لماذا لا يريد أكثر الناس أن يصدقوا أن النظام القاتل سوف يتوقف عن القتل. ليست المسألة عائدة إلى فقدان الثقة في وعود النظام التي كذبها هو نفسه في كل مهلة أعطيت له كيما يصحّح ممارسته، لكنه يضاعف من وحشيتها بالكم والكيف معا. هذه الممارسة ليست جديدة، لم تطرأ على سلوكه مع انطلاق الثورة ضده. ماذا يفعل نظام القتل إن كفّ عن القتل، فهو منذ أن استولى صاحب النظام على الدولة السورية قبل أربعين عاما ونيف تم تدشين عهده بقتل أقرب شريك وصديق له، والحكم على بقية أعضاء القيادة العسكرية والحزبية آنذاك بالقتل الطويل المؤبد في سجن المزة، لم يخرج أحد منهم إلا بعد عقود إلى المستشفى أو إلى القبر الترابي الأخير. ثم جرى تعميم القتل على مجمل حياة السوريين، بأشكاله المادية والمعنوية، الاجتماعية والثقافية، الإنسانية والحضارية. لقد سُحبت من السوريين ملكيّتهُم لوطنهم وكرامتهم، جملة وتفصيلا، بات معظمهم أشبه بالمهجّرين وهم في عقر دارهم، والمهمشين في كل شأن عام يمسّ أبسطَ مصالحهم الطبيعية ومطامحهم السياسية والثقافية. لقد جرى تمليكُ سورية للأُسرة الحاكمة وأتباعها، بالموافقة الدولية (الشرعية) على الأمر الواقع! أسوأ أعراض الانحطاط المداهم للنهضة العربية الثانية كونُها أنتجت، قسرا عنها أو بإرادتها، أظلمَ إقطاعٍ سلطوي عرفه تاريخ الاستبداد العالمي. وكان النظام الأسدي الأسروي رائدا متميزا لشتى النُّسَخ الأخرى المتسلطة على أكثرية دول الاستقلال العربي الجديد. فإجهاضُ النهضة بات المحرك (التاريخي) عندما تحقق حرمانها من مجتمعاتها الحرة، أمست دولُ الاستقلال ملكياتٍ خاصة لحكامها؛ فكان لا بد لهذا النوع من الإقطاع السلطوي المطلق أن يدخل في صراع النفي الدائم لمنافسه وغريمه الأنطولوجي الذي هو الشعب. ينحل كلٌّ من مفهوم الأمن القومي وأمن الدولة إلى مجرد الحماية المستديمة لهذه العلاقة البائسة بين قمة لاغية لقاعدة هرمها، وهذه القاعدة نفسها، الموجودة حكما وواقعا، ولكن الممنوعة من أبسط حقوقها الطبيعية والمكتسبة إنسانيا اجتماعيا معا. قامت الثورة من أجل هدف واحد، هو منع النظام من ممارسة القتل. كان خوفه الأعظم من أن تنجح الثورة في قتله سلميا؛ فكان تفظيع القمع إلى ما يتعدى كل حدوده، طلبا في أن تتساوى الثورة معه حينما يلجأ بعضُها إلى العسْكَرة. لكن هذه العسْكَرة، المتحققة جزئيا، التزمت حدودَ الدفاع عن النفس، بينما عمّت مفاعيلُ الحراك الثوري المدني غالبيةَ العمق الجماهيري. تضاعفت عزلة الأسرة المسيطرة، فقدت صلتها العضوية الزائفة بالدولة بعد أن أعلنت الحرب على شعبها. انحدرت قطعاتُ الجيش المقاتلة إلى هيكلةِ ميليشياتٍ شعبوية أخرى تستبيح كل المحرمات الدولية والأخلاقية. كلما أوغلت (الأسرة) في سعار الدم والنار والخراب ازدادت قربا من نهايتها. لكن البطش يصير غاية في ذاته، وأصحابه يظنون أنهم أحرار في ممارسته وأنهم منتصرون ماداموا يحصدون أجسادا صريعة تحت مناجلهم؛ فالقتلة المحترفون لا يعبؤون بالنتائج، تهمّهم أفعالهم وحدها. ما داموا قاتلين فهم المنتصرون، وضحاياهم هم المهزومون؛ ذلك هو منطق الحد الأعلى لبلوغِ الطغيان ذروةَ غبائه، موازِنةً لذروة عنفه الجنوني، إذ يعتقد أنه قادر على فعل كل شيء، أي على خراب كل شيء، حتى أَمْنِهِ الأخير في النهاية. والواقع أن أربعة عشر شهرا من أدمى وأوحش ما عرفته أيام العرب العجاف