«حلم بعضهم بالكثير قبل أن يتحطم حلمه ويعود من جديد ليلملم حطام هذا الحلم بحماسة شعبه ويبني له مكانا للحلم الجديد، معليا همما وعزائم ومحررا شعوبا وقبائل وراسما خريطة لشعبه إلى معترك التاريخ.. تمرَّد وثار حتى تحقق هذا الحلم.. حلم غلبت عليه خيبة الأمل لدى آخرين بعد أن تراجعوا بأنفسهم وشعوبهم إلى الوراء، مقنعين اياهم بأن الحياة ترجع إلى الوراء أحيانا بعد أن استلم بعضهم الحكم بالوراثة وبعد أن ثار وتمر َّد بعضهم حتى وصل إليه، فضيعوا شعوبا ومسحوا دولا وقتلوا وشرّدوا أمما حتى وجدوا مكانا لهم في محكمة التاريخ لتصدر الحكم في حقهم رغم بقاء آخرين في خانة اللجوء والثورة والتمرد حتى رحيلهم محقَّقاً حلمُهم أو غير محقق...، فمنهم من نجحوا ومنهم من سقطوا دون أن تسقط عنهم هالات الحب والتقديس، وهالات اللعنة أحيانا، لكونهم شخصيات تاريخية هزت البشرية...». في بدايات العام 1902، كان موسوليني متوجّهاً إلى مدينة جنيف، السويسرية، هاربا من الخدمة العسكرية، التي باتت تُفرَض على الإيطاليين الذين هم دون السادسة عشرة، قبل أن يتم القض عليه هناك بتهمة التشرّد وإيداعه المعتقل ليلة واحدة والإفراج عنه، ثم اعتقاله، في صبيحة اليوم نفسه (24 يوليوز 1902) من طرف الشرطة تحت أحد الجسور ومعه جواز سفره وشهادة التخرج الأولى و50 سنتيما لا غير.. لتسّند إليه، إضافة إلى التهمة الأولى، تهمة التسوّل ويقضي أسبوعا وراء قضبان السجن نفسه، قبل أن يعانق الحرية... سوء السلوك الدائم كان بنينو موسوليني قد نما وترعرع، منذ ولادته في 29 من يوليوز 1883، في قرية «دوفو دينو برايدابيو»، تلك القرية الصغيرة المتواجدة في الشمال الإيطالي، لوالديه روزا وأليساندورو موسوليني، قبل أن يطلق عليه اسم «بنينو» تيمّنا بالرئيس الإصلاحي المكسيكي بنينو خواريس.. نما وترعرع على الهمجية والتهوّر اللذين حالا دون دخوله الكنيسة رفقة والديه مرات ومرات، لسوء سلوكه الدائم، بعد أن اعتاد أن يقذف روّاد الكنيسة بالحجارة.. الأمر الذي تأخر بسببه ولوجه المدارس الداخلية، بعد أن بدا قليل الكلام، كثير الشجار، مجيدا استعمال قبضته.. يسرق وينهب ما يحمله أقرانه، حتى تم طرّده من المدرسة بعد إقدامه على طعن زميل له بسكّين حادة في بطنه... الهروب من الخدمة العسكرية بعد طرده من المدرسة، وجد موسوليني نفسه أمام ضربات والده المؤلمة، لسلوكه السيء، الذي أضحى يلازمه على الدوام، قبل أن يهتديَّ، بعد حين، إلى بعثه للخدمة العكسرية، التي كانت تُفرَض على الشباب الإيطاليين، علّها تكون وسيلة لتهذيب سلوكه، ليجد موسوليني نفسه مجْبَراً على الهجرة إلى سويسرا، هربا من الخدمة العسكرية، متخذا من مدينة جنيف مقرّاً له، بعد أن استطاع تدبُّرَ عمل كمدرّس في إحدى المدارس الابتدائية، التي سرعان ما طُرِد منها، لأسباب سلوكية، ل«يطير» سريعا إلى أنماس الفرنسية، القريبة، التي بقي فيها حتى العام 1904، تلك المدينة التي سارعت سلطاتها إلى القبض عليه (بسبب انخراطه في العمل السياسي والنقابي وبسبب مقالاته الصحافية في المجلات الاشتراكية «الفوضوية»).. تقرّر إبعاد موسوليني إلى مسقط رأسه، إيطاليا، التي لم تجد سلطاتها بدّاً من اعتقاله وإيداعه السجنَ بتهمة التهرّب من أداء