- أشاد البنك العالمي في تقريره الأخير حول الاقتصاد المغربي بتدعيم المغرب لتوازناته الاقتصادية الكبرى، لكنه لاحظ أن النمو المحقق غير منصف، وهو ما يؤشر عليه استمرار الفوارق الاجتماعية والفقر... < يلح إجماع واشنطن على أن هدف صاحب القرار السياسي يجب أن يتجلى في الحفاظ على استقرار الإطار الماكرو اقتصادي، إذ يتوجب عليه أن يضع أسس تقليص عجز الميزانية، والتحكم في التضخم، والحفاظ على المديونية في حدود معينة. وبتحقيق شروط ماكرو اقتصادية سليمة، يتيح الاستقرار الماكرو اقتصادي، عبر توسيع الاستثمار الخاص والتشغيل والمداخيل، استعمال الموارد بطريقة فعالة، مما يكفل توليد آثار إيجابية، تظهر في زيادة المداخيل والشغل وتحسين مستوى، عيش الفقراء. الحجة التي تساق لتبرير هذه الأطروحة تقوم على أن السوق هو الوحيد الذي يخلق آلية حميدة للنمو وتقليص دائرة الفقر، بحيث يفترض في صاحب القرار العمومي تفادي إفساد عمل السوق، بمبادرات لإعادة التوزيع باسم الإنصاف، فالسوق معترف له بقدرته على ضمان توازن التشغيل الشامل للموارد والإنصاف، ونحن نقرأ في تقارير البنك العالمي منذ نهاية الثمانينيات أن «العمل الجيد للأسواق يولد، غالبا، وبطريقة طبيعية، عدالة اجتماعية كبيرة..» حسب التقرير الأخير، الذي أفرده البنك العالمي للمغرب، والذي رسخت بعض مضامينه مؤخرا، يتجلى أن التدبير الماكرواقتصادي سليم، لكنه يفضي إلى نمو غير كاف، تواكبه تفاوتات على مستوى المداخيل وفقر. - لكن هذا تشخيص يعترف به الجميع.. < عند إمعان النظر في هذا الطرح نجده ينطوي على تناقض أساسي: استحالة تأمين الاقتصاد المغربي في نفس الوقت للدخل والتحكم في العجز العمومي والتضخم. فالنشاط تكبحه القواعد الموازنية والنقدية. وهي قواعد تبدو مناقضة للإنتاج، على اعتبار أن الكلفة التي تتولد عنها على مستوى النمو والتشغيل والرفاه الاجتماعي جد مرتفعة. ضمن هذه الشروط، يطرح تساؤل مزدوج حول جودة استقرار الإطار الماكرو اقتصادي، على مستوى النمو والإنصاف. يفرض التحكم الصارم في التضخم التضحية بالإنتاج والتشغيل. فالمستوى المرتفع لمعدلات الفائدة، الذي يفرضه هدف استقرار الأسعار، أفضى إلى ضعف القروض الموجهة للاستثمار، وينضاف إلى هذا الأثر رفع التحملات المالية للمقاولات المدينة. مما ينجم عنه تدهور مردوديتها ويقلص فرص وفائها بما في ذمتها ويضعف قدرتها على الاقتراض. ولم يؤد خفض معدلات الفائدة، الذي انخرط فيه البنك المركزي منذ أربع سنوات، إلى خفض كلفة القرض. وبعيدا عن تدعيم التنافسية، قاد إصلاح النظام البنكي والمالي إلى توافقات، من بين آثارها ارتفاع كلفة الاستثمارات الممولة عبر القرض البنكي، ذلك أن انعدام التناغم بين السياسة النقدية وإصلاح سوق القرض يعزز مبررات الركود، إذ علاوة على كون تليين الآلية النقدية غير فعال، لم يساهم الإصلاح في تشجيع النشاط. بدورها تقود قاعدة التحكم في العجز العمومي إلى ضعف فعالية السياسة الموازنية، فالمقاربة التدبيرية للمالية العمومية تمنع ممارسة الآثار