الأمطار الأخيرة ضربت كل شيء في الصفر. بضع ساعات من المطر فضحت هشاشة المدن والقرى وذهبت بأرواح الكثيرين، وكشفت أن كل ما يقال عن التقدم والتنمية مجرد حكايات لتنويم الأطفال. الحقيقة أن المغرب على كف عفريت، بل هو على كف سحاب، ويكفي يوم واحد من المطر الغزير كي يحول البلاد إلى بحيرة كبيرة وعدد من الجزر. كان المغاربة طوال السنوات الماضية ينتظرون أن يبادر السياسيون وأحزابهم إلى الكشف عن بؤر الفساد والضرب على يد المتلاعبين بالصفقات والمقاولين الذين بنوا طرقات وقنوات وقناطر مغشوشة، لكن الذي حدث أن الذي كشف عن كل مواطن الخلل في البلاد هو المطر. لقد قررت الأمطار أخيرا أن تزاول السياسة، وهكذا يمكن من الآن فصاعدا اعتبار المطر أكبر وأصدق حزب سياسي في البلاد، وما عداه من أحزاب مجرد صفر على الشمال. لقد رأى الناس كيف أن أكبر مدينة في المغرب، التي تضم أزيد من 5 ملايين ساكن، تحولت إلى بحيرة كبيرة بعد ساعتين من المطر، وتنبه الناس إلى أن السيارات لم تعد ضرورية، المهم هو أنه يجب التوفر على زوارق بلاستيكية بمجاديف، والأكيد أن كثيرا من الناس سيتوجهون مستقبلا نحو متاجر الزوارق البلاستيكية لكي تقتني كل أسرة زورقها. رائع أن تنتهي الطبقية الفادحة بين المغاربة ويتوجه الأغنياء والفقراء معا كل صباح إلى أشغالهم وهم يجدفون مراكبهم في الشوارع التي تتحول إلى أنهار. المشكلة أنه ستظهر بعد ذلك زوارق كات كات يركبها الأغنياء، وزوارق إيركاط للفقراء. وفي طنجة، التي كان الرومانسيون والحالمون يعتقدون أنها يمكن أن تفوز فعلا بتنظيم المعرض الدولي، لقي ثمانية أشخاص مصرعهم بعد أن جرفتهم المياه، وتحولت شوارع المدينة فعلا إلى معرض مائي كبير ومخيف، وغرقت مئات المنازل وحوصر العمال في المناطق الصناعية، وجرفت المياه الأطفال نحو المجاري، وتوقفت حركة السير في عشرات المناطق، وخربت متاجر كثيرة، وترك الناس سياراتهم وأنقذوا أنفسهم مشيا وسط الماء، وظل كثيرون خارج منازلهم حتى الفجر. ومن رأى طنجة نهار الخميس وليلة الجمعة عض شفتيه حزنا على هذه المدينة التي لاتزال مناطق واسعة منها تستعمل نفس القنوات التي كانت تستعملها أيام العهد الدولي، أي عندما كان سكان المدينة لا يزيدون عن مائة ألف، وسكانها اليوم يفوقون المليونين. أما مجاريها وأوديتها فانغلقت تماما بفعل الأزبال والأتربة وبقايا مواد البناء، حيث أصبح ضروريا أن يقف مسؤولوها أمام محكمة حقيقية لمحاسبتهم على جرائمهم في حق المدينة. لقد أنفقت المدينة 400 مليار سنتيم من أجل الدعاية لاحتضان المعرض الدولي، وهي أموال لا أحد يعرف إلى حد الآن أين ذهبت، والوالي وأعوانه يرفضون عقد ندوة صحفية للكشف عن مصيرها، ولو تم صرف تلك الأموال الضخمة من أجل إصلاح البنية التحتية لكان ذلك أنفع بكثير. أكيد أن الأمطار الأخيرة تركت في طريقها الكثير من المآسي لأسر كثيرة فقدت كل ما تملك، وأسر كثيرة فقدت أحباءها الذين لم يقتلهم المطر بقدر ما قتلتهم السياسات الفاسدة والغش في كل شيء. لكن هذه الأمطار على الرغم من النكبات التي تخلفها وراءها، إلا أنها يجب أن تفتح عيون المغاربة على ما يجري. سيفهمون أن كل الكلام الذي يدور عن الحكومة والبرلمان والمجالس البلدية والميزانيات والإصلاحات هي مجرد أكاذيب عملاقة، وأن ساعة الحقيقة دقت اليوم لكي يفتح الناس عيونهم على هؤلاء الذين نهبوا الميزانيات وسرقوا أموال الشعب وتركوه يغرق في كل شيء، في البطالة والفقر والماء والعنف والأمية والأمراض. أنظر تقارير.