نواصل الكلام في حلقة اليوم من حديث الجمعة حول تفاعل علماء المغرب مع ما كان يدعوا إليه قادة التجديد والإصلاح في الشرق، وبالأخص في موضوع الجامعة الإسلامية أو وحدة المسلمين التي كان الهدف من وراءها النهوض بأوضاع المسلمين في تلك المرحلة والوقوف في وجه الأطماع الأجنبية التي كانت تتربص بأقطار الإسلام والمسلمين في الشرق و الغرب. وقد حاول العلماء والقادة رغم التباين في المشارب إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وحيث أن جامعة القرويين هي المؤهلة في تلك المرحلة بعلماءها للقيام بدور أساس في هذا الباب، فإننا في حديث اليوم نقدم تمهيدا لمقاربة الموضوع. تحدثنا في حديث الجمعة الماضي عن دور علماء القرويين في الدفاع عن الوحدة الإسلامية، التي تجمع المسلمين في صعيد واحد، للدفاع عن الإسلام وقيمه وعن الأرض التي تضم المسلمين ويعيشون فيها حياتهم ويكسبون فوق أديمها معاشهم، ويقيمون الفرائض والسنن ويلتزمون الحدود في تسامح وود واحترام مع من يساكنهم فيها من أهل الملل والأديان، حيث أن الجميع ينعم في هناء وحرية واطمئنان، ولاشك ان الكلام عن هذه الرابطة الجامعة ودور القرويين فيها يطول لواردنا استقصاءه، ولكن الحديث عن الجامعة الإسلامية التي عمل لها الرواد في القرن التاسع عشر والقرن العشرين هي التي نتحدث عنها ونريد أن نلقي بعض الأضواء حولها، لا على جهة الاستقصاء والحصر كما أشرت، بل على جهة الإشارة والتمثيل ذلك ان جامعة القرويين كما قلت في حديث سابق كانت محج العلماء من كل الأنحاء كما كان علماؤها ينتقلون في مختلف الأصقاع والأوطان حاملين معهم رسالة الإسلام الذي يرتكز على العلماء وعلى إخلاصهم في تبليغ أحكامه للناس شرقا وغربا، فالإنسان إذا اتجه إلى كتب الرحلات التي دونها العلماء الذين انطلقوا من هذه الجامعة أو في غيرها من المدن المغربية ولكنهم نهلوا من معيتها واخذوا الزاد الوافر من المعرفة الدينية وغيرها من المعارف الموجودة في ذلك العهد في رحابها إذا راجع الإنسان تلك الرحلات والمدونات سيعرف مدى مساهمة هذه الجامعة في تمتين أواصر الأخوة وروابط الوحدة بين المسلمين، ولاسيما أن تلك المرحلة وقبل بروز هذه الحدود المصطنعة بين أرض الإسلام كان الناس يتجولون وينتقلون في مختلف البلاد دون الشعور بالغربة الوطنية، وإنما الغربة العادية التي يشعر بها الإنسان عندما يغيب عن بيته لقضاء مأرب أو حاجة في سفر قريب داخل مصره أو قطره. لأن الإنسان عندما يتجول في أرض الإسلام يشعر ان العادات والتقاليد التي يلقاها في هذه الأرض هي تلك التقاليد التي تركها في بلاده، فهو يدخل المسجد أو الزاوية ليصلي مع الناس الصلاة نفسها فلا يختلف ما يجده ويلاحظه عما تركه في بلده، وبضاعته العلمية وزاده الثقافي والفكري يمكنه أن يصرفه في تلك البلاد فهو قد يتحول حسب كفاءته وقدرته إلى منصب من أهم المناصب في تلك الأرض، ولا يشعر الناس معه أو يشعر معهم بالغربة وإنما يرى نفسه أهلا ويراه الناس كذلك. وهذا من العوامل التي شجعت العلماء على الترحال والتنقل حاملين معهم من المعرفة والتقاليد ما يعرفه غيرهم على بلادهم، وبذلك يحققون ما جاء في القرآن من أن الناس خلقوا شعوبا وقبائل للتعارف والتعاون بينهم وفي هذا الباب كان لجامعة القرويين دور، وبالعودة إلى كتب أولئك الرجال يجد الإنسان ما يغني ويشفي ويثلج الصدر حول دور الجامعة وعلمائها. ولاشك أن العالم الإسلامي بهذه الوضعية التي لا تعرف الحدود ولا الجواز أو وثائق السفر، أتاح كذلك لكثيرين ان يفدوا على الجامعة فيُفيدون و يستفيدون. وهذا وذاك مما متن العلاقات الثقافية والعلمية بين أقطار الإسلام وأمصاره دون حاجة إلى عقد المؤتمرات وتدبيح المعاهدات لنقل الوفود من هنا وهناك للتعريف بالثقافة والفنون في هذا البلد أو ذاك، لقد كانت الأمور تلقائية لا تحتاج إلى كثير عناء أو كثير من الشكليات التي يعرفها الناس بعدما وضعت الحدود وأصبح الوطن وثنا معبودا