سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
طنجة لا تهددها أيام المطر الطويلة.. بل تغرقها فقط ساعات قليلة المنطقة الصناعية لا تزال بلا حماية.. وأحياء في عمق طنجة مهددة.. والجماعات المنتخبة في سبات شتوي
تجددت ذكريات طنجة مع الغرق هذا العام أيضا. ففي شهر أكتوبر من العام الماضي فاجأت أمطار قوية المدينة وأغرقت أجزاء كبيرة منها، ولقي 6 أشخاص حتفهم غرقا، وفق الرواية الرسمية، بينما حدثت خسائر مادية كبيرة، وغرقت المنطقة الصناعية في مغوغة، ومعها أجزاء واسعة في المدينة، ولولا الألطاف الإلهية لحدثت كارثة غير مسبوقة في تاريخ المدينة.. بل في تاريخ المغرب بشكل عام. بعد ذلك جاء صيف قائظ، ونسي الناس الماء والمطر والوحل، واستمرت الحرارة حتى نهاية شهر أكتوبر، لكن شبح الخميس الأسود عاد مرة أخرى إلى طنجة في شهر أكتوبر من هذا العام، وتبادرت إلى الأذهان كل المخاوف من تكرار ما جرى، وتساءل كثيرون هل من المعقول ألا يستفيد مسؤولو ومنتخبو طنجة مما جرى العام الماضي؟ في ليلة 21 أكتوبر المنصرم، وابتداء من الساعة التاسعة والنصف مساء، بدأت القطرات الأولى من المطر تتساقط على طنجة التي لم ترتو منذ شهور طويلة، وفرح الناس بالقطرات الأولى، ثم تحولت القطرات إلى مطر غزير، وتحول المطر الغزير إلى أمطار شبه طوفانية، وبعد حوالي ساعة من ذلك، كان كل شيء يبدو وكأنه نسخة طبق الأصل من فيضانات العام الماضي. القنوات فاضت بالماء بسرعة لأنها مليئة بأكوام الأتربة والبلاستيك، والطرقات المنبسطة تحولت إلى بحيرات بسرعة قياسية، وسيارات غاصت في الماء وداخلها ركابها، ومنازل فاضت بالمياه بسرعة مذهلة لأن القنوات مغلقة، وفي كثير من الأحياء خرج الناس بملابس النوم وهم يحملون العصي والمكانس لكي ينظفوا «القواديس» من الأتربة والبلاستيك، والرخام على كثير من الأرصفة اقتلعته المياه وطوحت به بعيدا، والناس لم يعودوا يأبهون ببلل أحذيتهم وملابسهم ويريدون فقط العثور على ممرات سالكة لمنازلهم. والفارق الوحيد هو أن المطر هذه المرة لم يهطل أكثر من ساعة، ولو هطل لساعتين أو ثلاث بنفس الغزارة لغرقت طنجة من جديد، ولقال الناس يا ويلنا من مسؤولي هذه المدينة الذين لا يستفيدون لا من كبيرة ولا من صغيرة. ويبدو أن القدر يسخر من مسؤولي ومنتخبي طنجة بكثير من الإصرار.. والفزع الذي صاحب سكان المناطق الواطئة سنة 2008 عاد إليهم من جديد سنة 2009، ولولا أن الأمطار توقفت بعد ساعة فقط لكان الناس أمام يوم أسود جديد. بعد ذلك اليوم فقط تحرك مسؤولون ومنتخبون لكي يتداركوا ما يمكن تداركه، وتم عقد اجتماع للمهندسين في ولاية طنجة، ثم بدأت بعض عمليات تنظيف المجاري والأودية، وانطلقت أشغال تجهيز منطقة واقية للمنطقة الصناعية في مغوغة من أخطار الفيضانات، وهي أشغال كان مرتقبا أن تبدأ قبل وقت طويل. اليوم، بعدما مر أول يوم ممطر في موسم الشتاء الحالي، لا يبدو أن طنجة استعدت بما فيه الكفاية لاستقبال أمطار غزيرة أخرى، والمنتخبون منشغلون أكثر بحزازاتهم السياسية والشخصية. وخلال