سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الخلافة من الإلغاء إلى مشروع رابطة للإحياء والنهضة بين علي عبد الرازق وعبد الرزاق السنهوري..؟ فكرة الجامعة الإسلامية والكومنولث الإسلامي من جمال الدين الأفغاني إلى مالك بن نبي..؟ 3
نواصل الحديث في هذه الحلقة من حديث الجمعة عما بدأناه حول فكرة الكومنولث الإسلامي عند مالك بن نبي التي رأيت أن الكلام عنها يستوجب الإشارة إلى التجارب السابقة، وقد أشرنا إلى دعوة جمال الدين الأفغاني وتلامذته إلى الدعوة إلى الجامعة الإسلامية وفي سياق تداعيات هذه الدعوة رأينا ضرورة الحديث عما قام به الدكتور عبد الرزاق السنهوري واتينا في حديث الجمعة الماضية بمشروع الميثاق الذي وضعه هذا الرجل الفقيه القانوني العظيم، وحديث اليوم تتمة للكلام عن مشروع السنهوري مقارنة بما قام به الشيخ علي عبد الرازق في كتاب الإسلام وأصول الحكم، على أمل أن نتحدث عن مشروع مالك بن نبي في حديث مقبل. ************* في حديث الجمعة الأخير تحدثنا عن مشروع الميثاق الذي أنهى به المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري رسالته الجامعية والمهمة في موضوع الخلافة وفقهها وانها ينبغي أن تكون نواة لرابطة الشعوب الشرقية أي الشعوب الإسلامية، ولا يعني استعمال الشعوب الشرقية أن الأمر لا يعني الأمة الإسلامية كلها، ولعل أن يكون استعمال الشعوب الشرقية تقية لدى الغرب الذي لم يكن يستسيغ في تلك المرحلة دعوة جديدة لإحياء الخلافة الإسلامية وهو لا يزال بصدد إهالة التراب على القبر الذي حفره لها وحملها إليه مصطفى كمال أتاتورك في مظاهرة تأييد وتشجيع من الغرب الذي كان يرى في هذه الخلافة خطرا عظيما يهدد برامجه وخططه في الاستعمار والاستغلال لأقطار الإسلام وشعوبه، فلا يزال مداد قرارات الانتداب وتمزيق الشرق والشعوب الإسلامية لم يجف وخطة إعطاء فلسطين لإسرائيل في بداية أمرها الفعلي ودمشق ترمي بالقنابل من المدافع والطائرات الفرنسية، وثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي في المغرب على أشدها والمسلمون في كل مكان يبحثون عن وسائل الخلاص وكيف يتحررون من هذا البلاء العظيم والكبير الذي سلط عليهم، انه وضع ما كان مناسبا ليدعو السنهوري إلى أكثر مما دعا إليه، ولكنه مع ذلك استطاع أن يخرج بهذه الرسالة العظيمة في الوقت الذي كان فيه البعض يحتفل بكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق هذا الكتاب (كتاب عبد الرازق) في الواقع كان قنبلة لنسف آمال المسلمين في عودة نظام الخلافة بل في عودة الشريعة الإسلامية إلى واقع الناس وحياتهم المعيشية. ولعل الزيف الذي صاحب هذا الكتاب ولا يزال من غرائب الأمور وما جرت به السياسيات في تلك المرحلة وحتى الآن فالناس يرونه موجها ضد الملك فؤاد ومن تم يستحق التشجيع لقطع الطريق على أطماع هذا الإنسان المستبد في حكم العالم الإسلامي باسم الخلافة، ولا يمكن للإنسان ان يفهم ما يدور في أفكار