المعاصرة، بَرَعَ خلالها قتلةُ النظام المسعورون في تمزيق آخر الأقنعة السياسية الزائفة الساترة لوجوه ذئابهم من سادتهم المعلنين أو المتوارين وراء السُّجُف الإقليمية أو الدولية. لم يحدث أن أصبحت شعارات التقدم العربي أرخصَ بضاعةٍ شعارية ابْتذلها قياديون تكشفوا عن سفاحين من طراز أجبن جبناء وحوش التاريخ، هؤلاء (الأبطال)، غُزاةُ القرى والمدن والأحياء الآمنة، ثمّ تفريغها من أهاليها، ذبْحُ أطفالها، اغتصابُ نسائها، تعذيب كل لحم حي لأضعف المخلوقات الواقعة تحت مخالب الذئاب البشرية المسعورة. هذه المشهديات المريعة لا شيء يمكن أن يحجب تفاصيلها الفظيعة. لا الهدنة الهشة، ولا هذه العودة السخيفة إلى اللغة الدبلوماسية التي يتداولها زبائن المؤسسات الدولية. ليست ثمة صيغة اتفاق أو تفاهم يمكنها أن تعقد حوارات عقيمة بين الجلادين وضحاياهم. أما الخطط التكتيكية والاستراتيجية اللاعبة خارج حدود معارك الدم والمصير العام، فهي لن تستطيع أن توقف حربا لم تحقق هدفها لأي من أطرافها، ولن تمنع استئنافها بأقسى حالاتها عند أقل خطوة أو هفوة، قد يرتكبُها أحدُ الخصمين المتنازعين. يريد السوري أن يفهم هذه الهدنة على أنها ربما توقف الحرب الإبادية التي يشنها النظام على الشعب الآمن، لكنها لن تمنع، ولا تستطيع أن تمنع ثورة الجماهير الغاضبة. في حين يعتقد النظام أنه موشك على استعادة شرعيته ما إن يحكم الغرب مجددا على أهلية النظام لاستئناف دوره المعهود، بصفته الالتباسية المميزة لحكمه خلال أربعة عقود كان خلالها محورا مركزيا في استتباب أهم مصالح الغرب في المشرق، بدءا من صيانة مستقبل إسرائيل، بل ربما يجنح خيال النظام إلى ما هو أبعد من منجزات (تراثه) الماضي، إذ سوف يرشح نفسه لأن يكون المنجلَ الحاصد لأزهار الربيع العربي أينما وكيفما أينعت ثوراتُه القادمة، بعد أن نجح في امتحان إنزال الضربة القاضية في واحدةٍ من أهم وأعظم ثوراته. فلماذا، إذن، لن يفوز ثانية بأفضل جوائز الثقة لدى كبار سادة العالم. هؤلاء الذين لا يرون ثمة وسيلة لدرء فجائيات الربيع العربي. أفضل من استنبات حقل الأشواك المسمومة في حقول أزهاره ومواسمه عينها. قد تصحُّ هذه الصفحةُ المخيالية من أحلام الطغاة كلما أوغلوا أكثر في تطبيق عقيدة التوحيد بين القتل والنصر، هكذا: اقتلْ تنتصر، لا تقتل فتنهزم! أخطر ما يخشاه عبيد هذه العقيدة في لحظة (الهدنة) الدولية المفروضة هو أن يغدو منع حرب النظام شرطا لاستئناف ثورة الشارع الأهلي السلمي. هذا الوضع لا قِبَلَ لأرباب النظام بأن يتحملوه لا آنيا ولا مرحليا. وهم إن اضطروا إلى الانصياع شكليا، فإنهم سيمارسون نوع الحرب الأخرى الأخفى، حيثما يعممون مصائد شبّيحة الظلام في أحياء المدن والأرياف، يمارسون الاعتقالات الفردية والجماعية والاغتيالات، ينشرون شبكيات الاختطاف والإخفاء؛ فلا حماية لظهور الجماهير وعائلاتهم، إن لم يتمأسسْ نضالُ ثوارهم في منظمات المقاومة الشعبية الشاملة، حيثما تُفرض أشكالُ المقاطعة المتنوعة على كل علاقة رسمية أو عمومية بين فعاليات المجتمع المدني وسلطات الفئة الحاكمة، بما يؤول إلى إحكام عزلة هذه السلطات خارج كل مشروعية للدولة والمجتمع في آن واحد. هذا مع العلم بأن عزلة النظام ليست مستجدة، هو اختارها لذاته ولحكمه منذ أن قرر الاستئثار بالدولة أسرويا وفئويا، مكوِّنا بذلك نوعا من طبقة أقلوية عنصرية متحكمة في