ليس لشعب ثائر أن يتمنى لثورته أن تصبح كرةَ تقاذفٍ وتجاذبٍ بين أسياد الملعب الدولي. هذا يحدث لسورية الجريحة التي يُراد لها أن تتخلى عن مصيرها المصنوع بتضحياتها الفذة، لكي تغدو هذه التضحيات بضاعة لمزايدة أو مناقصة بين أيدي الآخرين، غير المؤهلين أصلا للنطق باسمها، أو لإلزامها بحلول وتواضعات ومساومات ليست هي طرفا أساسيا في اختيارها أو رفضها. أبشع ما في تدويل قضايا الشعوب المضطهدة، ليس فحسب، طرح البدائل المختزلة أو المشوهة عن تفاصيل الاضطهاد وإنجازات مقاومته في أرض معاركها اليومية، بل الأنكى من كل هذا أن تلك البدائل قد تعيد إنتاج أسباب الاضطهاد الراهن بغير بعض مظاهره السابقة، مع تحقيق توقف المقاومة واستقالتها الطوعية أو الإجبارية من عين أدوارها الناجحة التي أكسبتها الاعترافات الإقليمية والعالمية بأحقيّة أهدافها في الوقت الذي يفقد عدوها، نظام الاضطهاد، مؤهلات مشروعيته الزائفة، متحولا من كونه يمثل سلطة دولة سيادية إلى مجرد طغمة من قتلة برابرة مغتصبين للحكم والوطن. في ثقافة الثورة أنها لا تقبل الحلول الوسط، وأن الثورة لا تأتي إلا بسبب انتفاء الحلول العادية، أما الدبلوماسية فهي الموكول إليها اختراع صيغ التسويات ما بين المتناقضات. وإذ يُتاح لدبلوماسية دولية أن تقبض على ثورة ما، فإنها لن تُبقي منها سوى ذكريات حزينة يائسة لأبناء أو أحفاد الثوار الماضين السابقين؛ فالحشد الاستثنائي لأقطاب الخارجيات للدول الأربع الأقوى عالميا، ومعهم ممثلو دولة الجامعة العربية، هذا الحشد شبه المسرحي يبدو كأنه يطوّق رموزا من ساسة المقاومة السورية في المنفى. هذا يعني أن التدويل، لو كان تحقق، لن يأتي بحسم لمصلحة النظام أو لمصلحة الثورة، بل سوف يجترح نسخة ثالثة تعبّر عن تقاليده الخاصة به وحده. هذه النسخة لن تضع خارطة لإسقاط النظام، عاجلا أو آجلا، وإن هي ستهبه حياة أخرى أقرب إلى الموت المستديم. لكنها في الوقت عينه قد تطفئ شعلة الثورة، قد تستبدلها بحالات الفوضى والفتن المتفرقة. في المحصلة، كان يمكن لسورية أن تخرج من هذه الدوامة الرهيبة، وهي أشبه بشَبْحٍ لتمثالها الماضي، لن يتبقى لها شيء من (مزايا) النظام القديم النادرة، من أسطورة الاستقرار ولو على زغَلٍ، ولن تكتسب من الثورة المغدورة سوى انفلات الأمن الفردي والجماعي وتفكك النسيج الأهلي، ذلك أن نوع التدويل الراهن، الذي كان يجري التوافقُ عليه بين المتعارضين من لاعبي السلطة العالمية، لا بد أن يُحرّم على المتصارعيْن انتهاجَ مبدأ الحسم في أي حل، بعد حذف أولوية الحسم العسكري الذي قد يُجهز على رأس النظام دون جسْمه، إذ إن إلغاء الحسم العسكري من أية أجندة دولية لا يعني بالضرورة اعتماد الحسم السياسي أو المدني، بل سيؤول إلى إضعاف كل من طرفيْ النزاع، بحيث يتعذر على أي منهما الخروج وحده سالما من المعركة دون خصمه، تلك هي المحصلة الفعلية لاستراتيجية تعجيز الحل النهائي إلى درجة تأجيله أو تعطيله إلى أبعد مدى، ريثما تغدو الفوضى وحدَها سيّدةَ الموقف، تأكل الأخضر واليابس من كيان الدولة والوطن والشعب.. إلغاء سورية. إنه التدويل (الأضعف) أو المتخفي غير المنصوص عليه في قرارٍ رسمي، لكنه التدويل الأشد شؤما وهولا، متجاوزا لطرفيْ النزاع، السلطة والثورة، ليستهدف شبكة الأمن الطبيعية للسلم الأهلي، بالعبث الخبيث ما وراء خطوط الطرفين المتصارعين. حينئذٍ، في مرحلة ما بعد التدويل الممتنع والمانع للحسم أصلا، ربما سوف يصبح النظام أسعد