السطور التالية ليست حديثا في التاريخ، بقدر ما هي تذكير بدرس الجواب الصحيح عن أسئلة قديمة جديدة، وفي مناسبة إسلامية كبرى هي عيد الفطر المبارك. كانت موجة التغريب تزحف بقوة في القرن التاسع عشر، وتحتل الثقافة والسوق والأرض، تماما كما يجري الآن مجددا، وكانت مدرسة التجديد الإسلامي تبحث عن طريق للنهضة بعد انكسار نهضة محمد علي، ثم وقوع مصر، درة الشرق الإسلامي، في قبضة الاحتلال البريطاني بعد هزيمة الثورة العرابية. كان هجوم الوافد التغريبي متصلا ضاغطا، فماذا حدث بالمقابل؟ وأين ذهب الموروث الإسلامي؟ يلزم للجواب أن نعود إلى الوراء قليلا، أن نعود إلى رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873). كان الطهطاوي شيخا أزهريا تعلم على يد أستاذه شيخ الأزهر حسن العطار، وأرسله محمد علي إلى باريس كمرشد ديني لأولى بعثاته الطلابية الكبرى. قرأ الطهطاوي في باريس كل ما وقعت عليه عيناه، وعاش أحداث ثورة 1830 التي انتهت بهزيمة الملكية الأخيرة وتأكيد النظام الجمهوري، وعاد الطهطاوي مبهورا بما رآه، وكتب يقول «إن البلاد الأوربية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي لا ينكر إنسان أنها تجلب الأنس وتزين العمران». وبعد لحظة الانبهار الأولى، حاول الطهطاوي أن يبلور نظرة توفيقية بين الشرع الإسلامي وشرع الغرب، ومال إلى نوع من المزج بين الحضارتين في نظر إنساني متصل، وقال في كتابه (مناهج الألباب في مناهج الآداب العصرية): «إن ما عندهم هو ما عندنا»، ويضيف: «من أمعن النظر في كتب الفقه ظهر له أنها لا تخلو من تنظيم الوسائل النافعة، حيث بوبوا المعاملات أبوابا مستوعبة للأحكام التجارية كالشركة والمضاربة والقرض والمخابرة (...) وغير ذلك، ولا شك في أن قوانين المعاملات الأورباوية استنبطت منها»، ويقول محرضا على النظر العقلي الوضعي في ما ليس فيه نص شرعي: «إن غالب ما في دستور الفرنساوية ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله، فلنقرأه لنعرف كيف قد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد». كان الطهطاوي مهتما بالذات بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ودعا في وقته المبكر إلى فكرة فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية «وهذه القوى الثلاث ترجع إلى قوة واحدة هي القوة الملوكية المشروطة بالقوانين». هكذا لم يجد الشيخ الطهطاوي حرجا في الأخذ بفكرة الملكية الدستورية على النمط الغربي، بل وشفع ذلك بضرورة تصفية الإقطاع والاستغلال، وقال إن أوربا التي تقدمت ممالكها «لم تصل إلى ذلك إلا بتصفية الملتزمين وأن أكثر حكام أوربا كانوا ملتزمين ومستغلين لتملك الدوائر البلدية والأراضي الزراعية»، ويهاجم استغلال أرباب الأملاك «لأنهم يحتكرون جميع الأعمال الزراعية من طائفة الفلاحة ويحتكرون ثمرات جميع الصنائع (...) وهذا ممنوع شرعا». وواضح من تلك الاقتباسات أن الطهطاوي تأثر كثيرا بوجه الغرب المتحرر المتقدم دون وجهه الاستعماري، وهذا طبيعي، فقد حارب معركته الكبرى ضد ركام الجهل والظلام الذي خلفته قرون الحكم المملوكي والعثماني، ثم إن مصر كانت تعيش على أيامه بالقصور النسبي حالة الاستقلال والتحديث التي ولدتها تجربة محمد علي، ولم تكن أصابع الغرب الاستعماري تتحكم في توازنات الواقع والثقافة المصرية كما حدث بعده . كان الطهطاوي حريصا على غرس مفهوم الدولة الدستورية، وعلى بيان عدم تعارضه مع الشرع والفقه الإسلامي، وهو يقول «إن ما يسمى عندنا أصول الفقه يشبه عندهم أي عند الغرب ما يسمونه الحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية». ورغم دعوته إلى الأخذ بأسباب التمدن، نجده يتحفظ على بعض السمات الحضارية الغربية، ويقول «إن الأوربيين في العلوم الفلسفية حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية». ويخاطب الأزهريين قائلا: «إن مدار سلوكنا، جادة الرشاد، منوط، بعد ولي الأمر، بهبة العصابة أهل الأزهر التي ينبغي أن تضيف إلى ما يجب عليها من نشر السنة الشريفة ورفع أعلام الشريعة المنيفة: معرفة سائر المعارف البشرية المدنية». وإذا كان الطهطاوي قد دعا إلى نوع من الملكية الدستورية التي توفق بين الشرع والتمدن الغربي، فإن الأفغاني (1828-1897) الذي