تعزز الأدب السياسي المغربي بصدور كتاب «المغرب والعالم العربي» عن دار النشر الفرنسية «سكالي» لصاحبه عبد اللطيف الفيلالي، الذي تقلد على مدى خمسة عقود عدة مناصب دبلوماسية وحكومية، قبل أن يعين وزيرا أول في عهد الحسن الثاني. ويستعرض الكتاب، الذي يقع في 318 صفحة، محطات هامة من التاريخ السياسي المغربي قبل أن يقف على مرحلة الاستعمارين الفرنسي والإسباني، وحرب الريف، والأخطاء الفادحة في المفاوضات مع فرنساوإسبانيا بشأن الاستقلال، فضلا عن سياسة الحسن الثاني العربية والدولية والعلاقات التي كانت تربطه بعدد من القادة الإسرائيليين. «المساء» تقدم لكم أقوى الموضوعات التي جاءت في مذكرات عبد اللطيف الفيلالي كانت العلاقات العربية الإسرائيلية إلى جانب العلاقات مع أوربا من أبرز أولويات السياسة الخارجية للحسن الثاني الذي كان يرى في المغرب وفي موقعه الجغرافي الامتداد الطبيعي لأوربا. وفي ظل التمزق العربي الذي زادته العوائق الاقتصادية انقساما، لم يجد من بد سوى تقوية علاقاته مع أوربا سياسيا واقتصاديا وحتى ثقافيا.. ذهب به ثقل الجوار إلى حد نسيان أن هناك فاصلا بين البلدين اسمه جبل مضيق طارق. فقرر بعد أن سكنته بعمق فكرة انضمام المغرب إلى الاتحاد الأوربي، تقديم طلب بهذا الشأن، حتى وإن كنت قد شرحت له غير ما مرة هشاشة هذا المطلب. عرض علي ذات يوم طلب الانضمام الذي أعده مع أحد مستشاريه، وفي غياب أي تعقيب من جانبي، قال لي: «لقد شرحت لي من موقع منصبك كوزير، موقفك بالكامل، غير أنني أريد اليوم وضع اللبنات للمستقبل، وعليك الآن أن تقوم بتسليم هذا الطلب إلى الرئيس الحالي للاتحاد الأوربي، وتشرح له كم أنني مقتنع بأهمية هذا المسعى». وها أنا في الدنمارك (رئيسة الاتحاد آنذاك)، أمام وزير خارجيتها الذي لم يخف اندهاشه بالقول :»هل أنتم مقتنعون بصواب مطلبكم؟»، فأجبته بأن الملك من جهته مقتنع، فكان أن ظل طلب الحسن الثاني بدون رد من قبل المجموعة الأوربية التي أخذت، من جهتها، في الاعتبار الخط الفاصل بين القارتين. اختار الملك منذ السنوات الأولى من توليه الحكم، إعطاء الأولوية في سياسته الخارجية لمحور شمال-جنوب بدل التركيز على العلاقات مع بلدان المشرق. وكانت أوربا آنذاك منشغلة بمشاكلها الاقتصادية بعد الأضرار التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، ونفس الشيء بالنسبة إلى المغرب الذي هو حديث العهد بالاستقلال. وقد عملت منذ تعييني سنة 1962، كأول سفير لدى اللجنة الأوربية، بعد أن رفضت التعيين بسفارة روما، على بناء أسس جديدة للتعاون بين المغرب والاتحاد الأوربي بدوله الست آنذاك. وإذا كانت العلاقات بين الطرفين أخذت، على امتداد الستينات والسبعينات، أبعادا مشجعة في ما يخص التعاون الاقتصادي والمبادلات التجارية، فإنها ستشهد بداية من 1985 نوعا من التدهور مع انضمام اليونان وإسبانيا والبرتغال إلى السوق الأوربية المشتركة. فالدول الثلاث كانت تعاني من تأخر كبير في بنياتها الاقتصادية، وكان لا بد أن تجني ثمار انضمامها، وهو أمر إذا كان طبيعيا ومنطقيا من زاوية وفلسفة ومفهوم التعاون بين دول السوق المشتركة، إلا أنه بمنظوري الشخصي خطأ وظلم كبيران في حق المغرب، لم يعر أصحابه أدنى اعتبار للعواقب الاقتصادية الوخيمة على دولة في طور النمو تحتاج إلى تعاون مثمر وبناء مع دول الاتحاد. حاولت منذ تعييني وزيرا للخارجية سنة 1986 تدبير هذا المشكل لمدة 14 سنة من منطلق بناء علاقات تعاون جديدة تأخذ بالاعتبار شروط الجوار، من جهة، وتراعي الأوضاع الجديدة التي زجت بالاقتصاد المغربي إلى ما يشبه الشلل في قطاعات عديدة، وخاصة منها الفلاحة والصيد البحري. فمنذ انضمام إسبانيا ودخول منتوجاتها السوق الأوربية، أصبح المغرب دولة أجنبية محكوم عليها بأن تخضع للضوابط التجارية المعمول بها مع البلدان الخارجة عن الفضاء الأوربي، وهكذا أسست لسياسة جديدة سمتها «السياسة المتوسطية الجديدة». التقيت في بروكسل المندوب الأوربي جاك دولور الذي كان على إدراك جيد بمتاعب المغرب من جراء توسيع السوق، واقترحت أن تقوم بلدان مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا بدور توافقي في هذا المجال، ثم التقيت به ثانية باللوكسمبورغ، وقلت له بالحرف: «مع كل التقدير الذي أكنه لك، دعني أقول بصراحة إن السياسة المتوسطية المتجددة التي دشنها الاتحاد الأوربي، لا هي في نظري متوسطية ولا هي متجددة، والسبب أنها لا تستجيب في شيء لحاجيات المغرب التي تعرفها أوربا جيدا. فكل دولة من دول الاتحاد تسعى إلى الدفاع عن مصالحها الخاصة. وإذا كان من حقكم أن تنفقوا في كل سنة الملايير لمساعدتها تنمويا، فإنه لا يجوز لكم تجاهل، وبشكل كلي، الضفة الجنوبية من البحر المتوسط. لا تفصلنا عن إسبانيا سوى مسافة 12 كلم، ونحن ننظر إلى إنجازات هذا البلد وما تغدقون عليه من أموال ليلتحق بالركب الأوربي، بينما لا تقومون بأدنى جهد لفائدة المغرب، بل تحرمونه من تحقيق أي تقارب ومن الدخول في أية منافسة مع المنتوجات الفلاحية الإسبانية داخل المجموعة الأوربية. نحن لا نطالب بأن يكون المغرب واحدا منكم، ولكن امنحوه على الأقل فرصة الولوج إلى السوق الأوربية بشروط تضمن له قدرا من الكرامة». لا أظن أن جاك دولور قد ساعدنا قبل انتهاء مهامه ببروكسل، على التوصل إلى توافق يرضي الطرفين وخاصة في قطاعي الفلاحة والصيد البحري، علما بأن إسبانيا تعد المستهلك الأول للأسماك في أوربا، حتى إن المثل الإسباني يقول «يوم بلا سمك هو يوم ثورة في إسبانيا»، غير أنني لم أشك يوما في صدق نواياه وفي المحبة التي يكنها للمغرب. وللأسف لم يكن وحده صاحب القرار.