هذه هي المرة الثالثة التي تغرق فيها طنجة في ظرف عام فقط. المرة الأولى كانت في أكتوبر من العام الماضي، وخلالها كانت طنجة على وشك كارثة حقيقية لولا أن الألطاف الإلهية أقفلت أبواب السماء في الوقت المناسب بعد حصر الضحايا في 7 فقط. والمرة الثانية كانت في أكتوبر من العام الحالي، عندما تكفلت أمطار لمدة ساعة بإغراق أجزاء واسعة من طنجة وكأن مسؤولي المدينة لم يستفيدوا أي شيء من فيضانات العام الماضي. والمرة الثالثة هي التي عرفتها وتعرفها طنجة هذه الأيام. «المساء» تنقلت خلال المرات الثلاث في عدد من أحياء طنجة، ونقلت عددا من المشاهد وآراء وانطباعات السكان، الذين يرون أن لا شيء يتغير في المدينة. صار من المألوف في طنجة، أنه كلما تكدرت السماء ببعض السحب الداكنة، يمسك الناس بقلوبهم مخافة أن تنزل الأمطار أكثر مما يجب، فيعاني الناس أكثر من اللازم. إن ما يخافه الناس مع الأمطار ليس مجرد وهم يتخيلونه، بل واقع مرير يعانونه مع كل قطرة مطر، وقد تكرر ذلك عدة مرات في سنة واحدة. يوم الاثنين الماضي عادت الأمطار القوية من جديد، وتذكر الناس معاناتهم الماضية، وتصرف الناس كما يتصرفون دائما، أي أنهم يطلبون من الله أن يلطف بهم، ثم يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبعد ذلك يشتمون المسؤولين والمنتخبين، ثم تستمر الحياة. في صباح الاثنين الماضي، في منطقة «بلاصا طورو»، على الطريق الرئيسية نحو تطوان، كان شبان عاطلون يمارسون مع المطر لعبة «مصائب قوم عند قوم فوائد». كانوا يحملون على ظهورهم المارة الذين لا يريدون أن يتبللوا كثيرا ويعبرون بهم نحو الرصيف الآخر، والثمن هو بضع دريهمات. لكن العمل لم يكن وفيرا لأن الكثير من الناس لم تبق فيهم قطعة غير مبللة، لذلك كانوا يغطسون في الماء كما يغطسون في نهر. قرب ذلك المكان توجد مقهى لها اسم غريب، وهو «قهوة البوليْنات»، والبولينات هو اسم محلي لتلك الأحذية الجلدية الطويلة التي يرتديها الفلاحون والعاملون في الحقول. لقد اكتسبت تلك المقهى اسمها لأن الكثير من سكان الأحياء المجاورة يضطرون إلى لبس البولينات عند خروجهم من منازلهم، لأنه لا توجد هناك طريق معبدة والمكان ملئ بالأوحال، وعندما يصلون إلى الطريق يتركون أحذيتهم الشتوية في المقهى ويلبسون أحذية عادية ويتوجهون إلى أعمالهم، وعندما يعودون من العمل يتوجهون نحو المقهى من جديد ويلبسون «البوليْنات» ويتوجهون إلى منازلهم وسط المياه والأوحال، طبعا بعد أن يؤدوا ثمن ذلك لأن وضع «البولينات» في المقهى ليس بالمجان. العبور ب «الطراكس» في ملتقى الطرق «رياض تطوان»، وهو ملتقى رئيسي يربط بين طرق الرباطوتطوان والقصر الصغير ووسط المدينة، يمتلئ المكان بالماء بسرعة ويتحول إلى مسبح عمومي. كل يوم يعبر عشرات الآلاف من الناس ذلك المكان. السيارات يمكن أن تعبره ببعض العناء، لكن المشاة يضطرون للتضحية عبر الدخول إلى الماء حتى فوق ركبهم. إن الأمر يشبه عبور نهر في أدغال الأمازون أو في نهر من أنهار إفريقيا، مع أن المسؤولين يقولون إن طنجة هي قلب التنمية النابض في المغرب، وهم محقون لأنهم لا يعبرون هذا المكان خلال الشتاء ويقضون أغلب الوقت في مكاتبهم المكيفة أو سياراتهم الفارهة. وفي عدد من ملتقيات الطرق المليئة بالمياه يضطر الناس إلى التشبث بمؤخرات الشاحنات أو سيارات الفارغونيط من أجل العبور من مكان إلى آخر. وهناك العشرات من أصحاب سيارات الهوندا الصغيرة يأتون إلى أماكن تجمعات المياه لكي يحملوا الناس من رصيف إلى آخر، والثمن درهم لكل شخص. وفي منطقة «الشرْف»، تفتقت أذهان الناس عن حل غريب، وهو أنهم وجدوا قربهم «طراكس»، فطلبوا من صاحبه أن يحملهم في «فوهته» وأن يعبر بهم الطريق، وهكذا أصبح الطراكس يقوم بمهمة إنسانية نبيلة. الناس لا يهمهم أن يعبروا بواسطة طراكس أو دبابة، كل ما يريدون هو أن يصلوا إلى منازلهم بأمان عندما تهطل الأمطار، لذلك فهم يتساءلون باستمرار لماذا تتكرر حوادث الفيضانات والغرق في طنجة؟ ولماذا يتصرف المسؤولون والمنتخبون وكأن ذلك لا يعنيهم على الإطلاق؟ الوديان والمجاري.. والسجناء قرب مقر مجلس المدينة، أو فندق طنجة»، كما سماه عباقرة آخر زمن، يوجد واد يحمل الكثير من الروائح النتنة صيفا، وأخطار الغرق شتاء. هذا الوادي لا تفصله عن مقر عمودية طنجة سوى 20 مترا، وهو دليل حي على أن المدينة تشبه طائرة بلا ربان. يوم الاثنين الماضي تحول هذا الوادي إلى نقطة خطر إضافية، وغمرته المياه من كل جانب، وأصبح مرشحا لابتلاع المارة والسيارات، خاصة أنه لا توجد حواجز تفصله عن الطريق، لذلك فإنه فاض يوم الاثنين الماضي على الطريق الرئيسية، ولم يعد ممكنا تمييز الوادي عن الطريق، وتلك هي الكارثة. هذا الوادي لا يتم تنظيفه بالمرة، تماما مثل غيره من الوديان الخطيرة داخل المدينة أو في هوامشها. وإذا كان هذا الوادي يسير بمحاذاة الجماعة الحضرية، فما بالك بباقي الوديان البعيدة. لهذا السبب ولأسباب أخرى يعتقد الناس أنه لا توجد في المدينة أية رغبة من أجل الإصلاح، وأن المسؤولين يجعلون من طنجة طريق عبور فقط، إما نحو مناصب أعلى، أو نحو الثراء المشروع وغير المشروع، أو نحو أشياء كثيرة أخرى. توفيق، شاب في الثلاثينات من العمر، ينظر إلى أحد الوديان الممتلئة ويتساءل لماذا لا يتم تنظيفها قبل هطول الأمطار، ويضيف اقتراحا آخر يتمنى لو يسمعه مسؤولو المدينة ومسؤولو وزارة العدل. «لماذا لا يتم إخراج السجناء من الزنازن المكتظة ودفعهم إلى العمل في تنظيف المجاري والقنوات ومنحهم تعويضا ماديا»؟، يتساءل توفيق، ويضيف «السجناء الذين يبرهنون على حماسهم في العمل يتم تخفيض عقوبتهم الحبسية، وبذلك يتم ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول تنظيف القنوات والمجاري والوديان وتخليص الناس من أخطار الفيضانات ومخاطر الموت، وثانيا دفع السجناء إلى إدراك قيمة العمل وإدماجهم في المجتمع والتقليص من اكتظاظ السجون». المصائد البشرية في شارع مولاي عبد العزيز يتجمع الماء عند أول زخة مطر، لذلك فإن تلاميذ ثانوية محمد بن عبد الكريم الخطابي يجدون أنفسهم محاصرين بالمياه التي لا تترك لهم أي حظ من أجل الوصول إلى منازلهم غير غير مبللين. الماء يصل أحيانا حتى أعلى سور المدرسة، والتلاميذ يخرجون مباشرة من الأقسام إلى «البحر»، وحول هذه الثانوية أكثر من 10 قنوات مياه مفتوحة، والحظ وحده هو الذي يجعل العابرين لا يسقطون فيها حتى الآن. وفي ثانوية علال الفاسي، أخرج التلاميذ مقاعد الدراسة ووضعوها على شكل طريق في ساحة الثانوية وساروا عليها واحدا واحدا حتى وصلوا إلى الشارع، وهناك وجدوا مياها أخرى تنتظرهم. وفي كثير من شوارع طنجة يتصرف الناس كما لو أنهم عميان. يدخلون المياه وهم يمسكون في أيديهم عصيا طويلة من أجل أن يتحسسوا وجود البالوعات المفتوحة التي يمكن أن تبتلعهم في أية لحظة. وفي العام الماضي لعبت هذه البالوعات دورا كبيرا في رفع عدد الضحايا، لذلك فإن الناس يمشون وسط الماء كما لو أنهم يمشون بين أنياب الموت. في أية لحظة يمكن أن يختفوا كما اختفت قبل سنوات تلك المرأة القروية في قلب