حالا، أكثر حرية في النهب والاستغلال والقتل، سيعوّض عن فقدانه لمشروعيته الشعبية بصيغة ملتبسة غير مباشرة من الضمانة الدولية التي تحفظ رأسه، أو تسمح له باستبداله بأي رأس آخر مستنبت من طينته المتسلطة عينها. ذلك أن سادة عالم اليوم لم يكونوا ليحبوا الثورات، ما قبل الربيع العربي، ولكن بعد تفلُّته من القبضة المحلية، فهؤلاء قد يتقبلون مبدأ الثورات، ولكن بشروطهم، وإن هم عجزوا فالعلاج عاجل وسريع، وهو في إيقاع الشعب في شبهة الالتباس ما بين الثورة وعدوتها اللدودة: الفوضى.. أعراضُ الفوضى مصاحبة بالضرورة ل(تمارين) الثورة، خاصة كلما طال أمد الصراع مع العدو، وتشعّبت ساحاته جغرافيا واجتماعيا وثقافيا، فليست ثمة ثورة من دون العنف ماديا أو معنويا، ومن طبيعة كل عنف أنه قابل للانفلات من عقاله عند تراخي الإصبع الضاغطة على زناده. لعل الثورة السورية أنجزت رقما قياسيا جديدا في خصائصها المميزة، لا من حيث أصالتها في الصبر الإنساني المتنامي، على شدائد الهمجية غير المسبوقة، وتحمّل أعبائها فحسب، لكنها هي الثورة الشعبية الرائدة في التصدّي لأسوأ أدوات العنف السلطوي وزبّانيته، وذلك فقط بالحد الأدنى من عنف الدفاع عن الذات. فليس ثمة شعب يشيّع كل صباح عشرات الجنازات من شهدائه، ثم يتقبّل شبابه رصاصاتِ الموت الغادر بصدورهم العارية.. دون اللجوء في النهاية إلى مبدأ الاحتماء من القاتل بقتله. مع ذلك، لن يتنازل الربيع العربي عن سلمية ثوراته مهما حاولت همجية الاستبداد، المتصاعدة إلى أقصاها، مع تعاظم جنون الذعر من دنوّ الخاتمة، أن تنال من إنسانية هذه الثورات، وتلويث بعض أيديها بدم المعتدي انتقاما منه لآثامه، وليس اكتفاءً بحق الدفاع عن النفس فقط. هذه الفروقات الدقيقة لمعاني التطورات الدموية في الساحة السورية خاصة، يسعى النظام وأصدقاؤه الإقليميون والدوليون إلى إغراقها تحت صيغ المساواة دائما بين الضحية والجلاد، بحيث يصير الواحد منهما هو نفسه ونقيضَه الآخر في آن معا. وقد تتلقف الدبلوماسية الدولية هذه الالتباسات المفتعلة بين القاتل والمقتول، كيما يخرج كلا القطبين خاسرين، وهي الرابحة وحدها، أو على الأقل يُصار إلى وضع الأزمة بكليتها تحت طائلة منع الحسم لأي عامل من عواملها كيما يفعّل قواه الخاصة. في هذه الحالة، تواجه الثورة والنظام معا مصير الاستنفاع، وهذا بدوره يشكل المدخل إلى جحيم الحرب الأهلية، حيثما يصبح الجميع وقودا متساوين! لنيرانها. ما يعنيه السقوط في حمأة المقتلات الأهلوية هو أن الشاب الثائر يصير فردا في ميليشيا مقابلَ جيوش السلطة المتحولة إلى ميليشيات هي كذلك. أما الثورة فلا تعود تنتمي إلى أحد من أدعيائها في هذا المستنقع الدموي. وأما (الدولة) فلا يتبقى منها إلا عَلَمُها ضائعا بين أعلام كانتونات تتوالد من بعضها وضد بعضها، كالفطر في الصحراء من أطلال بلاد نسيت وفقدت اسمها في زحمة من عناوين و(شعارات) المعازل والفئويات والشراذم، المحتلة لجغرافيتها وإنسانيتها. في اللحظة الراهنة، لا يبدو ما يسمّى بالمجتمع الدولي عازما على فرض خيار ما على أفرقاء الصراع في سورية. لن يذهب الحدُّ الأدنى من شبْه التوافق ما بين الغرب وروسيا، لو كان تحقق دون الفيتو، إلى أبعد من قرار غائم، يُصدِّر وهما بتدخل معلق، يريد أن يكون سياسيا أو معنويا بالأحرى، لا يطمح إلى ما يتعدى الإيهام بوضع الصراع تحت رقابة أخلاقوية من قبل أركان القوى العالمية الكبرى. وقد تكون هذه التظاهرة لأركان القرار الكوني حول