اتضح أن الحسن الثاني كان حريصا على أن يطلع ابنه ووارث عرشه على خبايا ما يجري داخل البيت الأوربي. الأمر انطلق باختيار محمد السادس، آنذاك، ملف العلاقة بين المغرب والاتحاد الأوربي كموضوع لبحث الدكتوراه، واستمر بإرسال الحسن الثاني ولي عهده إلى مكتب رئيس المفوضية الأوربية، آنذاك، جاك دولور، لقضاء فترة تدريب. ما هي تفاصيل أول وآخر «سطاج» في حياة الملك محمد السادس؟ من يكون جاك دولور؟ ولماذا اختاره الحسن الثاني ليشرف على التكوين العملي لابنه حتى يمارس اختصاصاته وليا للعهد رسميا؟ ما تقييم دولور لولي العهد آنذاك؟ في يوليوز 1988 تمكن الملك محمد السادس، ولي العهد آنذاك، من الحصول على الدكتوراه بجامعة نيس الفرنسية. اجتاز جميع الامتحانات وحقق معدلات عالية وحاز الدكتوراه في الحقوق التي ستخوله أن يصير وليا للعهد رسميا بميزة حسن. أربعة أشهر بعد ذلك، وتحديدا في فبراير 1988، سينهي الملك الراحل الحسن الثاني عطلة ولي العهد الذي انتهى من دراساته العليا بفرنسا للتو ويرسله صوب العاصمة البلجيكية بروكسيل، حيث يوجد مقر المفوضية الأوربية، وداخلها مكتب رئيسها آنذاك، الفرنسي جاك دولور. الحسن الثاني كان يرغب في أن يتقرب ولي عهد. وبشكل عملي، من القانون العام، وتحديدا القانون الدولي والعلاقات الدولية، مجال اختصاصه، كما أراد منه أن يطلع، عن كثب، على كواليس إدارة أمور البيت الداخلي الأوربي، لينتقل موضوع بحثه من جانبه النظري إلى الجانب العملي، خصوصا أن الحسن الثاني أبدى، كما أسلفنا، انفتاحا كبيرا على الاتحاد الأوربي ورهن المغرب واقتصاده تحديدا به، وكأنه أراد أن يضع سكة واضحة لخليفته على عرش المغرب، توجت بأن دخل المغرب في ما يسمى الوضع المتقدم في علاقته مع الاتحاد الأوربي، مباشرة بعد اعتلاء الملك محمد السادس كرسي العرش. لكن من هو جاك دولور الذي فتح لملك المغرب القادم باب المفوضية الأوربية؟ بمدرسة «دولور» جاك دولور، هو أحد أعمدة السياسة في فرنسا، وأبرز قياديي ومنظري الحزب الاشتراكي الفرنسي، وأقوى رؤساء المفوضية الأوربية الذين ما زالت لمستهم ظاهرة على تجمع دول أوربا حتى اليوم. الرجل خبير في مجاله، اجتاز عدة تجارب، وهو أمر من شأنه أن يكسب ولي العهد، سيدي محمد بن الحسن، عدة أمور إيجابية. هكذا رأى الملك الحسن الثاني عندما أرسل ابنه عند دولور. جاك دولور يبلغ من العمر الآن 86 سنة، على اعتبار أنه ولد في 20 يوليوز 1925 بالعاصمة الفرنسية باريس، حيث شب وسط عائلة متوسطة ذات نزعة اشتراكية، بينما كان والده يشتغل في مجال الاستبناك. حصل دولور على إجازة في العلوم الاقتصادية بجامعة السوربون، قبل أن يتخصص في مجال الاستبناك، في الوقت الذي انخرط فيه في دائرة العمل النقابي. حاز دولور على دبلومات عليا في مجال إدارة البنوك ما أهله ليشغل مناصب عليا في هذا المجال بفرنسا، في الوقت الذي بدأ توغله وسط المشهد العمالي وتغلغله داخل الساحة السياسية من باب اليسار. أصبح دولور عضوا بمجلس إدارة بنك فرنسا في ظرف سنوات قليلة، وتحديدا ما بين 1973 و1979، وفي هذه الفترة بالضبط انخرط في صفوف الحزب الاشتراكي وأصبح من كوادره ومنظريه. كان جاك دولور قد انتخب رئيسا للجنة الاقتصادية والنقدية بالبرلمان الأوربي سنة 1979، لكنه سرعان ما استقال من منصبه هذا سنة 1981 مفضلا رئاسة اللجنة التي تحمل نفس الاسم داخل الحزب الاشتراكي. في هذه السنة، أيضا سيصبح دولور وزيرا للاقتصاد والمالية والميزانية بالجمهورية الفرنسية في عهد رئيسها «بيير موروي». تمكن دولور في ظرف وجيز من قلب نظام هذه الوزارة وطبعها