أصدرت منظمة «غورنيغ أونيكوال» الدولية، في الأسبوع الماضي، تقريرا مفصلا عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بإيطاليا كشفت فيه أن الهوة بين الأغنياء والفقراء في تزايد مستمر وأن الطبقة المتوسطة التي أدخلت إيطاليا خانت المجتمعات الراقية، نسبتها آخذة في التقلص بشكل ملحوظ. وبعيدا عن التقرير، يمكن ملامسة التراجع الإيطالي على المستويين الاقتصادي والاجتماعي والهوة الحاصلة بين الغنى والفقر من خلال أرقام كشفت عنها جمعيات ومنظمات أخرى، وكذلك من خلال تفاصيل الحياة اليومية التي يعشيها الإيطاليون. أكد تقرير منظمة «غورنيغ أونيكوال» الدولية أن الهوة بين أغنياء وفقراء إيطاليا في تزايد مستمر، بحيث وصل الفارق بين هؤلاء وأولئك إلى نسبة 33 في المائة مقارنة بعقد الثمانينيات الذي لم يكن يتجاوز هذا الفارق فيه 12 في المائة. وأوضح التقرير أن الأسباب وراء اتساع هذه الهوة تكمن، من جهة، في الفساد السياسي والاقتصادي، ومن جهة أخرى في فشل الحكومات الإيطالية، على مدى 20 سنة، في إنشاء وتطبيق برامج ناجعة تضمن للمجتمع الإيطالي توازنا اقتصاديا واجتماعيا وتمنح لكل الإيطاليين تكافؤ الفرص، مؤكدا أن الوضع الجديد يضع عراقيل وحواجز كثيرة أمام أبناء الفقراء من الإيطاليين حتى لا يبرحوا مستنقع الفقر الذي أجبروا على العيش فيه. فالفشل في خلق توازن اجتماعي بإيطاليا مكن من ظهور أغنياء أصبحوا يتوفرون على الملايير من الدولارات ويتحكمون، بالتالي، بنسب كبيرة في الاقتصاد الإيطالي، فإذا كان الوضع بعد الحرب العالمية الثانية متوازنا ومكن في الستينيات من القرن الماضي من ظهور عائلات صناعية كبيرة، مثل عائلة أنييلي التي كان لها الفضل في تأسيس اللبنة الأولى في صناعة السيارات وفي تمكين عدد كبير من الأيادي العاملة الإيطالية من الخروج من دائرة الفقر، فإن الأوضاع بدأت تتغير في عقد الثمانينيات والتسعينيات لصالح أصحاب الرساميل الكبرى لتظهر أسماء مثل اسم ميكيلي فريرو وعائلته التي تمتلك شركات كبرى وعالمية، مثل شركة الشكولاتة «كيندير»، «فيريرو روشيه»، «مون شيري» وغيرها، واسم ليوناردو ديل فيكيو صاحب أكبر شركة لصناعة النظارات الفاخرة في العالم، إضافة إلى أسماء أخرى مثل سيلفيو برلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي الحالي، الذي استطاع في ظرف قياسي أن يجعل من عائلة برلسكوني الأغنى بإيطاليا. فكل هذه الأسماء، التي أصبحت جميعها تتحكم في أكثر من 50 مليار دولار وتحتل مراتب جد متقدمة ضمن لائحة أغنياء العالم، لم توظف ثراءها بشكل كبير في خدمة المجتمع الإيطالي ورفاهيته، بل تمكنت بفضل القانون الذي صنعته هي نفسها ( قوانين صنعها ومررها برلسكوني نفسه لخدمة مصالحه التجارية مثل قانون ألفانو الأخير)، من تسخير المجتمع الإيطالي لجني مزيد من الأرباح ومن التهرب من تأدية الضرائب للدولة، خالقة بذلك نظاما جديدا بإيطاليا شبيها بالنظام الرأس مالي الأمريكي ومجتمعا أصبح اليوم يعيش تناقضات حادة وخطيرة جعلت الأغنياء فيه يصرفون في حفل عشاء واحد أكثر من 6 آلاف يورو في وقت يقف فيه بعض الفقراء والمتشردين الإيطاليين في صف طويل انتظارا لدورهم