يضاف إلى هذه العناصر أن تسيير نظام المقاصة يتسم بكونه غير رشيد ويعاني من غياب المتابعة وأنظمة معلوماتية مناسبة بشكل يؤثر سلبا على مدى احترام الالتزامات من قبل المتعاملين، وهو ما أشار إليه تقرير المجلس الأعلى للحسابات عن سنة 2006 في ما يتعلق بصندوق المقاصة، هذا فضلا عن تعدد الوسطاء بين مرحلة الإنتاج أو الاستيراد ومرحلة البيع للمستهلكين، مما يزيد في الرفع من كلفة الدعم، إضافة إلى تنوع المتدخلين في نظام المقاصة وكذا صعوبة المراقبة بالنظر إلى تعدد هيئات الرقابة وغياب التنسيق في ما بينها. إن واقع الكلفة المرتفعة والمتزايدة باستمرار لنظام الدعم طرح ولا زال على السلطات العمومية وعلى مختلف المهتمين البحث عن سبل معالجة الوضعية دون المساس بالتوازنات السوسيواقتصادية التي يحققها هذا النظام، حيث إن الحكومات المتعاقبة حاولت جاهدة معالجة الملف باعتباره إكراها يحد من هامش حركتها في بلورة سياسة عمومية تنموية، كما طرح الموضوع في أكثر من مرة للنقاش العمومي؛ وإذا كانت انعكاساته في الفترة الأخيرة طرحت بحدة التعجيل بإيجاد سبل لمعالجة الوضعية، فإن الحراك السياسي والاجتماعي المواكب للربيع العربي ربما يؤجل مسلسل البحث عن سبل بديلة لهذا النظام خشية تداعيات كل إصلاح على السلم الاجتماعي. 3 - الانعكاسات المتعددة : من إيجابيات نفقات المقاصة بعدُها الاجتماعي أساسا، حيث تندرج ضمن الاختيارات الاجتماعية للسياسة المالية العمومية، وبالخصوص سياسة الإنفاق العمومي، بدعم القدرة الشرائية لشرائح واسعة من المواطنين في مواجهة تقلبات الأسعار، خاصة ذات المصدر الخارجي. ولا يقتصر أثر نظام المقاصة على البعد الاجتماعي بل يحقق أيضا أهدافا اقتصادية، حيث يعطي نوعا من الاستقرار في النشاط الاقتصادي ويحميه من تقلبات الظرفية الاقتصادية، خاصة في ما يتعلق بكلفة الاستثمار والنقل، إضافة إلى كونه يساهم في ضمان التحكم في مؤشرات ونسبة التضخم باعتبارها من ضمن مكتسبات التوازنات الماكرواقتصادية التي استهدفتها سياسات التقويم الهيكلي، إذ إن غياب آليات للتحكم في الأسعار قد يحدث موجة تضخمية قد لا يمكن التحكم في مسارها. إلا أن الإيجابيات المفترضة لنظام المقاصة لا تحجب آثاره السلبية والمتعددة، فهو نظام مرهق لميزانية الدولة ويؤثر بشكل سلبي على قدرة الدولة على بلورة وتحقيق الأهداف التنموية، بخلقه إكراهات وضغوطات على السياسة العمومية التدبيرية وسياسة الإنفاق العمومي، وخاصة الإنفاق الاستثماري، وهكذا فكل ارتفاع في نفقات المقاصة يخلق حاجة متزايدة إلى التمويل تؤدي إلى اللجوء إلى الاقتراض، مما يرفع من حجم المديونية العمومية، ويزيد بالتالي من نسبة العجز في الميزانية. هذه الوضعية تكرس السمة البنيوية للمديونية العمومية في ميزانية الدولة، وتخلق التزامات طويلة الأمد لسدادها وتؤثر سلبا على مستوى الأجيال، وخاصة الأجيال اللاحقة، كما تضعف عنصر الثقة بين المغرب وشركائه الدوليين، وخاصة المؤسسات المالية الدولية؛ فبعد المجهود المضني الذي بذله المغرب لتحقيق التوازنات الماكرواقتصادية، فإن ارتفاع كلفة المقاصة قد تعصف بالمكتسبات المحققة في هذا المجال، حيث تشهد المديونية العمومية مؤخرا بعض