الأسبوع الماضي، عندما كان مقر الجماعة الحضرية يستعد لاستقبال أول اجتماع لمجلس المدينة لهذا الموسم، تم تأجيل الاجتماع بسبب غياب النصاب القانوني، وحضر 27 عضوا فقط من بين 85، مع أن الاجتماع كان مقررا أن تناقش فيه استعدادات المدينة لموسم الأمطار. الأولوية للمنطقة الصناعية المنطقة الصناعية مغوغة هي أكبر متضرر من فيضانات العام الماضي، وهي فيضانات أدت إلى توقف العشرات من المصانع عن العمل إما كليا أو جزئيا، غير أنها استعادت نشاطها بعد بضعة أسابيع من الفيضانات، وحضر وزير المالية شخصيا للاجتماع والتحاور مع أصحاب معامل مغوغة، وقدم مجموعة من الوعود تتمثل في منح مساعدات مالية وعينية وتسهيل استيراد تجهيزات لمعاملهم مع الإعفاء من الضرائب، وأشياء أخرى. اليوم لا تبدو المنطقة الصناعية في مغوغة محصنة ضد فيضانات أخرى، والوعود التي قدمتها الدولة من قبل لم يتم الوفاء بها كلها، والمنطقة لا تزال معرضة للخطر، وفق ما يقول عادل الرايس، رئيس جمعية أصحاب المصانع في مغوغة. يقول الرايس إن الدولة تعاملت مع مطالبهم بانتقائية، وإنها قبلت بعض المطالب ورفضت أخرى، ومن بين المطالب المرفوضة تقديم مساعدات مالية مباشرة لأصحاب المصانع المتضررة، والإعفاء من الرسوم الجمركية، حيث قدمت الدولة مبالغ مالية بسيطة كتعويض، وقدمت تعويضا عن الرسوم الجمركية عوض الإعفاء منها، واتفقت الدولة مع أبناك على تقديم قروض للمصانع المتضررة. المشكلة أن كارثة العام الماضي في المنطقة الصناعية بمغوغة يمكن أن تتكرر هذا العام لأن أشغال الحماية لم تبدأ إلا قبل حوالي أسبوعين، مع أن مطالب حماية المنطقة الصناعية من أخطار الفيضانات كانت موجودة منذ حوالي 20 عاما، ولو أنه تم إنجاز ولو جزء منها فقط لما حدث ما حدث العام الماضي عندما حوصر حوالي 10 آلاف عامل وعاملة في المنطقة وأمضوا ليلة بكاملها وسط رعب حقيقي لن ينسوه طيلة حياتهم. لماذا إذن تأخرت الأعمال من أجل خلق منطقة آمنة حول المنطقة الصناعية، مثل توسيع المجاري وبناء سدين حول المنطقة. يقول الرايس إن «التأخير لا يعتبر بالمرة مفيدا لأصحاب المصانع، وإن الجهات المكلفة بالأشغال تعللت بضرورة الحصول على وقت لإنجاز دراسات، ونحن متأكدون من أنه كان من الممكن أن تبدأ الأشغال قبل اليوم بكثير». الشيء المثير في كل هذا، أن الأشغال بدأت مباشرة بعد الأمطار الأخيرة لشهر أكتوبر الماضي، وهي الأمطار التي أعادت شبح الخميس الأسود إلى المنطقة، وهو ما يعني أنه لولا تلك الأمطار الإنذارية لما تحرك شيء على الإطلاق. لكن، بغض النظر عما يمكن أن تقوم به الدولة، فإن جمعية أصحاب المصانع بمغوغة مارست نقدا ذاتيا تمثل في ضرورة حصول كل الشركات على تأمين ضد أخطار الفيضانات، وفق ما يقوله الرايس، وهو طلب لم تستجب له كل الشركات، غير أنه ليست كل شركات التأمين استجابت أيضا لطلب قبول تأمين ضد أخطار الفيضان. هناك أيضا، يقول الرايس ل«المساء»، احتياطات ذاتية تم اتخاذها من طرف أصحاب المصانع، مثل تحييد تجهيزاتهم وسلعهم ضد أي خطر مائي، والاتفاق مع