النقاش حول صندوق المقاصة يظهر و يختفي، حسب أسعار المواد المدعمة في السوق الدولية.. عندما ترتفع أسعار البترول والحبوب في السوق الدولية تبدي السلطات العمومية حماسا كبيرا لإصلاح صندوق المقاصة، لكنها ما تلبث أن تصرف النظر عن الموضوع عندما تنخفض الأسعار، وفي هذا الحوار مع رضوان الطويل، أستاذ الاقتصاد بجامعة مانديس فرانس بغرونوبل، نحاول أن نقارب هذا الموضوع والوقوف على سبل الإصلاح الممكنة التي تحقق مطلب الإنصاف. ارتفعت أسعار البترول إلى مستوى يمكن أن يصل إلى أكثر من مائة دولار للبرميل، في نفس الوقت هناك توقعات بأن يلهب الطلب العالمي أسعار الغذاء،التي تشير التوقعات إلى أنها ستصل إلى أعلى مستوى لها منذ سنتين. ما الذي يفسر هذا الانفجار الكبير للأسعار في السنة الجارية؟
يمكن أن نفسر هذا الارتفاع الكبير للأسعار، الذي يطال المواد الأولية في العالم بعاملين اثنين، فمن جهة، يجب ملاحظة أن الاقتصاديات الصاعدة في العالم تعرف انتعاشة قوية، وهو ما يترجم بعودة الطلب العالمي، الذي من تداعياته التهاب أسعار المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع، فمؤشر أسعار المنتوجات، من قبيل الحبوب والسكر و الزيوت و المنتوجات الحليبية و اللحوم، تجاوز المستوى القياسي الذي بلغه في يوينو 2008. و يعتبر نمو الاقتصاد الصيني في جزء كبير مصدرا لهذا التطور الذي طال أسعار المواد العالمية. ومن جهة أخرى، يمكن أن يعزى ارتفاع كلفة الطاقة و المنتوجات الغذائية إلى تراجع سعر الدولار الأمريكي. و مادامت أغلب العمليات التجارية مسعرة بهاته العملة الصعبة، فإن بعض التعديلات في الأسعار في اتجاه الارتفاع تحدث من أجل تعويض هذا الانخفاض في سعر الدولار. هذه الوضعية مثيرة للانتباه نظرا لفرادتها، حيث إن ارتفاع الأسعار في السوق الدولية يأتي في سياق دولي مطبوع بمفارقة تتمثل في النمو المتواصل لاقتصاديات البلدان الصاعدة و ضعف الانتعاش الاقتصادي في البلدان المتقدمة، التي تجتاز أزمة هيكلية بعد التداعيات المربكة للأزمة المالية و آثارها على الاستهلاك و الاستثمار، و تنذر مخططات التقشف الموازني بتفاقم ذلك النمو الذي يسير بوتيرتين متباينتين للاقتصاد العالمي.
- يبدو أن ارتفاع أسعار المواد الأولية في السنة الجارية سوف يبعث من جديد النقاش في المغرب حول وزن نفقات الدعم في الميزانية العامة، إذ كلما ارتفعت نفقات الدعم تظهر من جديد الدعوات التي توصي بضرورة إصلاحه، بل إن الحكومة تحت ضغط الهاجس المالي، أطلقت الاستشارات حول ذلك، و قدمت دراسة في السنة الفارطة اقترحت سبل الإصلاح.