التثبيتية كما التوزيعية للعجز، فالتمسك بتلك القاعدة، أيا كانت الظرفية الاقتصادية، يضر بالاقتصاد على اعتبار أن صاحب القرار يحرم نفسه من اتخاذ إجراءات كفيلة بمعالجة التقلبات ودعم النشاط. من جانب آخر، لا يتيح استقرار الإطار الماكرو اقتصادي آثارا إيجابية في ما يتعلق بتقليص دائرة الفقر، إذ إن الصرامة الموازنية لا تترك مجالا لمبادرات إعادة التوزيع التي تروم تحقيق تدهور الفوارق الاجتماعية، فصاحب القرار العمومي يفرض على نفسه حدودا تقلص من دائرة ممارسته للمسؤولية الاجتماعية، في سياق تتضافر فيه هشاشة النمو والعوائق الموازنية والنقدية، مما يؤشر على اتساع دائرة الفقر. - ضعف جودة استقرار الإطار الماكرو اقتصادي، كما تلحون على ذلك دائما، يدفع إلى التساؤل حول الجدوى من تطبيق السياسة الاقتصادية لقواعد صارمة.. < الواقع أن البنك العالمي يوصي بضرورة الإمعان في الصرامة الموازنية عبر الإلحاح على تقليص كتلة الأجور في الوظيفة العمومية إلى 10% من الناتج الداخلي الخام. فعملية المغادرة الطوعية توضح، على هذا المستوى، الآثار السلبية لرهن السياسة الموازنية بمؤشر، يجعل تحقيق النمو مشروطا بحصر العجز العمومي. لقد قدمت عملية المغادرة الطوعية كمصدر للاقتصاد في النفقات الجارية، حيث كلفت 10.5 ملايير درهم، ومثلت 1.5% من الناتج الداخلي الخام، في سبيل تقليص كتلة الأجور التي تمثل 13% من الناتج الداخلي الخام، غير أن الاقتصاد الوطني عرف بسبب المغادرة «نزيفا» على مستوى «الرأسمال البشري» في قطاعي الصحة والتعليم اللذين يعترف، تقرير البنك بآثارهما على النمو في المدى الطويل وعلى التنمية البشرية. إجمالا، تضحي أولوية الاستقرار الماكرو اقتصادي بهدف الإنصاف، عبر وضع التشغيل ومحاربة الفقر في المرتبة الثانية. - يعتبر البنك العالمي أن تسريع النمو الاقتصادي يتطلب مرونة في سوق الشغل ودعما للأنشطة التصديرية وتوسيعا لإصلاح المؤسسات.. < تنطوي المرونة في سوق الشغل على خطر على الأجور وتنذر بتوسيع الفقر الأجري. وهذا من شأنه أن يعزز ضعف المنافذ بالنسبة إلى المقاولات، ويدعم ضعف الاستهلاك ويحد من الاستثمار، ومن شأنه بالنتيجة أن يضر بالنمو. ولا يمكن أن يفضي هذا سوى إلى تدعيم آليات الحلقة المفرغة على مستوى التنمية البشرية، أي إلى تعزيز ضعف الدخل، والمساهمة في عدم تلبية الحاجيات الأساسية، والحد من نفقات التربية والتكوين وتعميق الهشاشة. هذه الآثار السلبية الناجمة عن مرونة سوق الشغل هي تعبير إضافي عن تناقض آخر في خطاب البنك العالمي، والذي يتجلى في هذا التنافر بين مرونة سوق الشغل وهدف محاربة الفقر. وبدورها، تستدعي مواصلة تفكيك الحماية التجارية، الذي يدعو إليه البنك العالمي، تحفظات حقيقية، فمن الضروري تسجيل أن إدارة تقييم عمليات البنك العالمي أشارت إلى الحصيلة السلبية للإصلاحات التجارية الخارجية المطبقة من 1987 إلى 2004 في البلدان السائرة في طريق النمو، إذ إن مقارنة تطور النمو والصادرات والدخل الفردي والعجز الجاري أو الدين تشير إلى أن بلدانا استفادت من دعم البنك العالمي كانت نتائجها سيئة مقارنة ببلدان دبرت انفتاحها بدون البنك العالمي. - ضمن أية فئة يوجد المغرب؟ < لا يشذ المغرب عن البلدان التي فشلت، خاصة وأن إصلاح التجارة الخارجية والسياسة الماكرو اقتصادية، لا يجري التنسيق بينهما. فتنمية القدرة التصديرية يقتضي استراتيجية للإنعاش الصناعي مستندة إلى منح القروض ومقتضيات جبائية محفزة واستثمارات عمومية مباشرة. غير أنه يبدو أن صاحب القرار العمومي، المتمسك بالسياسة النقدية والموازنية، غير مستعد لتبني هذه الاستراتيجية. فسياسة النظام البنكي لا تتيح للمقاولات، الخاضعة لإكراهات القرض، مواجهة متطلبات الانفتاح. والقدرة على التصدير يعرقلها غياب ملاءمة الحماية الجمركية للقدرة على الاندماج الدولي. والأزمة التي تمخضت عن إلغاء نظام الحصص الذي كان معمولا به على مستوى واردات النسيج ذات دلالة كبيرة على عدم ملاءمة العرض للطلب الخارجي. وهذا، يؤشر على غياب التناغم بين الإصلاحات الهيكلية والسياسة الاقتصادية. فمن جهة، لا يساعد رصد الموارد العمومية على بلورة سياسة تحفز الإبداع الموجه لدعم نمو الإنتاجية، ومن جهة أخرى، يعرقل التوجه إلى تحقيق التنافسية عبر الأسعار على حساب التنافسية البنيوية، توجيه الآلة الإنتاجية نحو المنتوجات ذات القيمة المضافة العالية. ويفضي ضعف قدرة المقاولات الصغرى والمتوسطة على الاقتراض إلى المس بقدرة البحث التقني والتحكم في التسيير والرفع من جودة المنتوج. وتستند توصية البنك العالمي بتني استراتيجية، تتمحور على الصادرات إلى حجة مفادها أن مساهمة الاستهلاك الداخلي في النمو تتجه نحو التراجع. وهذا المبرر يغض الطرف عن كون محدد حجم السوق الداخلي يتمثل في القدرة الشرائية، فالحد الأدنى للأجور عرف زيادة بنسبة 1 في المائة في المتوسط السنوي بين 2000 و2004. وبالنظر إلى وتيرة التضخم، تآكلت القدرة الشرائية لأولئك الذين يتلقون الحد الأدنى للأجر ب 0.4 في المائة. فضعف الأجور يؤثر على شروط النمو الاقتصادي المنصف، والطلب الداخلى تكبحه التفاوتات في الأجور. ويواكب ضعف الطلب ضعف الآثار التوزيعية لفائدة الفئات الفقيرة، مما يزج بالاقتصاد في فخ التخلف. وكما أوضح ذلك داني رودريك، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، يستدعي الإقلاع الاقتصادي، في غالب الأحيان، حدا أدنى من التغيرات في الأشكال المؤسساتية، فمن بين 80 مرحلة لتسريع النمو عرف بلد واحد من بين سبعة ارتفاعا للنمو بنقطتين. غير أن رودريك يشدد على أن هذا النمو ليس نتيجة للتحرير والانفتاح الاقتصادي، ولكنه جاء ثمرة لتقليص الإكراهات التي تحول دون تنمية الاستثمار. تحليل كهذا يجب التمعن فيه، لأنه يدفعنا إلى التفكير في، الخطاب الذي يرى في التنمية منتوجا أوتوماتيكيا للمؤسسات الحامية لحق التملك. فالحمولة الإيجابية لمصطلح الإصلاحات تنحو نحو إبعاد الشك والنقاش. والحال أنه لا يكفي الانخراط في تغييرات مؤسساتية من أجل دفع عجلة النمو، ونموذج الصين أصدق مثال على ذلك، فالنتائج