الناس في هذا الموضوع، لأن الكثير من الذين كانوا يسعون لإقامة الخلافة العربية تحت سلطة الهاشميين ينقلبون بين عشية وضحاها ضد الخلافة وضد الحكم باسم الإسلام وخلافته. والواقع أن الأمر جلي رغم غموضه فالذين لا يزالون يدافعون عن الكتاب وصاحبه هم أولئك الذين يرفضون ان يكون للإسلام دور في الحياة السياسية والاقتصادية للأمة الإسلامية، والذين تغربوا حتى النخاع فكرا ولغة، أو فكرا، أو تعصبا لهوى من غير فكر ولا لغة. وعلى أي حال فإن المرحوم عبد الرزاق السنهوري بهذه الرسالة استطاع أن يبرهن بكيفية علمية وفي رسالة جامعية ذات منهج علمي رصين على أن الخلافة جزء أساس من النظام الذي أقامه الإسلام منذ بعثة محمد والى حين إلغاء الخلافة، وان محاولة عودة الإسلام والمسلمين إلى مجدهم يتطلب إيجاد هذه الخلافة على أسس جديدة من شأنها أن ترد الاعتبار لوحدة المسلمين وتعاونهم. ولعل هذا الكتاب الذي اشرنا في الحديث السابق إلى بعض القواعد التي اعتبرها الباحث وهو يبحث ويكتب يجد أصولها في عاطفة حياة المرحوم السنهوري نحو الإسلام والمسلمين وما يعانون من قمع واضطهاد من طرف أعدائهم، فإن السنهوري عبر في شبابه الأول في كثير من المناسبات على انتمائه الأصيل لهذه الأمة الإسلامية العظيمة، وعبر عن الشعور الذي يسري في كيانه أمام الحرب الشرسة التي يشنها الاستعمار على الأمة الإسلامية وعلى شعوب الشرق حسب تعبيره وقد عبر عن هذا الشعور في الأبيات التالية والتي نظمها عام 1918 م. أأرضى أن أنام على فراش ونوم المسلمين على القتاد واهنأ في النعيم برغد عيش وقومي شتتوا في كل واد فلا نعمت نفوس في صفاء إذا نسيت نفوسا في الصفاد وهذه العاصفة أشار إليها أستاذه في تقديمه للكتاب حيث قال في شأنه انه يستطيع أن يكتب للجمهور الواسع العريض ولا أقصد فقط جمهور أبناء وطنه _الذي لن يصل إليه هذا الكتاب الا بترجمته إلى اللغة العربية- وإنما أقصد كذلك جمهور الأوروبيين الذين يهمهم أن يطلعوا على وجهة نظر شرقية من عقلية مفكر مسلم ذي ثقافة عالية، بشأن مشكلة تناولتها أبحاث أوروبية عديدة إلا أنها على كثرتها وتنوع اتجاهاتها، لا تقدم هذا الموضوع الا من زاوية وجهة نظر أوروبية، أو أوروبية أمريكية، واقعة تحت تأثير المحاذير المسيحية. (ص 40 من الكتاب) فالأستاذ لا يرى في أن تكون كتابة السنهوري ذات ميول وعاطفة إسلامية نقصا في الباحث وبحثه، ولكنه يرى فيها إثراء و اغناء للكتاب لأن الكاتب رغم كل شيء تحرى الموضوعية بقدر ما يستطيع، وعن هذه العاطفة والموضوعية يتحدث الكاتب السنهوري في مقدمة الكتاب قائلا: للمرة الثانية في تاريخ الإسلام وجد العالم الإسلامي نفسه دون خليفة، لأن الجمهورية التركية عقب انتصارها (على اليونان)، أعلنت أنها عاجزة عن أن تتحمل المسؤولية التي كانت تقع على عاتق لإمبراطورية العثمانية منذ عدة قرون وبذلك أصبح موضوع الخلافة مشكلة عصرية حادة. في هذه الدراسة تناولت الخلافة من وجهة نظر مزدوجة: من