السلطات على خطة طوارئ لإفراغ المنطقة من العمال بطريقة سريعة في حال وجود خطر داهم، أو في حال وجود إشعار من مصالح الأرصاد الجوية بوجود احتمال أمطار غزيرة. غياب خطة لمكافحة الفيضانات ليست المنطقة الصناعية وحدها المعنية بخطر الغرق، بل هناك أيضا الكثير من مناطق وأحياء طنجة، وهي كلها تقريبا أحياء شعبية أو عشوائية نشأت في غفلة من الزمن، والزمن في هذه الحالة لا يعني سوى ذلك التواطؤ المفضوح لأشخاص كثيرين وجهات متعددة ساهمت مباشرة وعلى مدى عقود في نمو أحياء البؤس والبشاعة.. ولكل شيء ثمنه. مقاطعة طنجة المدينة، برئيسها الجديد يوسف بن جلون، لا تتوفر على إمكانيات مادية تسمح لها باتخاذ إجراءات حقيقية لمنع تكرار ما جرى العام الماضي. والتحركات التي قامت بها حتى الآن تعتبر رمزية أكثر مما تدخل في إطار الإجراءات الفعالة والحقيقية. «زرنا عددا من أحياء طنجة المعرضة للفيضانات مثل وديان مسنانة والمجاهدين، وأفرغنا الوديان من كل ما يعيق مرور مياه الأمطار، يقول بن جلون، ويضيف «نحن لا نتوفر في مقاطعة طنجة المدينة سوى على «طراكس» واحد، وهناك آليات قديمة ومتآكلة ولا تصلح لشيء». ويشير بن جلون إلى أن مجلس المدينة هو المعني بتوفير إجراءات الحماية نظرا للإمكانيات والصلاحيات التي يتوفر عليها، ويأسف لكون الاجتماع الذي كان مقررا للمجلس قبل أيام تم تأجيله بسبب عدم توفر النصاب القانوني، وهو اجتماع كان مقررا أن يناقش، من بين نقاط أخرى، قضية الفيضانات في طنجة. «كيف يعقل ألا يتم إعداد برنامج للاجتماع، وأن يتم توجيه استدعاءات عادية للأعضاء من دون تمكينهم من برنامج العمل»، يتساءل بن جلون مستنكرا. مقر مجلس المدينة يبدو كما لو أن لا أحد يسكنه، على الأقل حين الاتصال به عن طريق الهاتف. يرن التلفون صباحا وفي الظهر وما بعد الظهر ولا أحد يرد. مقر العمودية اسمه «أوطيل دوفيل»، وهو اسم غريب ربما يعكس واقعه الحقيقي، وكان من الممكن أن يترجموا اسمه حرفيا إلى العربية ليصبح «فندق المدينة». حين يتعذر الاتصال بالجماعة الحضرية لمعرفة ما فعلته وما ستفعله من أجل حماية طنجة مستقبلا من أخطار الفيضان، فهذا يعني أن هذه الجماعة بنفسها في حاجة إلى من يحميها من أخطار الزمن. السلطات في طنجة توجد بدورها في قلب أسباب الفيضانات في طنجة، لأنه من قلب الولاية خرجت الكثير من القرارات التي ترخص ببناء عمارات ومنازل في مناطق لا تتوفر على قنوات جيدة لتصريف المياه. ومن يعاين عدد قرارات البناء الاستثنائية التي خرجت من ولاية المدينة سيصاب بالدهشة. هناك تراخيص بالبناء في مناطق لا تتوفر سوى على قنوات هزيلة جدا، وهو ما يعني أن ارتفاع عدد السكان سيجعل هذه القنوات بلا أي مفعول، بل سيكون لها مفعول عكسي تماما عندما تختنق وتعود مياهها إلى السطح. وفي عدد من المناطق، تحولت مناطق خاصة بالفيلات إلى مناطق للعمارات، وأصبحت طنجة من المدن النادرة في العالم التي تتجاور فيها الفيلات بالعمارات. والمشكلة أنه عندما يتم الترخيص ببناء عمارات بها كثير من السكان، فلا أحد يفكر في تغيير