الخدمة العكسرية... موسوليني.. خائن البلاد بعد مغادرته السجنَ، بادر موسوليني إلى البحث عن عمل يسدّ به جوعه و»يصلح» به حالته الاقتصادية، فاستقر في مدينة «تورنتو»، ذات الأصول الإيطالية (كانت إيطاليا قد حرّرتها من النمسا في الحرب العالمية الأولى) ليجد نفسه، مع بدايات العام 1909، في منصب إداري للفرع المحلي للحزب الاشتراكي ومحرّرا في صحيفة «أفغنيري ديل لافوراتوري» (إلى الأمام)، وهو عمل تمكّن موسوليني بفضله من استكمال حياته بالزواج ونشر أولى رواياته الرومانسية المبتذلة بعنوان «عشيقة الكاردينال» في الفترة ما بين 1908 -1910، بعد أن أخذ يقيم لفترات قصيره ومتقطعة في سويسرا، التي عمل فيها بنّاء في إحدى المقاولات، وفيها تعرّفَ فيها على الزعيم الاشتراكي غواليالمو كانيفاشيني، الذي استضافه في ما بعدُ في بيته.. ظلّ كانيفاشيني على اتصال دائم بموسوليني حتى مطلع العام 1911، حيث أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا وحرّكت جيوشها صوب ليبيا، ليجد موسوليني نفسه وقد تزّعم الحركات المناوئة لهذه الحرب، التي أخذت تجتاح المدن الإيطالية بمظاهرات عارمة كانت سببا مباشرا في ايداعه السجن، من جديد، ولفترة امتدّت لشهور هذه المرة، سجن لقي بفضله موسوليني ترحيبا كبيرا في أوساط الاشتراكيين، الذين قاموا بتعيينه رئيسا لتحرير جريدتهم الوطنية «إلى الامام»، حيث قام ودون مشاورات مع قيادة الجزب أو اقتراحات منها، بنشر مقال في افتتاحيتها يطالب فيه إيطاليا بالدخول، إلى جانب الحلفاء، في الحرب العالمية، وهي دعوة تسببت في طرده من العمل ومن الحزب معاً، بعد أن وُجِّهت له تُهمٌ متعدّدة كان على رأسها اتهامه بالخيانة، بتهمة أنه تعاوَن مع الفرنسيين ومع الحكومة الفرنسية، التي قامت ب»شرائه» سّراً. الأسد والخروف.. مع بداية الحرب العالمية في العام 1914، كانت الفاشية قد صارت حركة سياسية مُنظَّمة وتمَكَّن موسوليني، من خلال انتمائه إليها وتجرّده من الشيوعية، من دخول البرلمان عام 1912 وبدأ في تكوين قوة من المحاربين القدامى أطلق عليهم اسم «سكودريشتي»، التي أخذت تزحف في مظاهرات كبرى نحو العاصمة روما، بعد أن شارك فيها نحو 40 ألفا من «أصحاب القمصان السوداء»، الذين جاؤوا من مختلف المدن الإيطالية.. حقق موسوليني، بفضل مسيرته تلك، نجاحا عظيما استسلمت معه الحكومة الإيطالية واضطر الملك الإيطالي فيتوري مانويلي الثالث إلى دعوة موسوليني لتأليف وتشكيل حكومة جديدة يكون الأخيرُ على رأسها في 31 أكتوبر 1922 ليضحى بذلك أصغر رئيس للوزراء في تاريخ إيطاليا، دون أن يتعدى عمره التاسعة والثلاثين.. سرعان ما بدأ موسوليني وحزبه الفاشي الجديد إلى تطبيق السياسات القمعية ضد المعارضين، فقمع أعضاء حكومته وقتل القادة منهم ممن يعارضون الفاشية، محرّما التجمعات والاضرابات.. وسّن قوانينه الجديدة، التي ألغى فيها الأحزاب، مستثنيا حزبه الفاشي، داعيا الجماهير بقوله: «لقد حلمت بكم وحلمت بهذا اليوم التاريخي الذي أقف فيه أمامكم وأقودكم نحو الحرية والمدنية، إنني إذ أسنّ مثل هذه السياسات حفاظا على مصالحكم ومن أجلكم، ولتعلموا أنني جئت من أجلكلم، فأن يعيش الإنسان يوما واحدا مثل الأسد خيرٌ له أن يعيش 100 عام مثل