في تناول وجبة تمنحها لهم جمعيات ومنظمات إنسانية. ففي بداية الشهر الجاري، حذر عدد من الجمعيات الحقوقية، ومعها جمعية المستهلكين بإيطاليا، من أن نسبة كبيرة من الأسر الإيطالية تعيش أزمات مالية خانقة جراء غلاء المعيشة وضعف الأجور، الشيء الذي أثر على قدرتها الشرائية التي أصبحت ضعيفة جدا مقارنة بها خلال السنوات الماضية. الفقراء الجدد كلمة فقر كانت دائما لصيقة بإيطاليا، فهي التي جعلت عددا كبيرا من الإيطاليين، خصوصا بجهاته الجنوبية مثل صقلية وكمبانا وكلابريا وبوليا، يهاجرون وطنهم في اتجاه الولاياتالمتحدةالأمريكية أو كندا أو ألمانيا أو فرنسا أو الأرجنتين بحثا عن لقمة العيش وعن آفاق أخرى لم يجدوها في شبه جزيرتهم والجزر الإيطالية الأخرى. لكن نهاية الحرب العالمية الثانية ومشروع المساعدة المالية الأمريكي المسمى ب»مارشال» وكذا عودة بعض أبناء الجالية الإيطالية بأفكار جديدة ورساميل مهمة من الخارج، كل ذلك مكن المجتمع الإيطالي من تحقيق ديناميكية حقيقية بداخله خلقت بشكل متدرج ما يسمى بالطبقة المتوسطة وأبعدت عنه شبح الفقر منذ بداية الثمانينيات، حتى بات الجميع يعتقد أن عودته أصبحت شبه مستحيلة. هذا الاعتقاد الذي كان سائدا قبل أعوام أخذ في التلاشي يوما بعد يوم لدى الإيطاليين بعد أن أصبح عدد كبير منهم يحس بالحاجة وقلة الحيلة وضرورة التخلي عن عدد من الكماليات والعادات مثل التقليل من الخروج لتناول وجبات العشاء خارج البيت وقضاء العطل عند الأقارب عوض قضائها خارج إيطاليا بالفنادق الفخمة. فالإحصائيات والتقارير الإيطالية الأخيرة حول هذا الموضوع أجمعت كلها على أن الفقر عاد مجددا إلى المجتمع الإيطالي وأن عددا من الإيطاليين، خصوصا الشيوخ منهم، أصبحت وجباتهم اليومية لا تخرج عن إطار المكرونة وما شابهها. ويمكن ملامسة فقر الإيطاليين المادي ليس فقط من خلال الأرقام بل حتى بشوارع المدن الإيطالية ومرافقها كذلك ومن خلال تصرفات بعضهم. فقبل سنوات كان الإيطاليون معتادين على رمي أغراض جيدة وصالحة للاستعمال قرب قمامات الأزبال أو وضعها بشكل منظم على أرصفة الطريق، لكنهم اليوم ونظرا إلى الحاجة التي يعانونها أصبحوا يبيعونها بمحلات خاصة بالأغراض المستعملة أو يضعون دعاية لها بجرائد متخصصة. صور أخرى عن الفقر وعن الأزمة المادية التي أصبح يعيشها الإيطاليون يمكن ملامستها بسهولة بالأسواق والمتاجر التي انخفضت فيها نسبة الاستهلاك بمستويات كبيرة. فقبل أربع سنوات، كانت العربات المتحركة التي يستعملها المتسوقون تمتلئ عن آخرها وكان بالتالي الإيطاليون لا يعيرون اهتماما لأثمان السلع بقدر ما كانوا يهتمون بجودتها، لكن الإيطالي اليوم أصبح يدقق في الأثمان أكثر من تدقيقه في الجودة وعوض ملئه سلته المتحركة أصبح يخرج بكيسين أو ثلاثة في يده. فقر جديد ومدقع سلط أحد البرامج التلفزية الإيطالية الضوء عليه حين كشف عن قيام عدد من إيطاليي مدينة كتانيا بالتقاط ما تبقى من خضر وفواكه سوق شعبي بالمدينة تركها الباعة هناك ليجمعها عمال النظافة بالمدينة الإيطالية. حكمة متشرد قبل أسبوع صادفت شيخا إيطاليا بمترو الأنفاق بميلانو، كان جالسا بمقعد بالميترو وهو