بطابعه، حتى صار لفرنسا شأن بين الدول الأوربية، بينما حظي هو بثقة الأوساط الاقتصادية العالمية. في هذا الوقت، أيضا، خبر دولور مجال التسيير الحضري من خلال انتخابه عمدة لضاحية «كليشي» الباريسية ما بين 1983 و1984. في هذه الفترة أيضا سيصبح دولور رئيسا للمفوضية الأوربية ويحدث تغييرا جذريا في طريقة عمل هذه المؤسسة على اعتبار أنه حمل تصورات خاصة به، إلى درجة أنه شكل لجنة اسمها «لجنة دولور» ضمت خبراء ومدراء أبناك مركزية ل12 دولة عضوا بالاتحاد الأوربي، وتقرير هذه اللجنة هو الذي مهد الطريق أمام تبني عملة أوربية موحدة، أي الأورو. في فرنسا، ظل دولور بعيدا عن المعارك الانتخابية الرئاسية، كما أنه سبق أن انسحب سنة 1995، في آخر لحظة، من الترشح لرئاسة فرنسا، لكنه ظل حاضرا بقلب المشهد السياسي الفرنسي، وتحديدا بالحزب الاشتراكي الذي اختاره كضيف دائم بمكتبه الوطني، وأحد منظريه الكبار. حضور دولور بالحزب الاشتراكي كان أيضا من وراء الستار من خلال دعم ابنته، الكاتبة الأولى للحزب الاشتراكي الفرنسي، مارتين أوبري. هذه، إذن، سيرة الرجل الذي أمضى عنده الملك محمد السادس تدريبا في عز عملية تجديده للمفوضية الأوربية، فكيف مرت إذن هذه الفترة التدريبية؟ «سطاج» ملك دامت مدة تدريب الملك محمد السادس بمكتب دولور سبعة أشهر، وبالضبط ما بين نونبر 1988 ويونيو 1989، أقام ولي العهد، وقتئذ، بالعاصمة البلجيكية بروكسيل، وظل يتردد على مكتب دولور للاطلاع على طريقة إدارته للمفوضية الأوربية وكيفية إدارة دواليب هذه الأخيرة. عقب مدة السبعة أشهر هاته قدم دولور ما يشبه التقييم لولي العهد الذي أمضى تدريبا بمكتبه. تقييم دولور كان على أثير إذاعة «فرانس أنتير»، قبل سنوات، قال فيه: الملك محمد بن الحسن شاب ابن وقته، يهتم بالأمور الاجتماعية والجيوبوليتيكية». دولور كشف عن طبيعة ما قام به الملك محمد السادس خلال تدريبه عنده بالقول: «الملك اطلع على كيفية ممارسة كل المهن المرتبطة بتسيير حكومة أو إدارة دولة. كان شابا مرتبطا بما يقوم به، كتوما وراجح العقل ويمتلك معرفة بتقاليد بلده وجوانب الحداثة في المغرب على حد السواء. إنه على اطلاع جيد بتقاليد المغرب وخصوصيته، لكنه شاب ابن وقته، مرتبط بالحداثة». تقييم دولور لم يتوقف عند قراءة التركيبة الشخصية للملك القادم، بل همّ حتى تقديم نظرة تستشرف توجه محمد بن الحسن عندما سيصبح ملكا، وهو ما عبر عنه بقوله: «أكبر مراكز اهتمامه هي الأمور الاجتماعية والجيوبوليتيكية، على غرار والده. الملك القادم ستكون له حساسية كبيرة واهتمام كبير بمجالات محو الأمية وتنمية الفتيات والنساء داخل المجتمع المغربي». العلاقة ستتوطد بين الملك محمد السادس و»مدربه» جاك دولور بعدما سيصير ملكا، إذ سيصبح دولور بمثابة مستشار للملك محمد السادس، بحيث سيتباحث معه على الدوام في الأمور التي تهم العلاقة بين المغرب والخارج وتحديدا الاتحاد الأوربي، وفي المقابل سيقدم دولور، من موقعه كرئيس للمفوضية الأوربية، خدمات كبيرة للمغرب، من خلال الدفاع عن مصالحه عند إثارة ملفات تهم المغرب داخل المفوضية، كما أنه ظل يصرح على الدوام بما يخدم صورة المغرب بالخارج. الصلة العميقة بين دولور والملك محمد السادس ستساهم في تطوير علاقة الحزب الاشتراكي الفرنسي بالملك، آخر إشارة بهذا الخصوص هو الحديث الحميمي الذي دار بين الملك محمد السادس، والكاتبة الأولى للحزب الاشتراكي الفرنسي، مارتين أوبري، التي هي ليست سوى ابنة دولور، منتصف شهر مارس الماضي، والتي زارت المغرب في إطار الدعاية لحزبها ومرشحه، فرانسوا هولاند.