الناحيتين النظرية والتاريخية، ولا أدعى أنني بريء من كل تحيز عاطفي في معالجتي لموضوع يثير من الحماس العاطي ما يجعل للمحاذير الناتجة عن البيئة والارتباط الغريزي بالتقاليد العريقة بعض التأثير على طريقة معالجته حتى من جانب أحرص الباحثين على الموضوعية بل إنني أقرأ منذ حداثة سني لم أستطع أن أقاوم تعلقي الواضح بكل ما يتصل بالشرق، وانني كنت دائما أشعر بحماس شديد لدراسة حضارة الإسلام التي أعتز بها وأعجب بها. ومع ذلك فقد بذلت جهدي في هذه الدراسة لكي يكون عملي علميا قدر استطاعتي، لقد التزمت الموضوعية وعملت دائما على ضبط العاطفة حتى لا تطغى على الحقيقة. والحقيقة التي أقصدها ليست الحقيقة المطلقة التي يتعذر وجودها أو اكتشافها في نطاق الأبحاث الاجتماعية على الأخص حيث نستعرض المشاكل في ضوء فكرنا الموروث، أو تفكير عصرنا الذي يتأثر بعوامل متعددة ناتجة عن أوضاعنا الحضارية الخاصة، لذلك فإن لفيلسوف أرسطو عندما قرر أن الرق نظام ضروري كان يعبر عن فكر المجتمع الذي يعيش فيه، وعن إحدى حقائق العصر الذي كان ينتسب إليه«. (ص41-44). إن السنهوري عندما حاول إعادة الثقة بنظام الخلافة علميا وتاريخيا إنما كان يسعى في الواقع إلى مقاومة نزعة اليأس والتشاؤم التي ظهرت لدى كثير من الناس في العالم الإسلامي فرغم المقاومة والثورات والغليان الذي يعرفه العالم الإسلامي آنذاك فإن إزالة نظام دام قرونا وأجيالا في لحظة وكأنه لم يكن، كان بالفعل صدمة كبيرة للعالم الإسلامي وبالأخص ان هذا كله جاء تحت تأثير الغرب العدو التقليدي للعالم الإسلامي. والخلاصة التي يخرج بها القارئ من الكتاب والميثاق الذي نشرناه في الحديث الماضي هي ما عبر عنه الدكتور توفيق الشاوي في المقدمة التي وضعها لترجمة الكتاب والتي جاء فيها: 1/ إن الخلافة معناها إقامة نظام يحقق وحدة الأمة الإسلامية في صورة تنظيم سياسي يضمن لها المكانة الدولية التي تتناسب مع رسالتها السامية وتاريخها المجيد ويضمن سيادة الشريعة والعقيدة الإسلامية، ولذلك فهي ضرورة لابد منها... 2/ انه في الظروف الحاضرة التي يتعذر فيها إقامة الخلافة الكاملة الصحيحة فلابد من إقامة خلافة ناقصة بناء على خطة تمكنها من أن تستكمل تدريجيا شروط »الخلافة« الراشدة الكاملة... 3/ إذا كان تعطيل الشورى وتوقف الاجتهاد نتج عن سيطرة حكام مستبدين وتخلف علمي وجمود اجتماعي فلابد من علاجه حتى يصبح الحكم شرعيا شوريا كاملا راشدا لكن علاج المشاكل الدستورية والعلمية والفقهية لا يستلزم أن تتخلى شعوبنا عن مبدأ الوحدة الإسلامية، لأنه يحمي استقلالها ويقوي شوكتها وهو اتجاه حتمي يفرضه الإسلام ويفرضه التطور العالمي نحو التكتلات الإقليمية الكبرى فهو في صالح تقدم الإنسانية ومستقبل حضارتها وسعادتها... 4/ يجب في الوقت نفسه بدء حركة علمية لتجديد الفقه الإسلامي وتدوينه وتقنينه في صورة عصرية وتطبيقه تدريجيا بصفة عملية في جميع الدول الإسلامية وتنظيم الإجماع ليكون إلى جانب الاجتهاد مصدرا حيا دائما للفقه وليكون تجمع المسلمين مبنيا على وحدة العقيدة والشريعة والثقافة والتكامل الاقتصادي والتكافل الاجتماعي.. 