بعد ان كان مجالا للتعارف والتعاون على الخير وعلى ما يفيد ويثمر، لقد كان الناس إذن في ذلك العهد على هذا الوضع من التسامح والتعاون بل انتقل الأمر إلى لتكافل والتضامن بين المسلمين شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، وهذا ما نلحظه عندما يهب المسلمون في الدفاع عن أي جزء من أرض الإسلام دون الشعور بأن الأمر يعني أهل البلد الذين يعانون من الظلم فقط، وهذا ما حرك المسلمون المغاربة للدفاع عن إخوانهم في الأندلس وفي غير الأندلس من أرض الإسلام في إفريقيا وفي الشرق . تلك أيام زاهرة في وحدة الإسلام والمسلمين، وفي تضامنهم في السراء والضراء. هذا التقليد أو هذا الواجب الديني هو الذي جعل القرويين وعلماءها يعملون لتمتين الوحدة وتقوية أواصرها بين المسلمين. فلا عجب إذن ان نجد في القرن التاسع عشر والعشرين اندفاع المغاربة علماء ومسؤولين نحو تعزيز روابط الأخوة بين المسلمين، وتحمل جزء من المسؤولية في الدفاع عن أرض الإسلام وعن المسلمين، بل كانت هناك محاولات وعمل ومجهود من أجل التفاعل حتى مع المذاهب الفكرية أو العقدية التي برزت في الشرق في هذه المرحلة. فنجد من الملوك مثل محمد بن عبد الله من اختار في العقيدة مذهب الإمام احمد بن حنبل مع الالتزام بالمذهب المالكي في الفروع ومنهم كذلك من اختار الجانب السلفي في ثوبه الجديد ومن العلماء من انضم إلى هذا التوجه وان كان الجميع على مذهب الإمام مالك في الفروع، إلا أن التوجه العام للعلماء هو التوجه الاشعري في العقائد تمشيا مع ما هو معروف من ثلاثية التوجه المذهب المالكي في الفروع والأشعري في العقائد و الجنيدي في التصوف، ولا يرون أن ذلك فيه مخالفة لمذهب السلف. وعلى أي حال فهناك مراسلات بين دعاة السلفية والتجديد وبين علماء المغرب فهم تارة يتوافقون وتارة يختلفون ولكن باستمرار كانت هناك استقلالية واضحة في توجه المغاربة، بل ان الشيخ محمد عبده راسل أحد الملوك المغاربة المولى عبد العزيز في شأن مخطوط من المخطوطات «المدونة» في الفقه المالكي طالبا إمداده به على جهة الاستعارة لطبعه كما راسل في نفس الموضوع أحد العلماء وهذا يدل على مدى التواصل القائم بين علماء المغرب وملوكه وبين العلماء والمسؤولين في الشرق. هذا بصفة عامة وفي الموضوع الذي نحن بصدده وهو موضوع الجامعة الإسلامية فقد حاول المسؤولون المغاربة الاستفادة من التعاون معها ضد الأطماع الأجنبية في المغرب، ولكن الاستعمار الأوروبي أجهض هذه المحاولة وضغط ليلا يتم هذا التعاون غير انه إذا استطاع ان يؤثر سياسيا على المسؤولين إلا أن العلماء الذين تيقنوا بضرورة الإصلاح وفي سياق سلفي و ما تدعوا إليه الجامعة لم يترددوا في تبني كثير من الأفكار الإصلاحية التي يدعوا إليها أولئك، وبالأخص ان الهدف الأساس لدعاة الجامعة الإسلامية هو مقاومة الاستعمار الأجنبي وصَدِّ الهجمة الأوروبية على ديار الإسلام، ومحاربة التخلف الذي أصاب المسلمين. ونحن في مقدمة هذا الذي المرض أو العطب الذي يحاربونه الاستبداد بالرأي دون الأمة التي تريد أن تحكم وفق التعاليم الإسلامية المبنية على الشورى بين المسلمين، وتحديد مسؤولية الراعي والرعية، لقد كان هذا الهدف واضحا في دعوة جمال الدين الأفغاني وبقية العاملين في الحقل الإسلامي للإصلاح والتحرر، فالأمراض التي تعاني منها الأمة الإسلامية ويسعى دعاة الإصلاح لتحرير المسلمين منها يأتي في مقدمتها استبداد الحاكمين في ديار الإسلام بالمسلمين والاستئثار بالقرار دون بقية الناس كانوا من العلماء أو من مطلق الناس وهذا ما كان يرى فيه العلماء المسلمون في المغرب وفي القرويين بالذات أصل الداء الذي أنتج كل الأمراض الأخرى. ولذلك اتجه العلماء في مقاومتهم للأجنبي وأطماعه في المغرب نحو المسؤولين مطالبين إياهم، بالتخلي عن الاستبداد بالرأي وإشراك الأمة في تدبير شؤونها وان الاستعانة بالأمة في مقاومة الأطماع يعزز موقف المسؤولين تجاه الأجنبي ويجعل