في الطريق إلى القمة، وتحت وطأة الرغبة المُميتة في الصعود السريع، ننسى -أو نتناسى- حقيقةً مهمة وهي أن لكل شيء في الحياة كُلفة أو ضريبة لا بد أن ندفعها.. تلك الضريبة التي قد تُودي بحياتنا كلما حاولنا الوصول إلى السلطة، فضريبة السلطة قد تكون حياتَنا التي قد نفقدها فجأة ودون سابق إنذار.. تلك السلطة التي قد تتراءى للكثيرين حلاوتُها.. نساء وُلدن في أوساط فقيرة وذُقن شظف العيش ومرارات الحاجة.. اجتاحتْهُنّ رغبة كبيرة ومميتة في الانخراط -بأي ثمن- في كواليس الحُكم ودهاليز السلطة، أملا في قفزة كبرى في ما بعدُ قد تُوصلهُنّ إلى القمة، من خلال ارتباط بحاكم أو الفوز بمنصب سياسيّ كبير.. ملكاتٍ كنّ أو أميرات أو فنانات أو عشيقات أو نساءً عادياتٍ قرّرن «القفز» على العادات والتقاليد والمُضيَّ في الحياة كما تحلو لهن.. نساء ونساء تكبّدن «ضريبة» البحث عن السلطة والاقتراب منها أو التعرُّض لها.. إنهنّ نساء قتلتْهُنَّ السلطة!... إنها كلارا بيتاتشي، الإيطالية التي ارتضت أن تكون واحدة من كثيرات ارتبط بهنّ ديكتاتور إيطاليا العتيد، بينيتو موسوليني.. امرأة ظلت تقترب منه، حتى تلاشت المسافات بينهما.. امرأة حاول موسوليني، من خلالها، تعويضَ مشاعر الدونية والذُّل التي لاقاها في صِغره.. امرأة حاول من خلالها الإيحاءَ لنفسه المريضة بأنه الرجلُ الذي ترغب فيه كل نساء العالم.. امرأة اقتربت من ذلك الايطالي، ابن الحدّاد القروي ذي الدم الفائر (وُلِد في التاسع والعشرين من يوليو 1883 في قرية «دوفو دينو بريدابيو»، شمال إيطاليا وهاجر إلى سويسرا عام 1902، هربا من الخدمة العسكرية واشتغل مُدرِّسا في مدرسة ابتدائية في بلدة «غوالتياري» وتمكّن من دخول البرلمان الإيطالي عام 1921، بعد فشله في انتخابات 1919، ليؤلف حكومته في 31 أكتوبر 1922 الذي حكم إيطاليا 23 عاما، حالما بإحياء الإمبراطورية القديمة!.. مطعم الفسق والعشيقات بدأت قصة غرام موسوليني مع كلارا في ردهات المطعم الأنيق الذي بناه موسوليني بالقرب من مدينة روما، وذي الإطلالة الرائعة على السهول والجبال والوهاد.. مكان ساحر بصورَه ومناظره، مناظر يأتي إليها موسوليني للراحة ونسيان الهموم.. هموم الدنيا والسياسة والحكم.. فقد كان يبحث فيه عن امرأة يسند رأسه إلى صدرها في أوقات الشدّة في الساعات التي يحتاج فيها إلى دقات قلب حبيب تتجاوب مع دقات قلبه دائم الغليان.. فزوجته وأم أطفاله.. تلك المرأة القروية التي تزوّجها حينما كان ابنَ الحداد القروي لم تعد تتوفر على «الكاريزما» التي يتطلبها منصبه الجديد، فقد أضحت امرأة مترهّلة لا تستطيع بيوت الموضة أن تحدد قوامها وتضبط جسمها من جديد، بعد أن استهلكها إنجاب الأولاد وتربيتهم.. يوم كان بسيطا مغمورا لا يكاد راتبه يكفي مصاريف الشهر.. أما الآن فقد أضحت الحاجة مُلحّة لاستبدالها بفتاة شابة أنيقة، تقليدا لشريكه هتلر، الذي اتّخذ من إيفا براون عشيقة ثم زوجة له، فأدّت دورها بمهارة، كزوجة وكعشيقة.. كان موسوليني قد وجد في تلك الحسناء (كانت خفيفة الظل والروح وحلوة الحديث) الفتاةَ المناسبة لتعود به إلى سنوات خلَت لم يشعر بها من قبل.. فأجادت كلارا في ضبط علاقتها به.. فقد كانت تظهر عند الحاجة وتختفي عند اللزوم.. فكان صدرها ذلك المسند الذي يحتاج إليه موسوليني وقلبُها ذلك القلب الذي تجاوبت دقاته مع دقات قلب الزعيم