الشأن السوري، وبخاصة في اجتراح موقف ما من سلطة القمع، لا تهدف إلى أكثر من مناورة كبرى في سياق الصراع على مراكز القوى والنفوذ ما بين فريقيْ الحرب الباردة المنقضية منذ أكثر من عقدين، لكن أسبابها الحقيقية لا تزال فاعلة وموجهة لأحد المحاور الرئيسية المستدامة في قسمة عالم الشمال ما بين غربه وشرقه، وهو محور التنافس العريق على نفط (الشرق الأوسط) وأسواقه، ومواقعه الاستراتيجية؛ فمن مسلمات هذا التنافس أن الفائز في إحدى جولاته هو من يحظى بأولوية المساندة من قبل القوة الإقليمية، دولةً كانت أو شعبا. والظاهر أن روسيا أضحت فاقدة لثقة الشعوب العربية عامة منذ انقلابها الذاتي على مشروع (الاتحاد السوفياتي). لم يتبق لها إلا نوع التعلق النفعي والعرضي بها، من قِبل من تبقى من الأنظمة العربية ذات النمط الستاليني البائد. بعض هؤلاء الثوار كانوا يشعرون بأن من حقهم المطالبة على الأقل بالمناطق المحروسة إقليميا أو دوليا. لكن انتشار الثورة لم يُبق أمنا للطواغيت وأعوانهم. وبعض الثوار جنحوا إلى شَرْعَنَة التدخل العسكري الأجنبي. لكن الثورة السلمية لم تلبث أن عثرت على حراسها الأمينين من أشاوس جيشها الوطني. ثم طالب بعض ثالث من هؤلاء الثوار الجامعة العربية بنوع التدخل الذي تقدر عليه. فلم يسمح نظامها العقيم بغير صنف الشهود الزور. وأخيرا، ما إن تلاقى حكام الدبلوماسية الدولية، تحت يافطة إنقاذ الشعب الشهيد ووقف القمع الهمجي، حتى استطاعت ثقافة (لعبة الأمم) أن تحوّل مهمةَ الرسالة الإنسانية التي يدّعيها المجتمع الدولي إلى مجرد صفقة من المصالح المتبادلة بين أركانه، ذات تغطية معمّاة بألفاظ المناورة الإعلامية المعهودة، تمهيدا لفرض تسوية مشبوهة، ممتنعة عن كل حسم لأي عامل إيجابي أو سلبي من معطيات الصراع أو الإبقاء على بعضها فاعلة أو مسيطرة في سياق المصير العام لشعب ووطن ودولة. ثوار الشارع السوري يجددون العزم، بعد انهيار كل مغامرة وهمية أجنبية، على منع النقل لواقع الثورة إلى أرض غريبة، لتعبث بمفرداتها عقول غريبة وتمتد إلى إنجازاتها الأيدي المشبوهة أو القذرة. ثوار الشام يعلمون تمام اليقين أنه كلما افتقد النظام أوراق اعتماده السرّية والعلنية عند حلفائه أو أسياده الأقربين والأبعدين، بعد كل جولة دموية يقترفها، فقد تُربِحه قتلى وفظائعَ جديدة، لكنها تضاعف خسائره السياسية، تحرمه حتى من نفاية مشروعيته المهدورة. أمتنا العربية لم تعوّل مرة في تاريخها المعاصر على أية (مقررات دولية). مصطلح الشؤم هذا كان الأمَّ الحنون المولدة لأعظم نكبات هذه الأمة، بدءا من سرقة فلسطين، وقبلها سرقة أرض الوطن العربي الواحدة وتفكيكها جغرافيا وبشريا، ومصيرا حضاريا؛ وما يزال التدويل ممعنا في استلاب أية إرادة وطنية حرّة، وقطعها عن جذرها. وإن لم يستطع ذلك، فإنه يقصفها بتدخلاته السياسوية والتآمرية، ومع ذلك فقد حلَّ الربيع العربيُ على رأسه، كأنه كابوس أحلامه الأعظم، بل إن ثورات هذا الربيع المتدافقة أصبحت تشكل بالنسبة إليه صواعق ما فوق طبيعية، لا تمتلك ترسانة أسلحته التقليدية تروسا مضادة لنيرانها الحضارية ومصادرها الإنسانية العميقةن المجهولة من علومه وخبراته العتيقة. ما بين مصر والشام يسجل الربيع العربي الصفحات الأولى من كتاب ثورة المستقبل العربية، و(العدو الدولي) بالمقابل واقف بالمرصاد، لا يعترف بأنه متعطل عن العمل، لكنه يمني النفس بأن الثورة العربية قد تنفجر من دون علمه؛ هل سوف تنتصر من دونه كذلك!