من أجل الإجابة عن هذا السؤال، يبدو لي من المستحب الانطلاق من مفهوم «نافذة الفرص»، الذي يستعمل كثيرا من قبل المؤسسات الدولية و الإدارات الاقتصادية الوطنية. ويحيل هذا المفهوم على الحالة التي يستفيد فيها صاحب القرار الاقتصادي من الأزمات أو الظرفيات الصعبة كي ينفذ مجموعة من القرارات التي يصعب أن تحظى بالقبول سياسيا من قبل الفاعلين الاجتماعيين في الظروف العادية. ففي سنة 2008، أطلقت السلطات العمومية النقاش حول نظام المقاصة في المغرب، حيث ركزت على ثلاثة اختلالات: يتمثل الاختلال الأول في تصورها في عدم الفعالية الناجمة عن الفوارق على مستوى أسعار المنتوجات المدعمة و العوائق أمام المنافسة، التي تفضي إلى وضعيات الريع. و يتجلى الاختلال الثاني في عدم الإنصاف المرتبط بكون دعم المنتوجات الأساسية تستفيد منه الفئات الغنية أكثر من الفئات الفقيرة التي يفترض أن يرصد لها. ويكمن الاختلال الثالث في الضغط على تحملات الميزانية، الشيء الذي يمس بالاستقرار الماكرواقتصادي.على قاعدة هذه الملاحظات، ارتأت السلطات العمومية ضرورة فتح نافذة تفكيك الدعم عند الاستهلاك، و تعويضه بسياسة المساعدة في إطار الاستهداف، التي ترمي إلى منح مساعدات و تحويلات نقدية تكون مشروطة بالولوج إلى خدمات التربية و الصحة.
- ذلك تشخيص و تلك حلول لا يختلف حولها الكثير من الفاعلين في المغرب بالنظر إلى حجم نفقات الدعم، حيث يبدو أن هذا الخطاب أصبح يتقاسمه تقريبا الجميع.
يبدو لي أن التشخيص والتوصيات التي يفضي إليها قابلة للنقاش، على اعتبار أنه يقلل من مزايات نظام المقاصة. يجب أن نشير إلى أن التضخم المستورد يضطلع بدور مهم في ارتفاع الأسعار. هكذا يفترض أن ندرك أنه بفضل الدعم يتم، أولا، التخفيف من التضخم، الذي يصل إلى 2 في المائة. وحسب بعض التقديرات، سوف يرفع إلغاء الدعم التضخم إلى 8 في المائة، ويتيح الدعم، ثانيا، تقليص التقلبات على مستوى التضخم و تجنيب الاقتصاد الوطني التغيرات التي تطرأ على أسعار المنتوجات الغذائية و الطاقة في السوق العالمية، ويخول الدعم، بالنظر إلى آثاره في إعادة التوزيع لفائدة الفئات الفقيرة، الحيلولة دون تردي القدرة الشرائية.
- هل سياسة الاستهداف سوف تلغي هاته المزايا؟ يجب أن نشير إلى أن سياسات استهداف الفقر سوف تكون قاصرة عن محاربة الفقر وخلق شروط الإنصاف. فاستهداف الدعم يمكن أن يكون له أثر آني متمثل في تدهور القدرة الشرائية للساكنة، التي لن يكون لها الحق في الاستفادة من نظام المساعدة، مما سيهوي بها إلى ما دون عتبة الفقر. في نفس الوقت فإن تحديد الفئات، التي يفترض استهدافها و تنظيم المساعدة على شكل تحويلات نقدية أو عينية، سوف يؤدي إلى توسيع مجال الممارسات ذات الصلة بالرشوة. - لكن هل الظرفية الحالية يمكن أن تدفع الحكومة إلى فتح نافذة الفرص التي تحدثت عنها؟ أتصور أن ارتفاع الأسعار العالمية حاليا لا يمكن أن يحفز الحكومة على فتح نافذة الفرص، إذ لا يمكن أن تستبعد في هذه الحالة احتمالات التوترات الاجتماعية. فمنظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة تحذر من أحداث يذكيها الجوع في العالم. وما وقع ويقع في تونس والجزائر يعطي البرهان على المخاطر التي تنجم عن تدهور القدرة الشرائية وتفاقم الفوارق. - هل الهاجس المالي هو الزاوية الوحيدة التي يتوجب النٍظر منها عند الرغبة في إصلاح نظام الدعم؟ إذا أخدنا بعين الاعتبار معايير الفعالية والإنصاف، يكون من اللازم إعادة توجيه سياسة الميزانية عبر الأخذ بعين الاعتبار المنطق الماكرواقتصادي. فالمنطق المحاسبي يشكل زاوية معالجة سيئة. هكذا يعتبر التوجه الرامي إلى حصر نفقات الدعم في مستوى معين، كما توصي بذلك بعض التقارير التي تنجز بطلب من الحكومة، قابلا للنقاش، أولا، لأن تحديد سقف معين ينطوي على نوع من التعسف، و ثانيا، لأنه يؤدي إلى نوع من الصلابة، التي تحول دون القيام ببعض التعديلات و التقويمات الضرورية تجاوبا مع بعض الصدمات والأزمات، التي تقتضي رفع سقف تلك النفقات إلى ما فوق 3 في المائة، وثالثا، لأن تحديد سقف النفقات يغفل الدرس المستخلص من تجربة المغادرة الطوعية في الوظيفة العمومية، التي كان هدفها تقليص نفقات التسيير على مستوى الميزانية العامة ب 10 في المائة، لكن كلفتها كانت مرتفعة على اعتبار أنها أفضت إلى فقدان العديد من الأطر في الوظيفة العمومية وتدهور جودة الخدمات العمومية. وأتصور أن المكون الجبائي في سياسة الميزانية يجب أن يندرج في إطار التخفيف من الفوارق. إذ لا يجب أن تنحصر محاربة الفوارق في استهداف الفقر، بل تتطلب توجها نحو إعادة التوزيع الجماعي، مما يسمح بمعالجة الفوارق على مستوى المخصصات، ويمنح الساكنة الفقيرة إمكانيات القيام باختيارات والاستفادة من الفرص خلال حياتها. - كيف يمكن أن تسهم سياسة الميزانية في إعادة التوزيع الجماعي الذي تتحدث عنه؟ يمكن أن تتم تعبئة السياسة الجبائية، في إطار سياسة فعالة لإعادة التوزيع، كفيلة بأن تخلف علائق حميدة بين شروط النمو المستدام و التنمية البشرية، مما يعني أن مسألة إعادة التوزيع يجب أن تحتل مكانة مهمة في السياسات الظرفية و الإصلاحات الهيكلية. إذ يجب أن تستند على تصاعدية الضريبة و رفع مستوى النفقات العمومية التي ترصد للتربية و الصحة. من أجل بلوغ ذلك يجب أن يعاد النظر في الضريبة على الدخل، بما يحقق تصاعدية تراعي مبدأ الإنصاف. ضمن نفس الرؤية يستحب رفع الشطر المعفى بهدف إعفاء الشرائح ذات الدخول الضعيفة من الخضوع للضريبة المباشرة، خاصة الأجراء الفقراء. وقد يمكن اعتماد معامل أسري، يأخذ بعين الاعتبار عدد العاطلين، الذين تعيلهم الأسرة الواحدة، من تحديد الخصوم التي يفترض القيام بها على مستوى الوعاء الجبائي. ويمكن رفع عدد الشرائح و مراجعة المعدلات في سبيل ملاءمة المساهمة مع قدرة المساهمة. ويفترض مبدأ الإنصاف تبني ضريبة على الثروة. إذ بالإضافة إلى مردوديتها الهامشية التي لا يمكن إغفالها، تكمن الإيجابيات التي تنطوي عليها، في مردوديتها الاجتماعية. زيادة على ذلك، من المستحب إخضاع الإعفاءات و الأنظمة الاستثنائية الجبائية لقواعد واضحة بالنظر إلى مستواها و طبيعتها، وهذا ما يجب أن يراعى عند إصلاح نظام الضريبة على القيمة المضافة. ويجب أن ينصب إصلاح الضريبة على الشركات على توسيع الوعاء عبر إلغاء الإعفاءات و التخفيضات، التي تصل إلى 80 في المائة من رقم المعاملات. و أتصور أن ربح رهان التنمية البشرية لا يمكن أن يأتي من الفضائل التي تخلع على السوق، فكما يقول جوان رونسون: «اليد الخفية تنجز عملها، غير أنها يمكن أن تقوم به بالخنق».