5/ إن سعي الشعوب العربية والإسلامية للتحرر والاستقلال على أساس وطني يجب أن يستمر بسبب اختلاف ظروف كل منها بشرط ألا يتعارض مع تطلعها إلى التقارب والتعاون والوحدة لأن الاستقلال الوطني لا يمكن أن يكون الهدف النهائي للدول الصغيرة لكونه لا يحقق لها أمنها ولا تقدمها ولا استقرارها وإنما يمكن أن يكون قاعدة متينة لبناء وحدة شاملة على أساس التكامل والتقارب والتضامن فيما بينها لتصبح قوة لها مكانتها في المجتمع الدولي الذي لا مجال فيه للدول الصغيرة » ذات المصالح المحدودة«. 6/ في الميدان السياسي يجب أن توجد في كل قطر من أقطارنا حركات سياسية وأحزاب عصرية تدعو إلى إقامة منظمة دولية إسلامية أو جامعة للدول الشرقية (الإسلامية) المستقلة لتنظيم التعاون بينها وتمكينها من مساعدة الشعوب الإسلامية الأخرى في الحصول على حريتها واستقلالها لتنضم إلى هذه الجامعة... 7/ عندما تنجح الحركة العلمية في تطبيق الفقه الإسلامي وتنجح الحركات السياسية في إنشاء منظمة دولية سياسية للدول الإسلامية، يمكن أن يختار المسلمون رئيسيا للجامعة الإسلامية على أساس وحدة الأمة والشورى الحرة وتطبيق الشريعة والتكامل بين المبادئ الدينية والنظم المدنية.. هذه الخطة التي عرضها »السنهوري« في خاتمة كتابه تمكن أمتنا من إقامة وحدتها في صورة عصرية تتلاءم مع الظروف العالمية والإقليمية التي فرضت علينا تعدد الدول وطابعها الوطني وقد كان المؤلف يشعر بأن كلمة »الخلافة« تثير حساسيات بعض الأوساط الأجنبية وخاصة في فرنسا التي كان يدرس فيها وكانت الأوساط الاستعمارية فيها وفي غيرها من الدول الأوروبية لا تريد أن ترى في منطقتنا دولة إسلامية كبرى موحدة حتى أصبح ذكر »الخلافة« يثير لدى بعضهم حالة مرضية من الرفض والحقد والفزع والعداء والتعصب الديني الذي ورثوه من عهد الحروب الصليبية والفتوحات العثمانية في أوروبا، وقد حرص في مقدمته على أن يذكر هؤلاء بالتخلي عن هذا التعصب الديني. لقد حرصت في هذا العرض حول السنهوري وكتابه وفكرته على أن أضع قارئ هذا الحديث في الجو الفكري والسياسي الذي اشتغل فيه الباحث كما حاولت أن أقدم خلاصة أفكاره في الكتاب ليس كما تراءت لي عند قراءة الكتاب ولكن من خلال ما وصل إليه مترجما الكتاب المرحوم الدكتور توفيق الشاوي والدكتور نادية السنهوري وهما من أقرب الناس إلى الكاتب الباحث وأفكاره. وقد كان السنهوري رحمه الله طيلة حياته يحاول أن يضع الفقه الإسلامي في مجال التطبيق الفعلي ما أمكن من خلال دراساته الفقهية ومن خلال الاستشارات التي يقدمها لمختلف لجان وضع القوانين في الدول الإسلامية. اما في موضوع الوحدة الإسلامية أو كومنولت إسلامي فلم يكن وحده الذي حاول ولكن له السبق العلمي حيث اجتهد في وقت الهرج والمرج والفوضى الفكرية السائدة بين الناس آنذاك.