعد انفضاض المؤتمر يوم السبت 23 ربيع الثاني 1324/1906، فقوبل بعناية خاصة، ونزل بالدار المعدة للقادمين من الخارج، وتضيف الجريدة التي نشرت هذا النبأ قائلة: » وفي رواية إن المخزن نفذ له مئونة يومية قدرها خمسة أو ستة ريال عزيزية، وأنه في البحث والتنقيب عن رياض لائق لسكناه، حيث إنه عازم على استخدامه في مهام حكومية«. وقد قام على زكي هذا بمساعدة هامة للوفد المغربي أثناء انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء، وعمل لإذكاء روح المقاومة لدى هذا الوفد، ولإقناعه بالاعتماد على خبرات المسلمين المشارقة من أتراك ومصريين في تنفيذ الإصلاحات ويبدو أن هذا الصحفي لعب دورا هاما في تحضير المشاريع التي تقدم بها الوفد المغربي، وخاصة مشروع البنك. 3/ وبعد على زكي نشير إلى الشيخ العالم السوري عبد الكريم بن السيد عمر ابن مصطفى بن الشيخ مراد، الشامي الطرابلسي ثم المدني الحنفي، مبعوث الشرق إلى المغرب. ورد على فاس عام 1324 » 1906 _ 1907 «، ونزل في الزاوية الكتانية بأعلى القطانين، وابتدأ يلقي دوسا في الجغرافيا والفلك والتجويد، وكان مجلسه مجلس أنس وسياسية ومحاضرة، وغيره على الدين وأهله وغربتهم. وقد ألف في قدمته هذه كتابا باسم » الهدية النافعة لشرح منظومة الواضحة«، شرح فيه الأرجوزة المسماة بالواضحة ، من نظم برهان الدين الجعبري: إبراهيم ابن عمر الخليلي، وطرز باسم السلطان العزيز طالعة الكتاب ، ليعقب بعد ذلك بهذه الفقرة« فنرجو من سيدنا أعزه الله تعالى طبع هذا الكتاب ونشره، وفتح مكتب لأجل قراءة الأولاد على الطريقة الصحيحة: من العلوم الدينية والوقتية، بترتيبنا الغريب، وصنعنا العجيب، حسبما شهدت بفضله العلماء الأعلام، بمدرستنا في المسجد الحرام، ومدينة النبي عليه السلام، ويسمى » بالمقاصد العزيزية«لنشر العلوم الدينية والوقتية...«. إننا لا نريد مواكبة كلام المنوني رحمه الله في الموضوع العام ولكن أوردنا ما أوردنا للتدليل على أن الجامعة الإسلامية كان لأفكارها حضور في القرويين وفي المغرب ومن ذكرهم المنوني أكثر ممن اشرنا إليهم ويمكن العودة الى الكتاب المشار إليه جزء 2 الباب السابع ابتداء من الصفحة 300. ونختم هذا برسالة أوردها بعث بها النوازلي العلاقة المهدي الوزاني للشيخ محمد عبده. رسالة الشيخ المهدي الوزاني إلى الشيخ محمد عبده الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله سيدي الإمام، الدراكة الهمام، المتبحر مفتي الأنام، القائم بشريعة الإسلام، الحائز قصب السبق، في الفضل والتقدم والمجد، الأستاذ مفتي الديار المصرية أبو عبد الله سيدي محمد عبده، سلام على سيادتكم ورحمة الله. أما بعد: فالمقصود الإعلام بأننا على محبتكم وودادكم وإن لم نركم بالأبصار، لكن نرجو اله تعالى بفضله أن يجمعنا بكم في الدار، وقد أخبرني عن سيرتكم ومحاسنكم صاحبنا وحبيبنا الفقيه الوزير العلامة الأسعد، البركة الفاضل الأمجد، أبو عبد الله سيدنا محمد القباص الفاسي وزير الحرب الآن الذي كان سفيرا بالجزائر قبل هذا الوقت، وإن كان لم يتلاق معكم أيضا هناك وقد تأسف على ذلك، وجاءه خبركم وهو بوجدة فرجع سريعا إلى الجزائر بقصد ذلك فلم يلحقكم هناك، وإن كان تلاقي معكم نجله المبارك الميمون سيدي محمد لكنه لم يكتف بذلك، ولا زلنا جميعا نرجو الله تعالى أن يجمعنا بسيادتكم على أحسن حال، يجاه النبي والآل. ثم أنه سألني بعد قدومه من الجزائر عن ذبيحة أهل الكتاب فأجبته بما قاله الإمام ابن العربي وغيره من حليتها، وقد كانت وقعت فيها بفاس مذاكرة قبل هذا الوقت فكتبت فيها جوابا بذلك، فإذا به جاءتنا جريدة من محروسة فصر فيها فتواكم عن ثلاث مسائل، فأعجبتني وسررت بها غاية السرور، وضمنتها كتابا لي في النوازل لحسنها، ثم لما رأيت في تلك الجريدة نفسها كلاما لبعض المارقين من الدين اغتظت لذلك، وعزمت أن أوجه لكم بعض ما كنت قيدته فيها من كلام الأئمة المهتدين، فشاورت في ذلك الوزير المذكور، فحث علي في تقديم إرساله على جميع الأمور، وأعجبه ذلك مظهرا به غاية الفرح والسرور، ومسلما عليكم أيضا وطالبا صالح أدعيتكم في خلواتكم وجلواتكم والسلام. 14 ذي القعدة الحرام عام 21