الارتفاع في حجمها وكلفتها، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى أزمة مالية عمومية، فالمغرب ليس بمنأى عن الرجات التي تعرفها بلدان متقدمة كدول الاتحاد الأوربي بدءا من اليونان. إن الارتفاع المهول والمزمن في نفقات المقاصة، وبخاصة السمة التي أصبحت تميزها في السنوات الأخيرة والمتمثلة في الاختلال الكبير الذي يحدث بين النفقات الفعلية وتلك المتوقعة، من شأنه تخطيء السياسات العمومية المبرمجة وإدخالها في دوامة النسبية، وتدفع باتجاه تقليص المخصصات لبعض أوجه الإنفاق، ومن أبرز هذه المخصصات تلك المتعلقة بالتجهيز، وهو النشاط الأكثر ارتباطا بالتنمية، مما يعني التضحية بمتطلبات التنمية لحساب التدبير الاستهلاكي. إن هذه الوضعية تدفع السلطات العمومية إلى التسلح بأدوات قانونية لمواجهة الظرفية تحسبا لكل الاحتمالات، بشكل يبدو معه وكأن الأمر يتعلق بحالة أو وضعية طوارئ، حيث فضلا عن الفصول الاستثنائية وإمكانيات الاقتراض داخليا وخارجيا المدرجة في قانون المالية باستمرار، أصبحت ترد في قانون المالية السنوي بشكل دائم مادة خاصة بالمقاصة لمواجهة تقلبات الظرفية. كما أن هذه الوضعية ينجم عنها أيضا المس بصلاحيات الجهاز التشريعي، حيث إن الآليات المذكورة تزيد من هامش الحركة بالنسبة إلى الحكومة على مستوى قانون المالية المرخص به من قبل البرلمان، وتؤدي تلقائيا إلى تقلص صلاحيات الرقابة البرلمانية ما دام الأمر مبررا بالظروف الطارئة التي لا تتطلب العودة إلى البرلمان للحصول على الترخيص مجددا. ومن التداعيات السلبية لنظام المقاصة أنه قد يخلق تواكلا في المجالات وقطاعات النشاط المعنية بالدعم، وخاصة في قطاع الطاقة، بحيث لا يدفع هذه القطاعات إلى بذل مجهود استثماري أو تنموي في المجالات المعنية ما دامت تتمتع بحماية الدولة ولا تعمل في ظل الشريعة العادية، إضافة إلى أن الدولة تضطر إلى تقليص الكلفة عن القطاعات المعنية عبر نفقات جبائية متمثلة في مجموع الإعفاءات والامتيازات الجبائية والتخفيضات لقطاع الطاقة والقطاع الفلاحي على الخصوص، ومن ثم فتأثير نظام المقاصة يطال أيضا النظام الجبائي والسياسة الجبائية. 4 - سبل الحد من الاختلالات: برزت على مستوى التوجهات الحكومية إرادة قوية في السنوات الأخيرة لإصلاح نظام المقاصة، وعبرت الحكومة، في شخص وزارة الشؤون الاقتصادية والعامة، عن انخراطها في سياسة الإصلاح بأخذ الطبقة الوسطى في الاعتبار للحد من انعكاسات الإصلاح عليها، واعتبرت أن الإصلاح يجب أن يتم على درجتين: التحكم في كلفة المقاصة أولا ثم استهداف الفئات الأكثر استحقاقا للدعم. يتم التحكم في كلفة المقاصة بوضع سقف لنفقاتها لا يمكن تجاوزه، إما بالقياس إلى ميزانية الاستثمار أو بوضع نسبة قصوى من الناتج الداخلي الإجمالي، عبر مراجعة بنية الأسعار المحددة قديما لتتطابق مع الواقع الاقتصادي الحالي، مع إمكانية المراجعة المستمرة للأسعار ولكن بشكل انتقائي حتى لا تمس القدرة الشرائية للمستهلكين وكذا النسيج الاقتصادي الوطني. أما المرحلة الثانية من الإصلاح فتتمثل في وضع نظام لاستهداف الفئات الفقيرة، حتى لا يعمم النظام على جميع الفئات بشكل يجعله نظاما لا يصب في مصلحة الفئات