يحدث نفسه بصوت مرتفع سمح للجميع بسماع ما كان يقوله، ثيابه القديمة الرثة ونظارتيه ذات الإطار المكسور دلت على أنه متشرد وأفقر من الفقر نفسه، لكن حديثه عن الأوضاع الاقتصادية بإيطاليا وبالعالم ولغته الفرنسية والإسبانية الجيدتين دلا على أن تجربته كبيرة في هذه الحياة وعلى أن الحظ لم يكن حليفه. فقد كان يتحدث بغضب كبير قائلا : «أصبحنا مجتمعا فقيرا، فقد قل المال لأن الأخلاق والإيمان قد قلا مما سمح لرجال أعمال وسياسيين فاسدين ولمؤسسات ضخمة يسيرها اليهود من تخريب مجتمعاتنا»، سكت الشيخ بضع ثوان ليعاود الحديث وقال: «هل تعرفون سبب فقركم ؟ «فالتلفت إليه الملأ رغم تظاهر بعضهم بعدم الاكتراث لما كان يقوله. واستطرد : «السبب هو أنتم وجهلكم بما يحدث في العالم، فتحالف ممن انتخبتموهم وجعلتموهم رؤساء للوزراء ووزراء لحكوماتكم، مع الأمريكيين والإسرائيليين المنبوذين جعل إيطاليا تدخل هي الأخرى خط الأزمة الاقتصادية... أنا عشت في فرنسا وعشت بإسبانيا والحقيقة أن لهذين المجتمعين هوية، أما أنتم فلا هوية لكم، وهذا أحد أسباب فقركم ....»، وسكت بعض الشيء في وقت توقف فيه المترو في محطة «رومولو» للسماح بنزول وصعود الركاب، ليتابع الحديث مجددا، وهذه المرة باللغتين الفرنسية والإسبانية. كنت أتمنى أن يستمر حديث المتشرد الشيخ، لكن ما إن توقف المترو بالمحطة الموالية حتى غادره ليختفي بين ازدحام صنعه الناس تاركا وراءه تساؤلات عن أسباب عودة الفقر إلى إيطاليا وتزايده بعدد من دول العالم. ملقحون ضد الفقر صحيح أن المغاربة ملقحون ضد آفة الفقر، فأينما حلوا وارتحلوا بالعالم تجد أن لهم قدرات هائلة على التعامل مع الأزمات، فمغاربة إيطاليا، وخلافا للإيطاليين، وجدوا حلولا كثيرة للتخلص من تبعات الأزمة الإيطالية والفقر الذي أصاب عددا من الإيطاليين، أولها سياسة « كرز السمطة « التي تجعل عددا مهما من أبناء الجالية لا يعتمد في مأكله ومشربه إلا على نوع من الخضر مثل البطاطس وعلى « الباسطا «(المكارونة) التي يجلبها البعض وبشكل مجاني من الكنائس والجمعيات الخيرية. ثانيها أن عددا مهما من مغاربة إيطاليا باعتبارهم عزابا فقد وجدوا في السكن المشترك حلا لغلاء أثمان السكن والاكتراء، فهناك عدد من الشباب المغربي أصبح يجد نفسه غير قادر على تأدية القسط الشهري للمنزل الذي اقتناه، ليقرر جلب عدد من أصدقائه وأبناء وطنه للسكن ببيته مقابل أجر شهري معلوم. هناك كذلك مغاربة أخرون من وجدوا الحل في مزاولة عمل ثان أو في مضاعفة ساعات العمل لجلب مبلغ مالي يساعد على تغطية متطلبات الحياة اليومية، في حين أن نسبة أخرى بدأت تفكر جديا في مغادرة إيطاليا نحو بلد آخر أو العودة إلى أرض الوطن، فقد أكد لي عدد لا بأس به من أبناء الجالية أن ظروف العيش في إيطاليا أصبحت قاسية على المهاجرين وأن الحل هو مغادرتها نحو وجهة أوربية أخرى أو نحو البلد الأصلي أو الدخول في أعمال غير مشروعة كما يفعل عدد من المهاجرين، وكمثال فقد «أصبح عدد من أبناء الجالية المغربية وقبل عودتهم إلى المغرب نهائيا يقترض من الأبناك ومن المؤسسات المالية الإيطالية مبالغ مهمة تفوق 40 ألف يورو» يحكي أحد مغاربة إيطالية.