العاشق.. امرأة وضعت حبها ووفاءها لحبيبها فوق كل اعتبار وسبقته إلى حتفه حينما سيقت معه إلى مسرح الإعدام، مطوّقة بذراعيها عنق موسوليني، لتسقط معه على الأرض جثة هامدة دامية فوق جثة دامية هامدة!.. حصان طروادة.. ارتضت كلارا لنفسها أن تكون «حصان طروادة» لتصل إلى أهدافها وتدخل التاريخ من أبوابه السياسية الواسعة، دون أن يكون في حسبانها أن هذه الأبواب قد تكون قذرة ومليئة بالأشواك التي قد تنجرف على صاحبها شيئا فشيئا.. ولم تكن تعي، رفقة عشيقها موسوليني (الذي ركبه الغرور حتى النهاية حالما بإحياء الإمبراطورية القديمة، متناسيا بذلك الإمكانيات الضئيلة لإيطاليا إذا ما قورنت بالإمبراطورية الرومانية) أنه عندما استعصت طروادة على الإسبارطيين ابتكر الداهية (يوليوس) حصانا مجوّفا من الخشب ووضع في داخله كتيبة من المحاربين الذين سرعان ما احتلّوا طروادة، بعد أن أُدخل ذلك الحصان إلى داخل أسوارها ليلا وخرج الإسبارطيون من جوفه وفتحوا أبواب طروادة وانتهت الحرب بإحراق المدينة كلها.. النهاية الدرامية كان موسوليني يريد لإيطاليا أن تكون دولة عظمى وكان مستعدا لخوض الحروب من أجل ذلك، فغزا إثيوبيا في أكتوبر 1935، دون إعلان حرب، على اعتبار أنها لا تستحق ذلك الشرف.. وكان حينها قد عاد لتوّه، بعد أن سحق ثورة عمر المختار في ليبيا بوحشية بالغة.. فتحالف مع هتلر في 25 أكتوبر 1936، بغية احتلال اليونان، ووضع بعد ذلك جيشه بالكامل تحت إمرة هتلر، الشيء الذي أدخل إيطاليا في حرب عارمة مع دول الحلفاء، متوازيا بذلك مع الروس الذين كانوا يزحفون في اتجاه برلين، للإطاحة بحكم صديقه الحميم هتلر.. معركة الشرف الأخيرة.. أمام هذا كله، سارعت كلارا إلى دعوة موسوليني يوم ال18 من أبريل 1945 لمغادرة مقر إقامته في سالو (رغم اعتراضات حراسه الألمان) والهروب في اتجاه مدينة روما للقاء أساقفة المدينة وإقناعهم بالتوسط بينه وبين قوات الأنصار وضمان رقبته.. لكن الأساقفة رفضوا طلبه وأصدروا في حقه حكما بالإعدام، بعدما كانوا قد سيطروا على الحزب الشيوعي الايطالي.. لكن موسوليني تمكن من الهروب، متخفيا في السيارة، رفقة عشيقته كلارا، ليخوض ما أسماه «معركة الشرف الكبرى والأخيرة»!.. وفي صباح اليوم الخامس والعشرين من أبريل، وصل موسوليني، ومعه كلارا، إلى مدينة كومو، مسقط رأسها، ليكتب فيها رسالته الأخيرة إلى زوجته السابقة «راخيلا»، يطلب منها الهروب إلى سويسرا.. لكن الخبر وصل إلى قيادة الحزب الشيوعي الذين سارعوا بالتوجه إلى مدينة كومو للقبض عليه، ليتمكن مجدَّدا من الفرار، على متن سيارة للأجرة في اتجاه الحدود مع سويسرا، قبل أن يتعرف عليهما السائق ويأمرهما بالنزول، تحت تهديد السلاح ببندقيته الخاصة، منتظرا وصول أعضاء الحزب الشيوعي والقيادة الإيطالية التي قبضت عليه رفقة كلارا يوم 26 أبريل، ليساق إلى قصر فينيسيا الحكومي في قلب العاصمة روما، قبل أن يتم نقلهما إلى إحدى الفيلات التي وضع فيها 15 شخصا من معاونيه، ويتم صباح يوم الثاني والعشرين من أكتوبر 1945 إعدامهما شنقا، مقلوبين من أرجلهما في محطة للبنزين في مدينة ميلانو الإيطالية، أمام مرأى جموع الشعب الإيطالي، ليتم دفنهما في ميلانو وتسليم جثتيهما بعد ذلك لعائلتيهما سنة 1957، لتسرد حكاية المرأة التي طوقت بذراعيها جسد عشيقها موسوليني وتسقط معه على الأرض جثة هامدة دامية على جثة