الأكثر استحقاقا. وبالفعل، تم اعتماد برامج تجريبية بهدف تقديم الخدمات الاجتماعية بشكل مباشر إلى الفئات المستحقة عوضا عن الدعم الموجه إلى الجميع، وذلك عبر تحويلات نقدية مباشرة ومشروطة، مع استحضار تجارب بلدان اعتمدت نفس الأسلوب، خاصة في أمريكا اللاتينية كما هو الشأن بالنسبة إلى التجربتين المكسيكية والشيلية. ويمكن الإشارة في هذا الإطار إلى برنامجين أساسيين: هما برنامج «تيسير» الذي تشرف عليه وزارة التربية الوطنية والمجلس الأعلى للتعليم، والمتمثل في منح مساعدة نقدية في شكل منح دراسية للعائلات الفقيرة، شرط أن يلازم أطفالها الدراسة، بهدف الحد من الهدر المدرسي، وذلك داخل جماعات محددة ولموسمين دراسيين (موسم 2008/2009 وموسم 2009/2010)؛ أما البرنامج الثاني فهو نظام المساعدة الطبية لفائدة المعوزين عن الفترة الممتدة بين 2008 و2012، كجزء من نظام التغطية الصحية الإجبارية الذي يستفيد منه الأشخاص غير الخاضعين لأي نظام للتأمين الإجباري الأساسي عن المرض وغير المتوفرين على موارد كافية لمواجهة النفقات المترتبة عن الخدمات الصحية، بالإضافة إلى برامج أخرى لا تندرج ضمن إصلاح نظام المقاصة لكنها تحقق نفس الأهداف، كمبادرة «المحفظات» وغيرها. كما عبرت الحكومة الحالية، منذ تشكيلها، عن انخراطها في مسلسل الإصلاح، وخاصة من خلال العزم على إنشاء صندوق للتضامن للإسهام في الدعم، والذي من المتوقع تمويله من قبل الأبناك وشركات الاتصال والتأمين وكذا شركات إنتاج الإسمنت. إن واقع المقاصة بالمغرب وأهدافه المعلنة، المتمثلة في التصدي لوضعية الفقر عبر الدعم، تستوجب البحث عن بدائل لنظام المقاصة الذي يمكن استنتاج أن أفقه مسدود، ويتطلب الأمر بالأساس القيام بمجهود تنموي تندمج فيه على الخصوص الفئات والقطاعات المعنية بالدعم، بهدف تأهيلها للاستغناء عنه. وهنا يمكن طرح تساؤل وجيه: ألا يمكن تعويض التنمية الاجتماعية بالتنمية البشرية، حيث إن هذه الأخيرة قد تحقق نتائج تفوق في جدواها تلك المحققة عبر التنمية الاجتماعية، ذلك أن التنمية البشرية تستهدف التصدي لوضعية الفقر بالحد أو التقليص منها من خلال التأهيل عوضا عن سياسة المعونات التي قد تحافظ على نفس وضعية الفقر، وهذا الاستهداف له أيضا أبعاد وفوائد اقتصادية، إذ من شأنه الرفع من الطلب على المديين المتوسط والبعيد وليس بشكل ظرفي. وقد يستوجب تحقيقُ التنمية المنشودة اعتمادَ خطة كينزية، محصورة حسب خريطة الفقر بالمغرب، عبر مجهود استثماري عمومي في البنيات التحتية، كفك العزلة عن الجماعات القروية الأكثر تضررا بتشييد المسالك والطرق القروية وخلق بنيات الخدمات الأساسية وغيرها من المبادرات التي تندرج في نفس السياق، وتشغيل السكان المحليين في هذه البرامج عوضا عن دعمهم بالدقيق، والاستثمار أيضا في قطاع الطاقة باعتباره القطاع الأكثر امتصاصا لمخصصات المقاصة، وذلك للبحث عن بدائل طاقية أو للتنقيب أو منح نفقات جبائية عن هذا التنقيب لتقليص التبعية الطاقية، وهي كلها إجراءات ومبادرات قد تؤدي على المديين المتوسط والبعيد إلى خلق الظروف المناسبة للاستغناء عن المساعدة بالتأهيل الذاتي للمعنيين بالدعم وانتشالهم من وضعية الفقر. أستاذ جامعي