التي يحققها اقتصاد هذا البلد لا يمكن أن تعزى إلى نظام حماية الملكية، فهو من الأكثر تخلفا في العالم. - التقرير يرسل رسالة يعتبرها استراتيجية، ومفادها أن المرور إلى سياسات تخدم مصالح الفقراء أمر ضروري.. من أجل تسريع النمو وبناء مجتمع أكثر إنصافا. < يستند هذا الخطاب إلى فكرة مفادها أن غياب الإنصاف يعود إلى أن بعض المؤسسات، مثل نظام المقاصة، جد مكلفة ولا يستفيد منها سوى الأغنياء. مما يفترض تفكيك الدعم للمواد الأساسية وتعويضه بمنح نقدية مشروطة للولوج إلى خدمات التربية والصحة. ورغم المظاهر، فإن «الأولوية المعطاة للمهمشين» تنسجم مع الثقة العمياء في السوق. ويخدم ذلك هدف الحكامة الجيدة التي تقوم على تحرير قوى السوق، من العوائق العمومية والتحكم في النفقات العمومية. وسياسة الدعم الذي يستهدف فئة معينة تنسجم مع السياسة العمومية التي ترى أن محاربة ظاهرة الفقر لا يمكن أن تتم سوى عبر استهداف ساكنة بعينها. من زاوية النظر هاته، يبقى البنك العالمي وفيا لمبدئه الذي يلح على أن السياسة الماكرو اقتصادية، لا يمكن استعمالها لأهداف اجتماعية أو من أجل إعادة التوزيع. هذا الفصل التعسفي بين القرارات النقدية والموازنية وآثارها الاجتماعية، وبالنتيجة الحقوق الاجتماعية، لا يمكن قبوله. وكما يقول جون بول فيتوسي وبيير روزنفالون: «كل سياسة اقتصادية لها، بشكل ضمني أو صريح، غاية اجتماعية، فهي تؤشر على مشروع اجتماعي، ولا يمكن أن يجري تقييمها خارج المجال الديمقراطي، كما لو كانت سوى تطبيق لمبدأ تدبيري». وإذا نظرنا إلى نتائج الاقتصاد المغربي على ضوء هذه الرؤية، يتجلى أن سياسات التقويم الهيكلي والاستقرار الماكرو اقتصادي تفضي إلى اللامساواة والإقصاء الاجتماعي. فإذا حددنا الفقر من منظور ظروف المعيشة، تبدو دائرته جد واسعة، إذ إن تدني مستوى الأجور والشغل المؤقت والموسمي والعمل الأسري في وحدات صغيرة، عوامل حاسمة في الفقر الذي يطال الفئات الأكثر هشاشة في سوق الشغل. ويؤشر التفاوت في مستويات المعيشة على الفوارق الموجودة في الوصول إلى الاستهلاك ، ف50 في المائة من الأسر الأكثر فقرا لا تنجز سوى 24 في المائة من إجمالي النفقات، ولا تمثل نفقات 10 في المائة من الأسر الأكثر فقرا سوى 2.35 في المائة من إجمالي النفقات. ويتجلى أن الأفراد الذين لا يمكنهم الاستثمار، بسبب شح الموارد في قدراتهم، يعبرون عن طلب ضعيف على التربية، مما يقلص إمكانيات الاندماج. وفي هذا السياق، يعبر العجز الاجتماعي عن حرمان من الحريات التي تمس بالفرص التي تخول للفرد التوفر على عدد من الخيارات. وهذا العجز يعوق ممارسة الحقوق وينعكس على القدرة الإنتاجية التي تزج بالاقتصاد في فخ ضعف مستوى النشاط. وبالنظر إلى هذه الرهانات، تنطوي سياسات الدعم الموجه إلى فئة معينة من الفقراء، كما تشير إلى ذلك تجارب بلدان في أمريكا اللاتينية مثل المكسيك أو البرازيل، على، خطر عرقلة ممارسة المواطنة الاجتماعية عبر الحقوق الاجتماعية وتأهيل الإجابة عن سؤال «ماهي الحياة الجيدة؟».