القنوات وتوسيع مجاري صرف مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي. مخاطر واد مغوغة مع هطول الأمطار الأوضاع في عدد من أحياء طنجة المرشحة للغرق تبدو عادية جدا من دون مطر. لكن على جنبات الكثير من الأرصفة تتجمع الكثير من الأوحال والأتربة والقمامة، لذلك فإن هذه المظاهر العادية لا تستمر طويلا عند أول زخة مطر.. فحين تجري المياه تجر معها كل شيء إلى القنوات، فتختنق بسرعة، ويفيض الماء على الشوارع عوض أن ينساب في القنوات، فيحدث آنذاك ما يخشاه الجميع. منطقة الدرادب، وبالضبط عند المنطقة المجاورة لثانوية مولاي عبد العزيز والقاعة المغطاة، تتحول إلى بحيرة في زمن قياسي مع سقوط المطر. ورغم أن ذلك يتكرر كل عام حتى من دون أمطار غزيرة، فلا شيء حدث وبقي الوضع على ما هو عليه إلى اليوم. في حومة الشوك بطريق تطوان، يوجد واد مغوغة، الذي يأتي من المنطقة الصناعية المجاورة، بمحاذاة عدد كبير من المنازل، وهو ما يجعله مرشحا لاقتحام بيوت الناس في أي وقت. يقول عدد من سكان المنازل المجاورة إنه، خلال فيضانات العام الماضي، ابتلع هذا الوادي عدة أشخاص، و لم يتم العثور عليهم لأن الماء حملهم بعيدا، إما إلى داخل القنوات الضيقة حيث تحللت جثثهم مع مرور الوقت، أو أن جثثهم قد وصلت إلى البحر. لكن الرواية الرسمية تقول إنه لم يتم العثور على أحد في هذا الوادي، وإن عمليات بحث تلت يوم الفيضان الأكبر لم تسفر عن شيء. المنازل المجاورة لهذا الوادي تعيش فقط على رائحته النتنة ومخاطر سقوط الأطفال في وحله الذي لا يتوفر على أي حاجز أو سياج. امرأة تطل من باب منزلها الضيق تقول إن هذا الوادي يتحول إلى خطر حقيقي مع هطول الأمطار. «أطفالنا لا يمكنهم الخروج للعب لأن الوادي بلا سياج ويمكنهم السقوط والغرق في أي وقت. وحتى من دون أمطار، فإننا نمنع أبناءنا من الخروج لأنه مشكلة بالأمطار أو بدونها»، تقول المرأة. حومة الشوك، حي بئيس نشأ وتطور في سنوات قليلة وتحول إلى مدينة فوضوية قائمة الذات. كثير من منازله بني على أودية صغيرة كانت تتسرب عبرها مياه الأمطار، وعندما لم تعد تجد هذه المياه مكانا تتسرب عبره فإنها أصبحت تتسرب بسهولة إلى داخل المنازل. وفي الحي الصناعي مغوغة تبدو الأوضاع عادية وهادئة وكأن طوفان العام الماضي لم يكن إلا حلما أو خلسة المختلس، لكن هذا الهدوء والاطمئنان لن يكون كذلك سوى حلم لو عادت الأمطار بقوة، وهو ما يمكن أن يحدث في أي وقت. في حي مسنانة، الذي يوجد على طريق الزياتن المؤدية إلى طريق المطار والمركب الرياضي الجديد، نشأت الكثير من الأحياء العشوائية المتشابكة التي تفتقر إلى أبسط مقومات الأحياء المحترمة. في مسنانة توجد فيلات بجوار عمارات رديئة ومنازل بئيسة وكلها على مقربة من واد يفيض بدوره أثناء هطول المطر. وفي كثير من أحياء طنجة، حتى تلك التي توجد في قلب المدينة، توجد مناطق لم تعد تتوفر على أية مناعة ضد الفيضانات، لذلك فإن الناس في المدينة لم يعودوا يخشون هطول المطر لأيام متواصلة، بل هطوله لبضع ساعات متواصلة فقط.