طنجة ثم ظهرت جثتها بعد أيام في سواحل مدينة سبتة. أحد الطلبة المجازين يشرح قضية البالوعات المفتوحة بطريقته الخاصة. يقول «المسألة تشبه لعبة «الروليتا» الروسية، أو لعبة الموت، حيث يراهن المغامرون على ملء مسدس برصاصة واحدة، ثم يتبادلون المسدس ويضغطون على الزناد، ولا بد أن يموت أحد في كل لعبة». هذا ما يحدث أوقات الفيضانات في طنجة. البالوعات تفتح لابتلاع المياه الفائضة، والناس يدخلون المياه مرغمين، وليس في كل مرة تسلم الجرة. المعتصمون بالجبل! «فيضانات؟.. أين؟».. هكذا تساءل مسؤول في طنجة عندما سألته «المساء» عن السبب الذي يجعل المدينة تعاني من الفيضانات باستمرار. المسؤول يسكن في ربوة بمرتفع في المدينة، والربوة بعيدة عن كل خطر، لذلك فإنه آخر من يعلم بشيء اسمه الفيضان، ويبدو له كأن أخبار الغرق والخطر تأتي من كوكب آخر، وليس من أحياء قريبة منبسطة بلا أية بنية تحتية ولا تجهيزات ولا مجاري كافية. التفاوت الكبير بين أحياء ومناطق طنجة يجعل الكثيرين يندهشون حين يسمعون بوجود شيء اسمه «ضحايا الفيضانات». وفي فيضانات العام الماضي، فإن كثيرين استفاقوا صباحا وسمعوا أن الماء أخذ أرواح 7 أشخاص، فتساءلوا كيف يحدث ذلك، لأن المطر بالنسبة إليهم هو ذلك الرذاذ الذي يبلل نباتات حدائقهم فيعفيهم من ريّها باستمرار. إنهم لا يعرفون البالوعات المفتوحة والوديان التي تفيض على الطرقات والمنجرفات الترابية والمنازل التي تغرقها الأمطار والأوحال التي تقطع الطرقات والتلاميذ الذين لا يستطيعون التوجه إلى المدارس، وأشياء كثيرة أخرى. الذين لا يخافون من شيء اسمه الفيضان في طنجة هم الذين رخصوا من أجل بناء أحياء سكنية في قلب الأودية التي كانت تصرف المياه بشكل طبيعي. وعندما امتلأت بالبشر والإسمنت فإن المياه صارت تفيض في أي مكان، ورغم أن الذين زرعوا الفوضى معروفون، سابقا وحاليا، إلا أن الجميع يمارسون لعبة النعامة وكأن الفاسدين في هذه المدينة يسكنون في كوكب آخر. في طنجة يتحدث الناس بامتعاض عن طريقة تحويل الكثير من المناطق الخضراء إلى مناطق سكنية وأحياء عشوائية، والمسؤولون عن ذلك يعرفهم الجميع. وفي عدد من مناطق المدينة هناك فيلات ملاصقة للعمارات، وهو شيء نادر في مدن أخرى. ويبدو أن عادة الإفلات من العقاب وعدم الملاحقة هو ما جعل مسؤولين في المدينة يرخصون بتحويل مناطق الفيلات إلى مناطق عمارات من دون أن يرف لهم جفن، لذلك من السهل جدا رؤية فيلات تجاور مع عمارات، والذين وقعوا على هذه الرخص لا يزالون إلى اليوم يمارسون عملهم. هناك أيضا مسألة الترخيص ببناء دور وعمارات صغيرة في قلب أحياء شعبية. وفي الوقت التي كانت المنازل في الماضي لا تتجاوز طابقين أو ثلاثة، فإن مسؤولي المدينة يرخصون اليوم ببناء «دور» بأكثر من 6 طوابق في قلب الأحياء الشعبية، وهذا ما يدفع إلى اختناق المجاري بمياه الصرف الصحي ومياه الأمطار، وأيضا ببقايا ومخلفات البناء. إن القنوات أو المجاري التي أعدت من أجل عدد محدود من السكان، أصبحت اليوم غير قادرة على خدمة أعداد هائلة من السكان في رقعة جغرافية محدودة. ويبدو من الطبيعي أن ينظر السكان إلى الفيضانات على أنها ليست فقط من تبعات المطر القادم من السماء، بل أيضا من تبعات فساد قادم من الإدارات ومكاتب المسؤولين في المدينة. لقد تحولت طنجة إلى مزرعة كبيرة للإسمنت، والذين جعلوها كذلك يبنون فيلاتهم وقصورهم في مناطق لا تصلها الفيضانات، وأفعالهم لا تصلها المحاسبة. إنهم الذين آووْا إلى جبل يعصمهم من الماء، وفعلا لم يصلهم الماء.