الخروف»!.. داعيا إياهم إلى الالتحاق بمعسكرات التسّييس، الفاشية، بغية إعدادهم كجنود، حيث «السمع والطاعة» والقتال من أجل المبادئ. الحلف الفولاذي بدأ الفاشييون، بقيادة موسوليني، بتنظيم الغارات المتتالية على الأرياف، يدخلون المزارع المعروفة بالاشتراكية.. يقتلون الناس.. يغتالون قادتهم دون رحمة.. حتى أضحى موسوليني رمزاً للجماهير الفاشية، بعد أن أخذت الشوارع تمتليء بصوره والساحات بتماثيله وخلّد اسمه على جداريات عملاقة، في الوقت الذي بدأت حركات تنظيم شاملة لتعليم الفاشية واعتقال العشرات من الصحافيين وتجريدهم من صفاتهم وانتمائهم إلى النقابات وإغلاق صحفهم، حتى بدأت اولى ملامح الكراهية ضده، شيئا فشئيا، في الظهور.. ولمّا بدأت سياسة موسوليني تُجابَه بالرفض والكراهية من طرف بعض فئات الشعب الإيطالي وامتدت سريعا لتشمل مختلف طوائفه، خرج موسوليني، مخبرا إياهم، من جديد، بتجديده سياسته، التي كان الهدف منها جعل إيطاليا دولة عظمى يخشاها الجميع، وعزم على عقد تحالف مع هتلر في 25 أكتوبر 1936، في إطار المعاهدة التي أطلق عليها «الحلف الفولاذي»، والتي مكّنته، في ما بعدُ، من تقوية جيشه لاحتلال ليبيا، دون أن يحقق حلمَه العسكري وهو السيطرة على حوض البحر الأبيض المتوسط، الذي أراد تحويله إلى «بحيرة إيطالية» تمتد جذورها وحدودها من الحبشة حتى سواحل غينا الغربية... سرعان ما أخذ الحلف الفولاذي يشكل «عارا» لإيطاليا موسوليني، بعد أن فشلت الأخيرة في احتلال اليونان لثلاث مرات متتالية وكاد أن يتكرر الفشل ذاته لحظة احتلالهم ليبيا، لولا الإمدادات التي جاء بها هتلر، بعد أن وضع الجيش تحت إمرته المباشرة حتى أوصل موسوليني إيطاليا إلى حالة من المجاعة والحصار الشديدين وصارت تقترب من الهاوية بحلول العام 1942، بجيشها، المهزوم، «الجائع»، الذي عرف نقصا في المؤن والعتاد، كما «اختنقت» البلاد بسبب سوء الأحوال الاقتصادية، وهي أسباب كانت كافية لخروج الشعب الإيطالي إلى شوارع المدن للاحتجاج ضد موسوليني، «ملهم الأجيال» و»صديق الأمس»، عدو اليوم.. بعد أن أوصل بلادهم إلى حالة اقتصادية وعسكرية متدهورة وسيئة وأضحى بذلك عدو الشعب الأول، خاصة بعد أن أصدر الملك أمرا باعتقاله.. نهاية الحركات المسرحية أيقن موسوليني، أمام موجة الغضب الجماهيري التي أخذت دائرتها تكبر شيئا فشئيا، أن النهاية المأساوية قد دنت واقتربت وأن حركاته «المسرحية» المُفتعَلة (ارتداء ملابس العمال عاريّ الصدر ممسكاً الفأس وحفره الأرض بنفسه، إضافة إلى تمسّكه ب»الأخلاق الحميدة» واغلاقه أكثر من 25 حانة تقدم المتع الجنسية الرخيصة وتوقيعه معاهدة مع السلطة البابوية، حرّرت سلطة الفاتيكان من قبضته وأعاد بمقتضاها الهوية الرسمية للكنيسة.. وإصلاحه الأراضي الزراعية التي امتدّت على مساحات واسعة بلغت 10 ملايين فدان).. قد أصبحت غير ذاتِ جدوى ولن تنفعه في الإفلات من قبضة الشعب، الذي سارع ملكهم إلى إصدار الأمر بالقبض عليه ومحاكمته حتى تم تنفيذ الحكم فيه حقه بالإعدام شنقا، رفقة عشيقته كلارا بياتشي وبعض رفاقه يوم 29 أبريل 1945، لتنتهي بذلك أسطورة «الرجل الحديدي»، الذي حلم بالإمبراطورية الرومانية وأصلح أكثر من 10 ملايين فدان من أراضيها..