وصل إلى مصر بعد أن أينعت ثمار عمل الطهطاوي، وواصل مع تلميذه الإمام محمد عبده (1849 - 1905) الطريق نفسه، وأضافا الحرص على برلمان يعكس إرادة الشعب على نحو ما ظهر من مساندتهما للثورة العرابية، وعلى أولوية الحكم الجمهوري، لكن اختلاف الظروف ووطأة التغريب المسنود بقوة التدخل الأجنبي ثم الاحتلال، كلها دفعت الأفغاني وعبده إلى انحياز أوضح إلى الأصولية الإسلامية . وينتقد الأفغاني بشدة تقليد كل ما هو غربي، ويقول «إن الظهور بمظهر القوة لدفع الكوارث إنما يلزم التمسك ببعض الأصول التي كان عليها آباء الشرقيين»، ويقول «لقد علمتنا التجارب أن المقلدين من كل أمة المنتحلين أطوار غيرها يكونون فيها منافذ لتطرق الأعداء إليها، وطلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل ويفتحون الأبواب ثم يثبتون أقدامهم»، ويضيف قوله: «إنه لا ملجأ للشرقي في بدايته أن يقف موقف الأوربي في نهايته بل ليس له أن يطلب ذلك، وفيما مضى أصدق شاهد على أن من طلبه فقد أوفى أعجز وأذل نفسه وأمته». وواصل الإمام محمد عبده طريق الطهطاوي في الربط بين بعض الأفكار الغربية والأفكار الإسلامية، وأقام علاقات توافق بين فكرة المصلحة في الإسلام وفكرة المنفعة، وبين فكرة الشورى وفكرة الديمقراطية، وبين فكرة الإجماع وفكرة القبول أو الرضى في الفكر السياسي الغربي، وهاجم بشدة فكرة السلطتين الدينية والزمنية، ونفى عن الإسلام فكرة السلطة الدينية بقوله «ضالون من يرون أن الإسلام يحتم قرن السلطتين في شخص واحد، وليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم»، ويضيف الإمام أنه «ليس للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام أدنى سلطة في العقائد أو تقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة دينية، ذلك أن أصلا من أصول الإسلام وما أجلّه من أصل قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها». وكان الإمام محمد عبده يصف نفسه بكونه «روح الدعوة» التي أطلقها أستاذه الأفغاني، وكان الأفغاني جذوة مشتعلة لا تخمد، وقد شارك عبده بحض من الأفغاني في حزب العرابيين الوطني، وحكم عليه بالنفي ثلاث سنوات امتدت إلى ست في بيروت، ثم شارك في جمعية «العروة الوثقى» السرية نائبا لرئيسها الأفغاني، وشارك في تنظيم فروعها، ودخل مصر سرا سنة 1884 أثناء اشتداد ثورة المهدي في السودان، وفي تلك الأثناء كان محمد عبده شديد التأثر بدعوة الجامعة الإسلامية التي قادها الأفغاني. كان الأفغاني يناضل لتجميع عالم الإسلام ضد الغزو الاستعماري الأوربي، وكان الأفغاني رغم أصوله غير العربية يقود تيارا جل رموزه من العرب كمحمد عبده وعبد الحميد بن باديس وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم، وكان حريصا على إيضاح أن مطلب الجماعة الإسلامية لا يرقى إلى الوحدة السياسية التامة بين الأمم الإسلامية المختلفة، وكان يميز بين شعار «الجماعة» و«الخصوصية القومية للعرب» التي تتطلب وحدة سياسية كاملة، وكان الأفغاني يحلم بأن يتعرب الترك ويصبحوا جزءا من الأمة العربية، وكتب يقول: «لقد أهمل الأتراك أمرا عظيما، وهو اتخاذ اللسان العربي لسانا للدولة، والسعي إلى تعريب الأتراك، وإنما فعلوا العكس وفكروا بتتريك العرب، وما أسفهها من سياسة وأسقمه من رأي»، ويوضح بن باديس الجزائري دعوة الأفغاني أكثر بقوله: «إذا قلنا العرب، فإننا نعني هذه الأمة الممتدة من المحيط الهندي شرقا إلى المحيط الأطلنطي غربا (...) وهذه الأمة تربط بينها زيادة على رابطة اللغة رابطة الجنس ورابطة التاريخ ورابطة الألم ورابطة الأمل (...) وبين الشعوب العربية المستقلة تمكن الوحدة السياسية بل وتجب». ويلفت النظر أن كلماتبن باديس (1887 - 1940) تكاد تتطابق مع كلمات جمال عبد الناصر في الميثاق باب الوحدة العربية، فلنضع الجملة السابقة بين قوسين ونواصل: هكذا اكتملت لتيار التجديد الإسلامي صيغة «التوفيق الفعال» بين الموروث والوافد، إنه يقرن حاكمية الله بحاكمية الشعب والدستور، ويدعو إلى التمييز رافضا دعوى السلطة الدينية بالجملة، ومؤكدا مدنية السلطة، ويطمح إلى مشروع حضاري إسلامي تكون الأمة العربية الموحدة قاعدته وقيادته، ويصوغ تضامنا مشتركا بين أمم مستقلة في الدائرة الإسلامية.