الأمة تشعر أنها تقوم بدورها كاملا في القرار والتنفيذ وان الأجنبي الذي يهدد المغرب واستقلاله إنما وصل إلى ما وصل إليه بتفعيل أمر الشورى بين الحاكم والمحكوم في بلدانهم وأن مراقبة الحاكمين وتصرفاتهم وتقويم ما اعوج من هذه التصرفات هو الذي جعل أوروبا تتقدم وتهدد المسلمين، ولذلك كانت مشاريع لوضع دستور تحكم بمقتضاه البلاد، ويحدد المسؤوليات ويعرف كل واحد ما له وما عليه، وهذا من أهم ما سعى إليه دعاة الجامعة الإسلامية في الشرق. لقد كانت المسألة إذن في نظر العلماء المغاربة مسألة إنهاء الاستبداد بالرأي والقرار دون الأمة، ولاشك أن اثر الدعوة الإصلاحية في الشرق واضحة في هذا الباب فالباحثون في هذه الجزئية من جزئيات الدعوة الإصلاحية يلاحظون الشبه الموجودة بين ما هو مقترح في المغرب وما هو منجز أو بصدد الانجاز في الشرق وبالأخص في الدولة العثمانية وربما كان هو نفسه الذي ثار من أجله العلماء في إيران في ثورة 1906 حيث تمكنت هذه الثورة الإيرانية من وضع الدستور كما تمكن الأتراك من فرض الدستور أو العودة إليه على الأصح ضدا على موقف الخليفة السلطان عبد الحميد. لقد كان إذن أمر الدعوة إلى الإصلاح والجامعة الإسلامية أمرين يكاد ان يكونان متلازمين في مختلف الأقطار الإسلامية، وإذا كان الباحثون في أمر النهضة والإصلاح في بلادنا قد تناولوا المرحلة بكثير من الدقة والتحليل، فإن الموضوع لا يزال في حاجة إلى جهود وبحث دقيق من أجل توضيح الكثير الذي لا يزال غامضا في هذا الباب، ومن المفيد هنا أن نشير إلى المجهود الذي بذله المرحوم علال الفاسي في النقيب و»الحفريات» حول الحياة الدستورية في بداية القرن العشرين وما حاوله المغاربة وبذلوه من جهد من أجل من الوصول إلى وضع قطار المغرب في سكة الديمقراطية والشورى، ولكن الأمر كان أكثر تعقيدا وأكثر صعوبة مما يظن. ولعل الكثير من الدراسات والأبحاث التي جاءت بعد أربعين سنة من هذه الحفريات التي قام بها المرحوم علال لم تضف كثيرا لهذه الجزئية بالذات مما يعني أن الموضوع لا يزال في حاجة إلى مزيد من العناية والدراسة، ولاسيما والعالم الإسلامي اليوم ومن ضمنه المغرب ما أحوجه الى أن يعرف ما حصل بالضبط، وكيف حصل ما دام امر الحكم الديمقراطي الصحيح والسليم لا يزال مطلبا قائما ليس في المغرب وحده بل ربما كان المغرب من بين الدول الإسلامية التي خطت خطوات في هذا الباب، ولكن مع ذلك فإن الأمر لا يزال في بدايته. وعلى أي حال فإن الموضوع الذي نتناوله اليوم ليس هو تقويم المرحلة بقدر ما نحاول إلقاء بعض الأسئلة حول المرحلة وحول دور العلماء في القرويين في التفاعل مع الجامعة الإسلامية والدعوة إليها، وتبنيها لصالح المغرب ولصالح المسلمين، ونحن هنا لا يهمنا أن يكون هذا الطرف أو ذاك من المسؤولين أو من العلماء يريد ان يحقق مكتسبا أو هدفا لأننا لا نستقصي البحث في خلفيات أي طرف من الأطراف، وفي الوقت نفسه لا نحاكم النوايا، وإنما ننظر إلى ما بين أيدينا من نصوص في هذا الباب وقد اخترنا في حديث اليوم الحديث عن عالم من علماء المغرب والقرويين وكتاب من أهم الكتب التي حاولت ان تنبه إلى مكمن العطب وضرورة إصلاحه. لقد ألف العلماء في أواخر القرن التاسع عشر كثيرا من الكتب والرسائل والقوا خطبا ودروسا ومحاضرات في موضوع الدعوة إلى الإصلاح وتلافي ما يكاد يحصل ويراه الناس رأى العين في الوقوع في براثن الاستعمار والحكم الأجنبي، وقد كان من أنشط العناصر في هذه المرحلة بعض السادة العلماء من الأسرة الكتانية، ونحن هنا لا نحاول إصدار الأحكام في شأن من أخطأ ومن أصاب من هؤلاء الناس ولكن في هذه الارتسامات والخواطر التي تأتي عفوية وناتجة عن بعض القراءات في أدبيات المرحلة سنقف وقفة عند كتاب تناوله الدارسون والباحثون نظرا لأهميته العلمية والدينية والسياسية والاجتماعية وهو كتاب نصيحة أهل الإسلام وللمرحوم الشيخ محمد بن جعفر الكتاني، وهو موضوع حديث الجمعة المقبلة بحول الله.