مختلف مقدرات البلاد وأرزاق مواطنيها. فلما اندلعت الثورة أخيرا انقلبت هذه العزلة إلى قطبية عدوانية مطلقة خاضت وتخوض حروب القتل ضد غالبية شعبها. فكان رد الثورة هو إسقاط النظام، وإدانة أربابه بجرائم الإبادة المنظمة ضد الإنسانية. لكن مازال هذا الرد بدون أجوبة حاسمة، تائها ما بين خطوط الصراع المحتدمة أو المكبوتة، فلا حديث فوريا عمن انتصر أو انهزم حقا أو فعلا. والمشكلة التي يتعذر على النظام الإقرار بها علنيا بالنسبة إلى مصيره العاجل هي ما إذا كان التدخل الدولي مصرّا على إزاحته كليا، أو أنه سيُبقي عليه كنظام حكم مع اضطراره إلى التنازل عن بعض رموزه، ويخصّ شخص رئيسه بالذات. هذا بعض الحل الذي تنتظره قيادات معارضة كثيرة، دون التمعن في نتائجه شبه الكارثية. هل يفتدي النظامُ نفسَه بالتخلي عن زعيمه، ولكن السؤال الأهم هو المتعلق بالثورة، وليس بالمعارضة. حتى وإن كانت الثانية تدعي تمثيلها للأولى؛ فالادعاء لا دليل عليه سلبا أو إيجابا إلا بقدر ما تثبت الثورة أنها لا تزال سيدةَ الشارع الجماهيري السلمي، وبالتالي فهي وحدَها المؤهّلة لوظيفة المرجعية الشرعية لكل معارضة صادقة مع ذاتها أولا، سواء كانت داخل حدود الوطن أو خارجه. فالخلط بين منطق الثورة وأحابيل المناورة هو البضاعة السياسوية المسيطرة عادة على (مفاوضات) ما يسمّى بمرحلة الانتقال المنتظرة لما سيأتي بعد النجاح النسبي للهدنة الراهنة. غير أنه مثلما لا يصدق أحد من مسؤولي الغرب المتابعين التزامَ الأسد بتنفيذ البند الأول من مبادرة أنان إلى سحب آلة الحرب من شوارع المدن وأحيائها، فإن النظام نفسه لا يعرف كيف يمكنه الصمود طيلة مرحلة الانتقال المفترضة، في الوقت الذي تستعيد فيه الجماهير حرية التظاهر والمطالبة الصارخة، والمنادية بإسقاطه جملة وتفصيلا، دونما التمييز بينه وبين رئيسه. إنها، إذن، الانطلاقة بالأزمة نحو مناورات الحلول والمواقف السياسية، عندئذٍ لن يبقى أبطالُها محصورين ضمن هذا الثلاثي المباشر: الثورة والمعارضة والنظام، لن يظلوا وحدهم في الساحة، فالأطراف الإقليمية والدولية متحفزة جميعها إلى الفوز بحصص من كعكة أية صيغة توافقية، يرسو عليها (بازار) الصفقات المتضاربة، واضحة المعالم في مقدماتها المبتذلة منذ الأمس واليوم، وغير مجهولة النتائج التي سيتحمل أعباءها المريبة سلفا، هذا الشعبُ المضحّي بشبابه ومصالحه الراهنة العاجلة، أملا في استرداد الحرية التي هي أمّ المصالح الكبرى لعموم المجتمع والأمة العظمى، المنتمي هو إليها. هل إذا توقفت حرب القمع ستفوز الثورة، أم إن (السياسة) ستكون لها بالمرصاد؟ لكن الأمل عظيم في شباب الشام الذين اكتسبوا ما هو أهم وأبقى من تجارب شيوخهم، وهم يصارعون في جحيمِ أبشع مجزرة مستديمة لأربعة عشر شهرا، عانوا خلالها كلّ فظائع بعض النوع الإنساني المرتد إلى أظلم حقبة من وحشيته المطلقة، ولكن بكل وعيه وإرادته الشيطانية وحدها، هذه المرة! ليس لهم أن يتعلموا فقط من دروس النكسات لثورات عربية سابقة ومعاصرة لانتفاضتهم بل تزيدهم معرفة بأسرار التغيير البنيوي، تجربتُهم الذاتية عينها؛ إذ أصبح مستقبل الربيع العربي كله متوقفا على تحولات الثورة السورية؛ فأي قرار سينتهي إليه جدل الحلول المنتظرة في بلاد الشام، ستكون علاماتٍ فارقةً في طريق مستقبل هذا الربيع ومواسمه الطموحة القادمة، والشام في عين العاصفة كعادتها تاريخيا.